الأخطاء التي يجب الحذر والتحذير منها في فكر الحرورية
إن الحمد لله نستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأصلى وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد
(4)
عدم اعتبار الاستثناءات في الشريعة الإسلامية
انتهينا في المقالين السابقين إلى بيان أصلين منحرفين من مناحي الحرورية في التفكير، وهما اعتبار الجزئيات دون كلياتها، واعتبار الكليات والعمومات دون جزئياتها ومخصصاتها.
والمنحى الثالث الذي يلحق بهما هو عدم اعتبار الاستثناءات في الشريعة الإسلامية، وتقدير الفرق بين العذر والرخصة والاستثناء والأدلة الشرعية الاجتهادية في المصلحة والاستحسان، وعلاقتهما بالتقييد والتخصيص. وهو أمر لا يعتبره أو يتصدر له إلا عالم حقٍ.
فالعذر في الشريعة هو ما يقع من المُكلف، أو له، فيرفع عنه الحكم أو مقتضاه، جزئيا أو كلياً، مؤقتا أو مستديماً، حسب النظر الفقهي، كما في العوارض الأهلية، كالجهل والخطأ والاكراه. فإن وقع العذر سبباً رفع الحكم، وإن وقع مانعاً رفع مقتضاه، حسب ما تقرر في الأصول.
وللعذر صلة بمعنى الرخصة، إذ الرخصة هي استثناء من الأصل، لوقوع مشقة فوق الطاقة عادة. وإن كانت الرخصة مشروعة أصلاً للكلّ دون استثناء إن وقع مقتضاها، خلاف العذر، فيجب فيه التعيين. والتقييد والتخصيص نوع من الاستثناء وإن كان منفصلا لا متصلاً. كذلك النظر الفقهي في دليل الاستحسان والمصلحة. فالاستحسان هو عدول عن مقتضى القياس الجليّ إلى حكم آخر أليق بالمسألة لعلة مناسبة فيه. والمصلحة هي حكمٌ يخرج به المجتهد في محل ليس فيه دليل على الخصوص إلا ما اجتمعت عليه قواعد هامة دلت على جنسه.
ومن أمثلة ذلك النظر ما يطبقونه في مسألة الإعذار بالجهل، ومسألة إعذار العاذر، وذلك المسلسل التكفيريّ الذي هو وصمة عار وبصمة شنار في بنائهم الهار. وما استباحوه، ولا يزالوا، من دم المسلمين إلا بسبب الخلط في هذا المفهوم الي عنونا له هنا. وعدم اعتبار هؤلاء للشروط والموانع، وللمقيدات والمخصصات، وإطلاق التكفير العينيّ وقتل النفس التي حرم الله بناء عليه، دون ايّ نظرٍ فقهيّ، هو أصل داء الحرورية، وأسّ بلائهم العقديّ.
وكلّ هذا مقرر في الأصول، ولا أقصد شرحه هنا بأي شكلٍ كان. لكن ما أريده هو توجيه النظر إلى أنّ هناك الكثير من التفريعات الفقهية المبنية على أصول الشرع الحنيف، ما يخرج بالحكم عن مجرد منطوق حديث أو آية، كما يفعل عوام الحرورية، أتباعا ومشايخاًّ، إذ كلهم لا يرتقي عن رتبة العوام. وعدم اعتبار مثل هذه الفروق، وجعلا لبنة في بناء النظر الفقهي الذي تخرج التصرفات بناء عليه، لهو افتئات على الشرع وجهل مركب، لا يؤدى إلى خيرٍ أبداً.
(5)
إسقاط أحاديث آخر الزمان على الواقع الحال.
وهذا المنحى وإن لم يكن من الأصول بمعناها، إلا إنه تطبيق مباشر على سوء فهم الأحاديث النبوية، والسنن الإلهية، والوقائع التاريخية. ومفاد هذا المنحى هو النظر في أحاديث آخر الزمان، ثم محاولة إسقاط الواقع، بل الأدهى من ذلك، اصطناع واقع، يتمشى مع ما في الأحاديث، ثم تصديق ما صنعته أيديهم، ثم اعتبار أنّ ذلك دليل على صدق توجههم وصحة مسيرتهم، إلى لقاء الدجال. وهذا على ما فيه من خطأ عقديّ مضرٍ بدين الله، دليل على خبلٍ عقليّ أصاب هؤلاء، من شدة الجهل والإحباط من الواقع الحالّ. فهم يتشوفون إلى نهاية الدنيا وآخر الزمان، لمّا رأوا أنه، بمنظارهم الأعوج، لا فائدة ترجى في الزمان. وهو ضعف إرادة وقصر نظر. ولم يعتبر هؤلاء أن أحاديث آخر الزمان لا يمكن اصطناع أحداثها، وما قصة جهيمان منّا ببعيد.
والعلامات التي ترد في تلك الأحاديث صحيحة، ستقع بنصّها بشكلٍ من الأشكال، إذ ذكرها الصادق المصدوق. لكنها ليست لتحديد الواقعة ابتداء، أو التعرف عليها، ومحاولة تتبع وجودها بطريق العرافة والقيافة! لكنها علامات للإرشاد، وتوجيه النظر إلى حركة السنن، وتتبع الأحداث التي تقع، لا التي تُصطنع.
وأشهر ما يتداوله هؤلاء الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ فإذا تصافوا قالت الروم خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم فيقول المسلمون لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله ويفتتح الثلث لا يفتنون أبدا فيفتتحون قسطنطينية فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان إن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون وذلك باطل فإذا جاءوا الشأم خرج فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فأمهم فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو تركه لانذاب حتى يهلك ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته"
وأنت ترى هذا الجهل المطبق في تناولهم لهذا الحديث، واستدلالهم بأنهم سيحاربون الروم في حلب، وأنّ المسيخ الدجال سيخرج، وأنّ مسخهم إبراهيم بن عواد سيسلم الراية للمهدي، أو للمسيح، أو ما شاءوا من تطبيقات للحديث! وهاهم يستدعون "الروم" لقتالهم في الشام، بما فعلوا من ذبح الصحافيين، ثم نداءاتهم المتكررة أن يأتوا بخيلهم ورجلهم لأرض الشام، لقتالهم! حتى تتحقق شروط النبوءة. هم، من ثم، يريدون أن يتواجدوا في حلب، وعلى حدو تركيا، ليفتحوا "القسطنطينية"! فترى الصنعة في الأحداث الجارية، تكاد تلمسها.
- استعداء واستدعاء القوات المقاتلة الغربية للهجوم على الشام.
- محاولة السيطرة على حلب حيث تقع النبوءة.
- الإصرار على حرب عين العرب ليكونوا على أهبة الاستعداد، قريبا من "القسطنطينية".
خرفٌ في خرفٍ في خرف! ولا حول ولا قوة إلا بالله. جعلونا مسخرة الأمم[1]، كما جعلنا الرافضة بتأويلاتهم الخائبة الشركية.
أرأيتم خبل من يستعدى قوات أجنبية لاحتلال بلاده وللقتال على أرضه! الناس يسعون لدفع الصائل ومنع دخوله لأراضيهم يعيث فيها فساداً، وهؤلاء، بتأويلاتهم الخائبة لأحاديث آخر الزمان، يستدعون القوى الغاشمة لاحتلال الشام! ثم يدعون أنّ هذا دين الله، وهذا وعده! والله ما هذا إلا جهلهم وخسارهم وخستهم وحروريتهم.
وقد وقعت في التاريخ من قبل معارك في دابق بين المسلمين والروم، وكانت أقرب لأن تكون هي المقصودة في الحديث من حيث كانت قوة المسلمين حقيقة لا دعاية، وذلك أيام نور الدين زنكي وأيام السلطان سليم الأول. لكنّ هؤلاء الحمقى يعتقدون أنهم هم أول "المسلمين على الأرض" بعد عصر الصحابة، وهم أفضل جيش تكوّن في سبيل الله.
ثم، أين خروج هؤلاء من المدينة؟ ثم كيف يكون هؤلاء خير أهل الأرض، وهم يكذبون بلا خلاف، ويقتلون المسلمين بالشبهة والظنة بلا خلاف، ويفتون بجهل ويخربون العقيدة بلا خلاف، ويسبّون العلماء ويسلطون عليهم السفهاء بلا خلاف؟ بل هم الوجه الآخر للعملة السلولية. هؤلاء لا يمكن أن يكونوا جيش الخلافة الموعودة، بل هؤلاء مجموعة من السذج الجهلة، اختلطوا بالمجرمين والقتلة والسفاحين. كيف يكون السامرائيّ وتابعه صبحي حمام العدناني، والسفاك الأنباري العراقي هم من صحت فيهم هذه الأحاديث التي تصف أفاضل الناس؟ وهم بالعين المشاهدة أرذلهم خلقاً وأخسّهم طبعاً؟
(6)
الحرورية إذن، في عصرنا هذا، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، لهم أصول نظرية، وإن كانوا لا يعرفونها، لجهلهم. لكنهم يسيرون عليها كأي فرقة من فرق المبتدعة التي حدثنا عنها علاء السنة. وقد ذكرنا منها ثلاثة، ومثال تطبيقي.
هذه الأصول التي يتبعونها، بجهل وسفسطة وغواية وهوى، هي:
- اعتبار الجزئيات دون كلياتها:
- اعتبار الكليات والعمومات دون جزئياتها ومخصصاتها:
- عدم اعتبار الاستثناءات في الشريعة الإسلامية
- إسقاط أحاديث آخر الزمان على الواقع الحال.
ولعل أهل النظر أن يتوسعوا في شرح هذه الأصول، فإنها أجدر أن يستفيد منها شباب أهل السنة، ليروا تطبيقاً عملياً للانحرافات التي تحدث عنها علماء السنة، وكيف تخرج واقعا من باطن الكتب، لتعمل في إفساد الناس والزمان.
والله وليّ التوفيق
د طارق عبد الحليم
19 نوفمبر 2014 – 26 محرم 1436
[1] وقد تناول الشيخ الحبيب د هاني السباعي هذا الأمر في تسجيل ممتع https://www.youtube.com/watch?v=xunHnvHHlFc&feature=youtu.be