فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      أين الخلل؟ وما المخرج؟ رؤية خاصة بعد الأحداث - 2

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد

      (3)

      رأينا إذن أن موضع الخلل الأساسيّ هو ذلك التصوّر الحركيّ الذي بني على تجمع "النزّاع من القبائل" من ذوي الصلاح والهمم، لعمل موحد، يجمع بينهم، ويقف خارج المساحة الأهلية، دون أن يكون له حصانة داخلها، أو مدد.

      ولو اعتبرنا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" لوجدنا أن الغربة في الإسلام بدأت بظهور "النُزّاع من المجتمع الجاهلي"، أو "النُزّاع من القبائل"، وهم الأفراد المعدودون الذين آمنوا برسالته صلى الله عليه وسلم، وتابعوه وبايعوه عليها. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يُنشأ من هؤلاء جماعات مسلحة، تقاوم قريشاً، بل حين اشتد الأمر على بعضهم، أذن لهم في الهجرة إلى الحبشة. ثم استمر عليه الصلاة والسلام في العمل على إيجاد حاضنة شعبية للدعوة، مع استمرار دعوته في مكة. وهذا العمل، من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس محض صدفة، بل هو تقرير منهج، فإن قوله وفعله صلى الله عليه وسلم، فيما يختص بالدعوة، وحيٌ من وحي الله جل ثناؤه. وما أن استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وسط حاضنة شعبية، بدأ في بعث البعوث وتسيير السرايا.

      ويقول قائل: وهل مجتمع اليوم الذي نعتبر أهله مسلمون هو كمجتمع الأمس الجاهليّ في مكة المكرّمة؟ وهل يعني هذا تكفير مجتمعاتنا اليوم؟ قلنا: لا والله، لا هذا ولا ذاك. فإننا ندرك الفروق بين مجتمع اليوم وبين مجتمع الأمس، من حيث أن الأصل اليوم في المسلم السلامة من الشرك، حتى يثبت عكس ذلك، رغم شيوع الكثير من الشركيات في الحاكمية والطاعة والشعائر. فإن الله سبحانه قد تعبدنا، بالنسبة للفرد، أنّ لنا الظاهر وأنّ الله يتولى السرائر. وأنه إن تعارض ظاهران، قدم أقواهما دلالة شرعاً ثم استعمالاً ثم لغة، وأنه يجب اعتبار الشروط والموانع، وسائر مقيدات الأحكام الشرعية المعروفة في الفقه والأصول. أما بالنسبة للتوصيف المجتمعيّ، أو توصيف النظم الحاكمة فهو يخضع لمعايير أخرى تحدثنا عنها في مظان أخر.

      لكنّ هذه الفروق لا تلغى بالكامل أي تشابه بين البيئتين. بل يبقى أن التصرفات الإنسانية بشكلٍ عام تتشابه في ردود أفعالها، إن وُجد التشابه في الظروف المحيطة بها، بغض النظر عن سلامة الدين أو دقة تطبيقه. فنحن نرى أن الشعوب تثور على الظلم، مسلمة كانت أم كافرة، عاصية أو تقية. إنما الفرق في النية والهدف، ومن ثم في الإخلاص لله أو لغيره، ومن ثم في نجاح الثورة أو فشلها. وقد قامت ثورات للعبيد ضد أسياد الدولة الرومانية من قبل، لكنها لم تحقق انتصاراً من حيث إنّها كانت تعمل بمفهوم "النزّاع"، ولم يكن من المُمكن لها أن تجد حاضنة، من حيث سيطرة نظام روما على كافة الأنحاء المتحضرة آنذاك، ومن ثم استقرار نظام الرِقّ فيها.

      وقد وجهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته الزكية، وسنته المطهرة، إلى هذا المعنى، من حيث استمر في العمل الدعوي حتى تكوين القاعدة الحاضنة للدين، والتي أمِن بها مكر المشركين الصرف، من حيث انفصل عنهم حياتياً، من ناحية، وبقي في حاضنة متشابهة، فيها المنافقون والمرجفون، وأكثرها المؤمنون الصالحون، من ناحية أخرى.

      ولا نعني بذلك نبذ أي شكلٍ من أشكال الجهاد اليوم، فكلها مطروحة في مواضعها التي تصلح لها، بل نشرح آلية الدعوة بكافة مراحلها، كما سردها سيد المرسلين، في سيرته وسنته. ومن ثم، يمكن ترسّم خطاه، مع الاجتهاد فيما طرأ من تغيرات تستلزم الاجتهاد من العلماء. ونوجه النظر إلى أنّ إتاحة البيئة الحاضنة هو العامل الأهم فيمن فهم عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، ولا يجب تجنبها وتخطيها، ففي ذلك الفشل كله.

      وكما قلت، فإنني أحسب أنّ "القاعدة" قد أدركت هذا البعد الأساسيّ الخطير، فبارك أميرها أسامة بن لادن رحمه الله الثورات العربية، رغم اختلاط مواردها ومشاربها، كما سار على نهجه أميرها الحالي، د أيمن الظواهري حفظه الله، فتحدث عن ضرورة إدماج الشعوب في عملية التغيير، والاعتناء بشرح أهداف العمليات ضد الأنظمة بما يجعلها مبررة أمام الشعوب، نظراً لحجم التضليل الهائل الواقع من جهة الإعلام، ومن ضرورة كسب التعاطف، ومن ثم الولاء من أبناء تلك الشعوب. وما أحسب إلا أنّ اتجاه القاعدة اليوم يسير في طريق مناهضة الأنظمة القائمة، بدلا عن مهاجمة المصالح الغربية بصورة عشوائية، لا تُنتج إلا تشويهاً ولا ينشأ عنها إلا تأجيجاً. وما أرى إلا أن تعبير "قاعدة الجهاد العالمي" يتحول إلى معنى للعالمية خلاف ما كان عليه، من إنها لا تحارب "العالم"، بل إن عالميتها في أنّ نشاطها يقع خارج النطاق المحليّ في الحدود المرسمة للدول الإسلامية، لكن في نطاقها العام.

      (4)

      والحق، أن هناك جماعات ثلاث خالفت في تطبيقها هذا التوجه العام لدى الحركات الإسلامية، وإن لم تصل إلى مرحلة التطوير التام بين "النزّاع" وبين "القبائل"، هم جماعة الإخوان، وجبهة النصرة، وتنظيم الحرورية العوادية.

      أمّا عن جماعة الإخوان، فإن إيمانهم بالنهج الديموقراطيّ، ونبذهم التام لحمل السلاح، واستعدادهم الدائم المستمر للمشاركة لا المغالبة، في الإطار السياسيّ القائم، جعلهم أقرب إلى فئات الشعب، وأكثر التحاماً بها. ومن ثم كثُر متابعوهم والمتعاطفون معهم، وإن كانوا، ولا يزالوا يعملون بعقلية "النزّاع"، فمن هم موالون للجماعة هم الأصل، بمبدأ الولاء مقدم على الكفاءة.

      ثم جاءت جبهة النصرة، والتي نهَجت منهجاً جهادياً مسلحاً، بعد أن سارت الحركة الشعبية في سوريا ضد بشار وجماعته المجرمة النصيرية، وفشلت في إسقاط هذا النظام الوحشي العميل. وقد نحت جبهة النصرة بقيادة أبي محمد الجولانيّ، وصحبته كأبي ماريا القحطاني ود سامي العريدي، والمخلصين من الأحرار وغيرهم، والمستقلين كالشيخ أبي عبد الله المحيسني، منحى يقرب مما نتحدث عنه، إذ نجحوا في التغلغل بين أوساط الشعب السوري، وتقربوا للمسلم العاديّ العام، مما جعل الجبهة تكتسب توسعا كبيراً في الأفراد والأراضي. وهو ما أسال لعاب طائفة الحرورية، كما كتبنا من قبل.

      أمّا عن تنظيم الدولة الحرورية، فقد ساروا في حركتهم لوناً من هذا، من حيث التوسع في الدعاية الالكترونية، فنجحت في توفير "حاضنة الكترونية"، مما أدى إلى لون من التغلغل الشعبيّ بين أوساط العامة. لكن الفارق هنا هو أن أفعال تلك الجماعة أفسدت عليهم تلك المصداقية، بقتلهم المسلمين، وكذبهم الدائم واستحلالهم للدماء، فلم تغن عنهم الحملة الالكترونية، إلا في جذب عدد كبير من الشباب الصغير عقلا وعلماً، المتورم حماساً وخيلاءً. وهذا ليس مما نحن فيه من محاولة إيجاد مخرج من الأزمة، التي هم، في حقيقة الأمر، أحد أركانها.

      يتبع إن شاء الله

      د طارق عبد الحليم

      7 ذو الحجة 1435 – 1 أكتوبر 2014