فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الشخصية الإسلامية .. على نهج النبوة

      الحمد لله الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه سلم وبعد

      (1)

      تتطبع الشخصية الإنسانية عادة بتلك البيئة الحضارية والثقافية التي يحيا بها صاحبها، فترى أقواله وأفعاله وتصرفاه ومشاعره، ناشئة من رحم تلك الثقافة دون أن يشعر بأي تكلف أو تصنع لهذه الأقوال أو الأفعال أو التصرفات. ومن هنا عرف علماء الاجتماع الثقافة بأنها "هي تصرف الأفراد بشكل متماثلٍ دون شعور"[1]. فهي إذن مجموعة الطرق التي ترسمها الجماعة الإنسانية، فتستقر في عقول وقلوب أبنائها، وتنطبع بها فكرهم وعملهم، وتصبح لهم فطرة ثانية، بل فطرة قائدة.

      والمسلمون ليسوا بدعاً من ذلك الأمر الذي هو سنة من سنن الله الكونية. بل هم كغيرهم من الأمم، تنطبع تصرفاتهم وأقوالهم وأفعالهم ومشاعرهم بالبيئة المحيطة، أي الثقافة التي ينشؤون فيها، فيحبون ما يحب الغير، ويكرهون ما يكره الغير، ويتمثلون بأقوال وأفعال كبرائهم، دون أن يشعروا.

      ومن هنا، فإن الله حين أنزل الرسالة، لم يرسلها كتاباً يتلوه رسول الله صلى الله عليه سلم، ويعلمهم تفاصيله. بل جعلها حياة يحياها رسول الله صلى الله عليه سلم بينهم، ونجّم القرآن تنجيماً ليبني هذه الثقافة، بالتوازي مع سنة رسول الله صلى الله عليه سلم، فتتكون تلك البيئة، وتسود تلك الروح الثقافية السارية، بين الناس، فنشأ جيل الصحابة مشبعاً بتلك الروح الثقافية الحضارية، قولاً وفعلاً وشعوراً. وهذه الروح الثقافية الحضارية هي ما تعودنا أن نسميه "المنهج". وهو الذي عرّفته في كتابي القادم[2] بإذن الله، بأنه "المناحي العقلية والمسلمات المنطقية، المبنية على قواعد الشرع الكلية ومعطيات العقل الضرورية، التي يسلكها العقل للنظر في الأحداث الواقعة، ويستدل بطرقها على حكم الشريعة في تلك الأحداث".

      ثم، حدث الخلل، تدريجياً، وتشبعت البيئة الحاضنة للشخصية الإسلامية بمكدرات لا حصر لها، من بيئات الفتوحات، فصارت الروح الشخصية الإسلامية أضعف، حتى وصلت على ما نحن فيه اليوم من انهيار تام وذوبان في الثقافات العلمانية المحيطة.

      (2)

      والقصد هنا هو الإشارة إلى منحى هام وأوَّلى من ذلك النهج النبوي الذي أنشأ تلك البيئة الفريدة الحاضنة، لأفضل جيل عرفته البشرية. ذلك المنحى هو التكامل في بناء الشخصية الإسلامية على النهج النبوي.

      ذلك أن ما حدث من خلل في التركيبة، لتعدد مصادر تلقيها، مع بقاء الرغبة في التمثّل بالحياة السنية الصحيحة أن ظهرت النظرة المفككة" للشخصية الإسلامية. وهو أمرٌ طبيعي حين تتعدد المصادر وتتشابك وتتعارض. وهو ما أدى في العصور السابقة لعصرنا إلى شيوع الفسق، جنبا إلى جنب مع وجود العلم والعلماء. وما ذلك إلا لتفتت الشخصية واجتزاء النهج النبويّ، بدلا من أن يكون متكاملاً ينشأ عنه إنسان سويّ متجانس.

      وكان من نتيجة ذلك أنّ تلك الرغبة الباقية في قلوب من لم تتحلل شخصيته الإسلامية تحللاً تاماً، وبقيت فيه بعض الرغبة في أن يكون على "منهاج السنة"، أن نظر إلى السنة تلك النظرة "المفككة"، فظن أن شخصية المسلم تتكون من خلال النظر الجزئي إلى مركبات السنة، والتعامل معها. فمثلا، تجده يبحث عن أحاديث الوضوء أو الطهارة أو الربا أو أحكام الجهاد أو غيره من "أجزاء السنة" و"مفردات الشريعة"، يطبقها جزئية جزيئة، مع بقاء الخلفية الثقافية التي كونت شخصيته الإنسانية في المقام الأول، والتي هي مركبات من ثقافات عدة متنافرة متضاربة. فينشأ من هذا الخليط، نفسية مضطربة مفككة متحللة، تركن في كثير من تصرفاتها لأحكام البيئة التي زرعت فيها طرق فهمها وتوجهاتها الأساسية، ثم تراها تفعل "القص واللصق" مع مفردات الشريعة، تريد أن تجد لها مكاناً في ذلك الخليط المتنافر. ومن ثمّ، تنشأ شخصية غير متوازنة، وغير متجانسة، كالإنسان المركب "فرنكنشتاين"، الذي أراد موجده أن يسويه رجلاً، فشوّه صورته، وجعل الصغير في الجسد كبيراً والكبير صغيراً.

      (3)

      من ثم، وباعتبار ما ذكرنا، فإن الشخصية الإسلامية السوية، لا يمكن أن تنشأ في مثل هذا الجو المضطرب المخلط. بل هي نتاج تجانس[3] اجتماعي وثقافي يضع المفردات الشرعية والخلقية في موضعها من البناء الشخصيّ، دون زيادة أو نقص، بل بالنسب التي ارتضاها كما وقعت في التركيبة الجسدية للإنسان "الذي أحسن كل شيء خلقه".

      ذلك ما حدث في نشأة الجيل الفريد، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم. فأمر تكوين الشخصية، هو أمر ممارسة ومعايشة ومتابعة، قبل، وأهم من أن يكون أمر دورات علمية ومعلومات تحصيلية.

      لذلك ترى الفشل في غالب التركيبات الجماعية في "الجماعات الإسلامية". بغض النظر عن الخلل العقديّ. فالجماعة التي ينطق أبناؤها يسرق أبناؤها، بغض النظر عن السبب، هم ذوي شخصية سارقة أصلاً، ومن قتل فيها فشخصيته شخصية قاتل، وإن رأيته ملتحيا مقيماً للصلاة، فتلك هي المفردات التي لم يَحْسُن تسكينها في موضعها من الشخصية الإسلامية، فخرج "المسلم" مشوهاً مفككاً، يعمل بمفردات شرعية تجعله يشعر إنه المسلم السني الحق، ثم تغلُب عليه أحكام البيئة المشوهة المخلطة من ناحية، وما عليه طبعه، سلباً أو إيجابا، من ناحية أخرى. بل إنّ هذا التشوه قد أصاب القادة، بل الدعاة، بل بعض مدعى العلم، إذ هم وليدي نفس البيئة والمعطيات، فما بالك بالأفراد والعوام.

      الشخصية المسلمة السنية القويمة، هي نتاج حياة وممارسة ومعايشة، تهذب وتشذّب، وتضبط وتحكم، وترخى وترسل، حسب المواقف والحالات والأحداث، وهي دائما في إطار كليات الشريعة، التي ترسم منهج الحياة، لا تعمل بمفردات شرعية، ثم تهمل كلياتها، كما أوضحنا مسبقاً في أصل بلاء أهل الأهواء.

      فإذا تمّ هذا الأمر، تكونت الشخصية المسلمة السنية التي غابت عن ساحة الإسلام قرونا، تدريجياَ، حتى أصبحت اليوم نادرة ندرة اللؤلؤ في الصدف.

      يجب أن يفهم أبناء الحركة الإسلامية خاصة، والمسلمون السنة عامة، موضع الضعف الذي نواجه، ومن ثم نعرف لِمَ نحن مهزومون، على كلّ الجبهات، ولِمَ نجد في حركات يُفترض إنها إسلامية كالعوادية الحرورية، قتلة ولصوص وسوء خلق ولسان. ونجد في حركات أخر كالإخوان، ضعفاً وتردداً وحيرة وتغيّب عن الواقع. وكلها حركات نشأت من هذه التركيبة التي وصفنا. إلى جانب أنّ أصحاب الطبع المتقارب من العنف وسفك الدماء والتعدي على الحقوق، يجتمعون تحت لواءٍ واحد، وأصحاب الطبع المتراخي المنبطح المستسلم يجتمعون تحت راية واحدة[4]، وكلهم يتصيّد مفردات شرعية وأحاديث نبوية يتكئ عليها في اعتقاده إنه بالسير عليها سيكون صاحب الشخصية السنية القويمة ... وهيهات!

      إن هذا الفهم لأصل مشكلة الشخصية الإسلامية يجب أن يكون محل دراسة ونظر للقادة المخلصين، ممن اصطفاهم الله فأنجاهم من درك التخليط والتفكك في الشخصية، فهم كالدرّ بين أحجار صماء.

      والمنهجية التي يجب ن تُتّبع في بناء الشخصية الإسلامية يجب أن تتعامل مع أصل النشأة، وتحديد مواضع الإصابة ومواطن الخلل في كل عنصر يريد أن يكون ضمن حركة إسلامية سنية، ثم تقديم العلاج المناسب للشخص المناسب، تماماً كما فعل رسول الله صلى الله عليه سلم مع أبي ذر، فيما رواه مسلم قال "يا أبا ذرّ إني أراك ضعيفًا وإني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، لا تأمُرَنّ على اثنين ولا تَوَلَيَّنَ مالَ يَتيمٍ" فقد تفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حال أبي ذر رضى الله عنه، ووجهه إلى خلل في الشخصية الطبعية، لا يخلو إمرئ من مثلها، فأصلحها ووجهها.

      والله ولي التوفيق

      د طارق عبد الحليم

      17 صفر 1436 – 9 ديسمبر 2014


      [1] “Without knowing it, they all behave alike”.

      [2]  "التقريب في توضيح الموافقات - معالم في المنهج"

      [3] coherence

      [4]  وقد تحدثت عن هذه الظاهرة بتوسع في كتاب "مقدمة في اباب اختلاف المسلمين وتفرقهم"، المنشور عام 83، http://www.tariqabdelhaleem.net/new/upload/attach/1288543981ikhtilaf.pdf