فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      أين الخلل؟ وما المخرج؟ رؤية خاصة بعد الأحداث - 1

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد

      (1)

      السؤال الأخطر، الذي يواجه كافة علماء الأمة المهتمين بشأنها اليوم، هو: ما المخرج؟ كيف نتعدى هذه الورطة التاريخية، سالمين، ومقيمين لشرع الله؟ سؤالٌ لو طرأ في زمن عمر، لجمع له أهل بدر، والعقبتين! فإن الوهاد التي تردّت فيها الأمة أعمق وأغور من أن تُعالج بجلسة فقهية أو بحث شرعيّ. كما إنه يحتاج إلى نظرة شاملة على أحوال الأمة في كل بقاعها، لا بقعة منها، أو نظرة موضعية محلية.

      والمفتاح في ذلك، كما أحسب هو "العِبْرة". يقول الله تعالى "إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب"، ويقول جل شأنه "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب". والعبرة هي ما يعبر به المرء من معنى واضح إلى آخر أقل وضوحا أو أكثر خفاءً. والعبرة لا يجنيها إلا لذوى الألباب، أي أصحاب العقول السديدة والفطر السليمة، لا تحدث لغيرهم أبداً. والقصص، هو كلّ ما يُقصّ لتكون منه عبرة، في القديم البائد أو الحديث المُتجدد. ومن ثمّ، فإن النظر فيما يقع، تحدث لذوى الألباب منه عبر، يتهدّى بها في المسالك الوعرة والدروب المظلمة، التي صارت سمة عامة في حاضر الأمة.

      ومن هذا المنطلق، فقد أردنا أن ننظر في بعض ما يمكن أن يكون هادياً لفك طلاسم المرحلة وتشابك التواءاتها، متخذين مما مضى عبرة لما يمكن أن يبين الهدف، ويوضح الطريق.

      (2)

      تحدثت في المقال السابق عن استراتيجية جديدة بدأت في الظهور، عند قيادة "القاعدة"، وهي الاهتمام بضمّ أصحاب الفطر السَّوية في الشعوب المسلمة إلى معادلة المواجهة، توازياً مع الاستراتيجية الجارية، والتي تقوم على التجمعات القتالية المسلحة، والتي وصفتها بأنها تقوم على فكرة "النزّاع من القبائل". وكلما ازددت تفكيراً في هذا التوجّه، كلما ازددت اقتناعاً بأنّ هذا التوجه، هو الأصح والأضمن، بل هو الأكثر شرعية، وتمشياً مع السُّنة.

      اليوم، اللهم لا حول ولا قوة إلا بالله، نرى بدأ عمليات قتل وتخريب ودمار بأيدي التحالف الأمريكيّ، مرة أخرى في عقد واحد، لتدمير ما أسموه كالعادة "الإرهاب" والذي هو إسلام السنة، وإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بذريعة محاربة تطرف تنظيم الحرورية في المنطقة.

      وهذه الحرب، التي يشنّونها من الجوّ، ليست كسابقاتها. بل هي حرب يشترك فيها كل مرتدي العرب، إلا السيسي الذي أعطوه ليبيا ليعمل فيها عمله في مصر، تدميرا وحرقا، بنفس الذريعة.

      نجح الغباء، أو التآمر يعلم الله، الحروريّ في تحييد الشعوب إلى درجة كبيرة، ضد مشاعر الولاء البسيط التي كانت موجودة في نفوس العوام أيام حروب الخليج. فقد وضع هؤلاء الحرورية الأنجاس صورة المجاهد في إطار القاتل، الذي لا رحمة لديه ولا شفقة. وراحوا يتشدقون بكلمات لا يعرفون معناها ولا مؤداها، يعتقدونها عزة وقوة، وهي غباء وغفلة. بل قتلوا مسلمين مجاهدين، بطريقة لا يرضاها البشر حتى مع الحيوان، مما ساعد في تحييد ذلك الولاء. وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ اعتبار المآلات هو من السياسة الشرعية الحكيمة، حين قال "لا يتحدث الناس أنّ محمدا يقتل أصحابه"، فإذا بهؤلاء المتنطعين من كلاب أهل النار يقتلون بلا رحمة، فعلهم فعل الصليبية فيهم اليوم، وفي مجاهدي السُّنة.

      لكنّ هذا الغباء، كان، كما أشرنا من قبل في كثير من مقالاتنا، حول ردّ الفعل الصهيو-صليبي المنتظر، أمام غطرسة البغال الحرورية، حين أشرنا إلى أنّ هؤلاء يعتقدون أنهم يعيشون في عالم ليس فيه غيرهم، وأن بضع سيارات ومدافع تركت لهم عمدا، ليصبحوا، في نظر العامة، قوة شريرة خطرة متمكنة، كفيلة بتحطيم الغرب، والشرق! وما كان هذا إلا بسبب فساد عقيدتهم، وتطرف مذهبهم، وحرورية أعمالهم، التي على رأسها نبذ العلماء، والتفرد بالقول من قِبَل عصابة لا علم لها ولا عقل، ولا ضمير. وحسبوا أن قتل صحفيين أو ثلاثة سيردع الغرب عن قصفهم بجحيم مستعر، وخسئوا، فقد والله كانت آخر عقد الشبكة ألقوها حول رقابهم فأحكموها.

      على كلّ حال، وقع قدر الله، وهو قدر مقدور، لا رادّ له. ورأينا أول حصاد هشيم "الدولة" الممسوخة، نساءً وأطفالاً دفنوا تحت التراب والأنقاض. ووالله إن هذا التحالف الآثم، لن يتورع عن دفن عشرة أبرياء إن عُرف أنه سيقتل مجاهدا واحداً معهم. لم يحسب كلاب أهل النار وأغبياء هذه الديار، حساب هذا!

      لكن، عودة إلى ما بدأناه، فإنني أحسب أنّ المخرج من الأزمة التاريخية العنيفة التي يمر بها المسلمون السنة اليوم لن يكون من خلال التنظيمات والجماعات التي تتكون من النزَّاع في القبائل. بل يجب أن يعاد النظر في التوجه الجهاديّ بأكمله، في داخل دوائر الممكن والمتاح والمقبول، لا المثالي والخيالي واللامعقول!

      ذلك أنّ المخرج لن تنفتح أبوابه إلا إن زال حارسي الخيانة من عروش الكروش، ورؤساء الفسق والمجون. وهذا لن يتحقق بجماعات مسلحة مكونة من أفرادٍ "نزّاعٍ من القبائل"، بل لابد أن تدخل الشعوب بثقلها الذي لا يقهر، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة. أمّن "شعباً، ثم جنّد جنداً وأرسل سرايا وبعوثاً.

      ووصف "النزاع من القبائل" الذي جاء في حديث بن مسعود، ورواه مسلم وأحمد وبن ماجة بألفاظ مختلفة، ويعنى من يعرف فساد زمنه، ويدرك مواطن الكفر ومسارح البدعة، فيتجنب الاجتماع مع أصحاب الفساد، وهم الغالب في مثل تلك الأزمنة، كزماننا. وقد ورد لفظ "النزّاع من القبائل" في بن ماجة وأحمد والدارمي، ولفظ "الذين يُصلحون ما أفسد الناس" في الترمذي، و"يصلحون إذا فسد الناس" في أحمد. والجمع بين هذه الروايات يعطي المعنى كاملاً، فيكون هؤلاء هم صالحوا الأمة ومصلحوها، منهم ومنهم.

      لكنّ الأمر أنّ أصل الوصف "النزاع من القبائل" يستدعي بالضرورة أنهم قليل "وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ". وهو ما يستلزم أنه من الصعب أن يحدث التغيير علي أيديهم، وحدهم، دون أن يعمل إصلاحهم وصلاحهم عمله في "القبائل". وقد رأينا هذا واضحاً بعد أن رأينا كافة أنواع الحركات الإسلامية منذ عام 1932، وإلى يومن هذا، بكل توجهاتهم، سلمية ومسلحة، فكرية وتطبيقية، مرجئة وخوارج، وأهل سنة من الفئة المنصورة، فلم نر نجاحاً واحداً على الأرض، إلا ما كان في مصر، فترة عامٍ، وهو نجاحٌ لفشل أصليّ، لم يكن على هدي النبوة على أيّة حال.

      لابد لعلماء المسلمين أن يقفوا إزاء هذا الوضع، الذي استمر أكثر من ثمانين عاماً، وأن يتفكروا، أين الخلل؟ إن أرادوا أن يعرفوا ما المخرج.

      وفيما نرى، ذاك هو موطن الخلل الأساسيّ. هو ذات الدواء الذي أراد "النُزّاع من القبائل" أن يقهروا به الداء. وهو ذلك الشكل من التنظيم الجماعيّ، الذي لا يكون إلا بانغلاق هؤلاء النزّاع في دائرة "جماعة".

      يتبع إن شاء الله

      د طارق عبد الحليم

      3 ذو الحجة 1435 – 27 سبتمبر 2014