فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      أصل البلاء عند أهل الأهواء - الفكر الحروريّ - جزء 1

      الأخطاء التي يجب الحذر والتحذير منها في فكر الحرورية -1

      إن الحمد لله نستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأصلى وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد

      من الصعب، في حقيقة الأمر، أن نطلق مصطلح "فكر الحرورية"، دون أن نشير إلى حقيقة أنه لا "فكر" بشكلٍ محدد يمكن نسبته إلى الحرورية. ذلك أنّ المنطلق الحروري في التفكير يعتمد النظر إلى الشريعة من خلال أحكام جزئياتها، لا من خلال اعتبار كلياتها. فهي في هذا المذهب، ليست كلَّا عضوياً واحدا كالجسد الواحد، بل هي أعضاء متناثرة يتركب منها مخلوق مشوّه ليس بآدميّ سويّ كما خلقه الله سبحانه، وهو ما سنبيّنه بصورة أوسع فيما يأتي إن شاء الله. وهذا المنطلق ليس فكراً، بل هو إلى التطبيق المباشر، ومن ثم إلى الظاهرية، أقرب مأخذا من أيّ شيء آخر.

      والمنطلق الحروريّ في تناول الأمور، أو إن أردت الاختصار، الفكر الحروريّ، فيه الكثير من الأخطاء المنهجية، وإن اعتمد أساساً على نفس المصدر التشريعيّ الذي يعتمد عليه علماء السنة، ألا وهو القرآن والحديث. لكنّهم بعد ذلك يختلفون عن علماء السنة في منهج النظر إلى تلك النصوص التشريعية، تأصيلاً وتحليلاً، ومن ثمّ، مأخذا وتطبيقاً.

      والحرورية على مدى التاريخ، لم يكن لهم دور في إنشاء منهج نظريّ متكامل، يجمع شتات مذهبهم، كما فعلت الأشاعرة على سبيل المثال. ومن ثم، فإن الأشاعرة، أقرب إلى أهل السنة، كمذهب، من غيرهم. ومن الجدير أن نشير إلى أنّ عددا من أكابر علماء السنة قد تبنوا قولا من أقوال الأشاعرة، مما لا يجعلهم في عداد "فرقة" الأشاعرة بالكلية. لكنّ هذا أمر يخرج ببحثنا عن مساره المعتمد.

      وسنحاول في هذا العرض أن نبيّن مناحي الانحراف في الفكر الحروريّ عامة، والعواديّ خاصة، في أصول نظرهم وفي التفريعات التي بنيت عليه. والحق إننا سنحاول أن نبني لهم أصولاً نجمعها من شتات تصرفاتهم وأقوالهم، إذ ليس لديهم من يقدر على ذلك، لفقرهم الطَبعي في الناحية العلمية الشرعية.

      (1)

      لعل الأصل الذي يخرج بالحرورية من دائرة السنة إلى البدعة هو ذلك النمط من "النظر الجزئي"، والذي أشرنا اليه آنفا. ذلك أن هذا المنحى هو أصل مشتركٌ بين كافة الفرق البدعية. يقول الشاطبيّ في تمثيله الرائع عن منهج أهل السنة في النظر والاستدلال بالدليل الشرعي"وما مثلها – أي الشريعة - إلا مثل الإنسان الصحيح السوي. فكما أن الإنسان لا يكون إنسانا حتى يستنطق فلا ينطق باليد وحدها ولا بالرجل وحدها ولا بالرأس وحده ولا باللسان وحده، بل بجملته التي سمى بها إنسانا، كذلك الشريعة لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها لا من دليل منها أي دليل كان وإن ظهر لبادى الرأي نطق ذلك الدليل فإنما هو توهمي لا حقيقي، كاليد إذا استنطقت فإنما تنطق توهما لا حقيقة من حيث علمت أنها يد إنسان لا من حيث هي إنسان لأنه محال. فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضا كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة مثمرة وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما، أي دليل كان، عفوا وأخذا أوليا، وإن كان ثم ما يعارضه من كلى أو جزئي. فكأن العضو الواحد لا يعطى في مفهوم أحكام الشريعة حكما حقيقيا فمتبعه متبع متشابه ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ ما شهد الله به (ومن أصدق من الله قيلا)"[1]. وخلاصة ذلك أن التوجه الحروريّ ينظر إلى الشريعة مقطعة مجزأة، تارة يعتبر الجزئيات والنصوص المحددة، بلا نظر إلى الكليات التي يجب أن تقع تلك الجزئيات تحتها. وتارة يعتبر الكليات دون النظر إلى ما تحتها من جزئيات تضبط صحة تطبيقها. وسنعطي أمثلة على كلٍّ من تطبيقات العوادية في هذا العصر.

      هذا المَنحى من النظر هو أصل البلاء عند أهل الأهواء، بلا اختلاف بينهم في ذلك. وعليه يتركب سائر بلائهم في المناحي الشرعية الأخرى.

      وينشأ هذا المنحى من طريقين، إما شدة الجهل بالشريعة من حيث عدم العلم بها أو صرف الوقت في دراستها ابتداء. وهو ما نراه في تعليقات الأتباع من جهل وتخبط. والطريق الآخر هو النظر في بعض الأدلة مع انحراف في فهم مآخذها، كما يحدث مع بعض من ينسبونهم لعلم. والمثير في الأمر أن كلا الطريقين يصل بسالكه إلى نفس النتيجة الخاطئة! والجهل صفة قد تقع على عدم العلم أو على انحراف العلم[2].

      وفي هذا المنحى، منحى الزائغين، ما فيه من افتئات على الشريعة وواضعها سبحانه، ومبيّنها للأمة صلى الله عليه سلم. فإن واضع الشريعة واحد صمد لا شريك له، فما كان لها أن تتعدد في توجيه النظر، بل هي تسير على مهيع التوحيد، عقيدة وشريعة. فمن اضطرب في إرجاع بعضها لبعض وجمع أطرافها وترتيب مداركها لتلتقي على طريق واحد، فقد أخل بالمفهوم الواسع للتوحيد، وسقط في جناية رمي الله سبحانه بالتخبط في دلالات أحكامه، من حيث لا يدري.

      ولهذا فإن منحى أهل السنة، أو منحى الراسخين، هو اعتبار جزئيات الشريعة مع كلياتها، فلا يتضاربا. والكليات هي القواعد العامة، سواءً التي جاء بها النص أو استنبطت بالاستقراء التام أو التغليبيّ أو الناقص، حسب الحال. والجزيئات هي تلك الآيات والأحاديث التي تحمل حكماً شرعي في ذاتها، أو يُستنبط[3] منها حكم شرعيّ بطرق اجتهاد. 

      ويرى الناظر إلى أحوال الحرورية يرى تطبيق هذا المنحى، منحى الزائغين، بحرفية محترفة، كأنهم تلقوه كابراً عن كابر، أو في هذه الحال، صاغراً عن صاغر. وليس ذاك. إنما هو طريق يسلكه كلّ زائغٍ منذ أن نزل البيان الخاتم على نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو سبب اختلاف الأمة "ولذلك خلقهم"، وهو سبب سعادة السعيد وشقاء البدعي البليد.

      فمثلاً، تراهم يطبقون حادثة من السيرة أو نصّ آية أو منطوق حديث صحيح، دون اعتبار أسباب النزول أو مناط التطبيق. أو علة الحكم، هل هي قاصرة أم متعدية، أو عمومه، وما أشبه ذلك مما ليسوا أهلا للنظر فيه ابتداءً.

      (2)

      اعتبار الجزئيات دون كلياتها:

      فمثلا ما جاء عن أحد عوامهم المتعالمين من كلام في جواز، بل وجوب، النفير والبيعة على النساء كما أسماه، دون محرم أو إذن وليّ أمر، إلى ساحة الشام للالتحاق "بالمجاهدين" كما أسماهم، ليحيوا في ظل "دولة الخلافة" كما أسماها، قد اعتمد فيه على قصة أم سلمة، ولحاقها بزوجها بعد أن أعيد اليها ولدها، وصحبة عثمان بن طلحة لأمّ سلمة رضى الله عنهما. وهو استشهادٌ يدل بلا شك على ما أردنا هنا، وهو اعتبار حكاية حال، أو رواية في السيرة، أو حديث، ينطح به قواعد كلية في الشريعة، ثبتت بما لا يحصى من النصوص والحوادث، تمنع المرأة من الخروج في سفر دون محرم، بل عدم وجوب الصلاة في المسجد عليها، بل صلاتها في قعر بيتها أحب إلى الله من صلاتها في ساحته، والصلاة أوجب الواجبات بلا شك، إلا ضرورة، خاصة إلى أرض حرب، لا يأمن الرجال أنفسهم على أنفسهم، وتحرّم أن تتزوج دون إذن وليها، وإلا بطل نكاحها.

      كذلك إن نظرنا في مسألة سبي النساء من غير المسلمين، سواء أهل الكتاب أو غيرهم، فقد اتخذ هؤلاء المتعبدون بهذا النهج حكم حلّ سبايا الحرب ليجعلوه أصلاً من أصول الشريعة، وحكما واجباً يتفاخرون به كأنه واجب مفروض. وحكم السبيّ هو الاباحة المطلقة مستوية الطرفين لا إلى المنع ولا إلى الطلب. وما كان هذا حكمه فهو يدخل تحت تقدير المكلف إن كان في باب الأفعال الفردية، أو إلى الإمام المُنَصَّب إن كان في الشؤون العامة كالسبيَ في الحرب. لكنّ الناظر في كليات الشريعة يرى أنّ الأصل هو الدعوة للإسلام، وإعتاق الرقاب، وردّ الحرية على الرقيق، لا العكس. والسبيَ هو مضاد لهذه الكليات، يجب تجنبه قدر المستطاع. ولم نر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام احتفالاً بسبي نساء العدو، بل قام بما دعت اليه الضرورة، في وقتها، من إيجاد مأوى لهم وحماية، في ظلّ نظام الرق الذي كان قائما في كافة أنحاء الأرض، سواء عند الفرس أو الروم.  كما إننا نلحظ أنّ السبي لم يحدث إلا بعد التمكين، في المدينة، لضمان القدرة على ردّ المعتدي. وهذا مما يجب أن يعتبره من يأذن في اتخاذ سبايا في ساحات الجهاد اليوم، مراعاة للظروف المحيطة. أما أن يُترك هذا الأمر لعبة في يد غلمان شبقى، جياع لممارسة جنسٍ حرٍ بلا تكاليف، يرونه في صالح الإسلام، ويجعلونه من شعائر الدين وأركان الجهاد، فهذا تقع مسؤوليته على وليّ أمرهم، إن كان لهم وليّ أمر.

      هذا النهج من النظر، الذي يلغي كليات شرعية، ثبتت من عديد من النصوص، فصارت بها قواعد عامة حاكمة، لصالح نصٍ له مناطه الخاص تارة، أو كونه حكاية حالٍ أو قضية عين تارة أخرى، هو أسّ البلاء في باب البدعيات.

      يتبع إن شاء الله نعالى جزء 2

      د طارق عبد الحليم

      5 نوفمبر 2104 – 11 محرم 1436


      [1]  الاعتصام ج1 ص 245

      [2]  انظر "الجواب المفيد في حكم جاهل التوحيد" ص 18

      [3]  ويجب ملاحظة الفرق بين الاستنباط والاستقراء والاستدلال، ولهذا موضعه إن شاء الله