فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الهداية السنية في البيعات العوادية جزء 1

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد

      انحرفت عن مقصدي في نشر الجزء الثالث من مسلسل "أصل البلاء عند أهل الأهواء – في الفكر الحروريّ – 3" بسبب ذلك الحدث الذي أطل برأسه من بيعة مجموعة من المقاتلين في سيناء، لا نظنهم يزيدون عن الثلاثين فرداً، يسمون أنفسهم "جماعة بيت المقدس". والحق، إنه أمرٌ يتجاوز أثر الإعلام المصاحب له أثره الحقيقي على الأرض بكثير، لصغر حجم هذه المجموعة أولاً، ولأسباب أخرى نبيّنها بعد إن شاء الله. إلا إن البيان هنا يُقصد به وضع الأمور في حجمها، من حيث أنّ الشهور الماضية قد صاحبتنا ظاهرة التضخيم الإعلاميّ لظواهر داعشية، على غرار ما يحدث في الإعلام العلمانيّ سواء بسواس.

      والشخصية الداعشية الحرورية الحاضرة، تقوم على التضخيم أساساً، غذ هي، أولاً وأخيراً، وليدة إعلام علماني اشتغل عليها طوال عمر شبابها، بل وآبائهم. فهي دولة، وخلافة، وجيوش جرارة، ومدن تفتح، وعروش تسقط، وطواغيت ترتعش قلوبهم من ذكر القرشي الحسيني ... الى آخر تلك المزاعم، التي تدل على صغر عقول مدعيها من ناحية، وإساءة تقدير الواقع المحيط بهم من ناحية، ونفسية لا تتعرف على الحق والحقيقة إلا من خلال تصوراتها من ناحية ثالثة.

      (1)

      وقبل أن نبدأ في حديثنا، نود الإشارة إلى هذا الإعلان عن بيعة حفنة سيناء، جاء بعد الضربة القاتلة التي أصابت داعش بمقتل عدد من قياداتها في الأنبار، وأخبار جرح رأسها السامرائي. وهي تطورات تلقى بظلال ثقيلة على مستقبل هذا التنظيم. فإن القصف الصهيو-صليبي قد بدأ من أسابيع قلية، ولم يأخذ عنفوانه بعد. بل هو في طور الإعداد والتجهيز، بل وإنزال جنود على الأرض بالفعل، أضلهم الله وأعماهم عن المجاهدين الصادقين والمدنيين الأبرياء.

      وأمر هذه البيعات، هو في نوعيتها، وشرعيتها وأثرها. وسنتناولها بهذا الترتيب إن شاء الله تعالى.

      ومما يجدر ذكره هنا أن البيعة أصلاً هي من أمور العاديات لا العبادات. ومعنى ذلك أنها تتعلق باستصلاح حال العباد في الدنيا لا الآخرة، وهي تتعلق من ثم بالعلاقة بين الناس بعضهم ببعض، لا بين المسلم وربه. وما فيها من عبادة هو كما في كلّ أمر شرعي عاديّ أو عبادي من عبادة، بالنظر إلى وجوب طاعة الله وإخلاص النية في أدائها إن وجبت، لا غير.

      وعدم ملاحظة هذا البعد قد ولّد الشّطط في أمر هذا البيعات التي أصبح أمرها فرطاً منذ الغزو الحروري لساحة الشام. إذ تصور الشباب الغر، وصُوّر لهم، أنهم يجب أن يسارعوا لبيعة، أيّ بيعة، يحققوا بها واجباً شرعيا ويقيموا بها عبادة هُدمت ويحيوا بها سنة نقضت. وهو دورٌ في المسألة، أيّ خلفوا السبب بالنتيجة. فالبيعة واجب وسنة حين تتحقق شروطهاً، فتدل عليها، لا أن نصطنع شروطها، ثم نبايع عليها لنكون قد حققنا السنة وأقمنا الواجب.

      والبيعة على أنواع في الشرع، أعلاها البيعة على الإسلام كما في بيعة العقبة الأولى، وهي التي لا يجوز نقضها، وحكم ناقضها الردة والقتل بعد الاستتابة. وهذه البيعة اليوم يأخذها أيّ وليّ أمرٍ أو شيخ أو مُقدّم في قومه. ثم البيعة على النصرة والمنعة، كما في بيعة العقبة الثانية، وهذه لا يحلّ نقضها إلا حالة العجز عن القيام بواجباتها، فيجب ردّها على المُبايِع. ثم بيعة الجهاد، وهذه لا يحل نقضها أو ترك الجهاد إلا بإذن المُبَايَع، وتركها كبيرة من الكبائر.

      ثم بيعة السمع والطاعة، الثابتة في حديث البخاري من حديث عبادة بن الصامت رضى الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان". ولهذه البيعة درجات، منها بيعة السفر، وهي بيعات محدودة بغرضها لا تتجاوزه، ولا إلزام فيها بما ليس من مهمات توصيفها الأصلي. وأعلاها بيعة الإمامة أو الإمارة، فالأولى هي بيعة الإمامة العظمى، وهي أصل الثانية، إذ الثانية لا تقوم إلا نيابة عن الأولى، أي يجمعها نواب الإمام من الأمراء بدلا عنه، ويكون سمعهم وطاعتهم تبعا للسمع والطاعة للإمام.

      تلك هي أنواع البيعات في الإسلام، باختصار، إذ هي مشروحة في كافة كتب الفقه والحسبة والسياسة الشرعية، فليطلب الناظر التفصيل في مظانه. إنما يهمنا هنا هو موضع تلك البيعات الإسهالية العوادية التي نبعت مؤخراً.

      وقد اختلط على الكثير من المسلمين، في العقود السابقة، مفهوم حديث مسلم عن عبد الله بن عمر رضى الله عنه "من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" فتصوروا أنّ البيعة لازمة بذاتها، لا بتحقق شروطها، فعكسوا القضية، كما أشرنا. فصار حالهم يبحثون عمّن يبايعون ليتحقق الحديث، لا يحققوا الحيث حين يجدون من يبايعون، لا قبلها. والميتة الجاهلية معناها أنّ المرء الذي يموت دون بيعة، وشروطها قائمة متحققة، يموت كما كان الناس يموتون في الجاهلية، دون بيعة إمام يقودهم ويهديهم. وكان للناس في الجاهلية رؤساء ومقدمون وكبار عشائر وشيوخ قبائل، يسمعون لهم ويطيعون، لكن لم تكن البيعة من عاداتهم مع الرؤوس متداولة كما هي في الإسلام. فمن مات دون بيعة على النهج الإسلامي ففيه شبه من هؤلاء، وهي منقصة في دينه، وذنبٌ في عنقه بلا شك. ولم يؤول الميتة الجاهلية بأنها كفرٌ إلا الخوارج على مذهبهم في تكفير العاصي وتفسير ألفاظ الأحاديث حسب هذا المنهج التكفيري[1].

      ثم إنهم لم يجمعوا بين هذا الحديث، وحديث البخاري عن حذيفة رضى الله عنه "فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك". ففي هذا الحديث دلالات كثيرة، أولها أنه يُتَصَور وجود زمان بلا جماعة عامة ولا إمام أعظم (خليفة)، وإن وُجد الإسلام متفرقاً في نواح ومواضع من الأرض. وثانيها أنّ هذا التفرّق فيه لبس على العوام، ففي هذه الحالة يجب اعتزال الفرق المتناحرة، إن لم يكن أهل السنة معروفين ظاهرين لهذه المُسلم بالذات. ثم إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر ساعتها بضرورة البيعة، ولا ذكر الميتة الجاهلية، فدلّ ذلك على أن البيعة ليست عبادة، وإلا لم يصح نفي إقامتها بحال. ثم إن تخصيصها في هذا النص إخراج لها من العموم بعد التخصيص، كما هو مقرر في علم الأصول، وهو ما يعنى إمكان تخصيصها بأي مخصّصات مشروعة أخرى.

      (2)

      فإذا تناونا البيعة من هذا التصور، وجدنا أنها، كبقية الأحكام الشرعية العادية، معقولة المعنى، تؤدى إلى مصلحة، ويدور طلبها مع تحقق مصلحتها وجوداً وعدماً. كما أنها، لذات السبب، ليست مطلوبة لذاتها كالصلاة مثلا، بل مطلوبة لغيرها، وهو تقوية وضع الإمام المنصّب، القائم بما التزم به من واجبات تجاه المبايعين. ثمّ إن تقوية وضع الإمام الحارس لبيضة الدين هي في ذاتها مطلوبة لغيرها، وهو حماية بيضة الدين وحراسة أهله. فالبيعة متمم لمتتم. وهذا يضعها في الحجم الطبيعي الذي يراه من ينظر بمقياس النهج النبويّ، ويتحقق بمقاصد الشرع ورتب الأحكام.

      ثم من الناحية الأخرى، نرى أنّ الخلط في إيقاع البيعة لمن لا يستحق، فيه خطرٌ عميمٌ على المقصد الشرعيّ في إيقاعها، إذ الخلل في السبب ينشأ عنه خلل في المُسَبَّب بطريق اللزوم. تماما كمن أراد أن يكون له ولدٌ فزنى بامرأة، أو من أراد مالا فسرق. وحقيقة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجّه الناس إلى عدم البيعة في الفتن، وعند اختلاط الأمور، وبالتالي عدم وجود من يستحقها، يضعها في باب التحريم شرعاً والبطلان وضعاً، إن وقعت على غير شروطها. والتحريم هنا يأتي لغيره، كما أن الوجوب عند اكتمال شروطها يأتي لغيره. فالتحريم بسبب الإفساد الحاصل من جرّاء بيعة من لا يستحق. فإن لم يترتب عليها شيء، وقعت غير مكيّفة شرعاً، كأفعال العجماوات، أيّ لا تعنى شيئاً، وهو ما نرجحه في حكم تلك البيعات التي تسامعنا بها مؤخراً لتنظيم الحرورية. كما سنبين في المقال التالي إن شاء الله تعالى.

      د طارق عبد الحليم

      11 نوفمبر 2014 – 18 محرم 1436


      [1]  راجع الباب الثاني من كتابنا "حقيقة الإيمان" لمزيد التفصيل في مأخذ الخوارج مع هذه الأحاديث.