فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      فتاوى العلماء في الحركة الإسلامية السنية – ساحة الشام

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد

      أمران نريد أن نقررهما في هذا المقال، بشكل مجمل واف، وهما أولاً، ما حمله العنوان من أثر فتاوى العلماء في الحركة الإسلامية السنية، والثاني هو ما يجب أن يحذر منه متعاطي تلك الفتاوى نشراً وعملاً.

      فأولا، إنه من المعلوم المقرر عند أهل السنة قيمة فتاوى العلماء في حياة المسلم العاميّ، خاصة في نوعيتها وفي توقيتها. ففي نوعيتها ودرجتها نجد أنها لازمة مُلزِمة للعاميّ في دقائق الأمور وخفيها، مما هو في مرتبة أعلى مما "عُلم من الدين بالضرورة"، وهو في أمور العقائد وحدانية الله على الجملة، وفي أمور الشرائع، ما هو فرض عين علمه كل مسلمٍ كوجوب الصلات الخمس والصوم والحج وحجاب المرأة، وما إلى ذلك.

      وحتى لا نخالف إلى ما ننهى غيرنا عنه، من ضرورة توضيح المقصود، فنزيد الأمر إيضاحاً، حيث قلنا "وهو في أمور العقائد وحدانية الله على الجملة" فإنما قصدنا الإيمان المجمل أو حدّ الإسلام أو كلمة السواء، أو مدلول الشهادتين، إذ لا يسع المرء أن يكون مسلماً إلا بها. فإن الإيمان بالملائكة (دون ضرورة معرفة أسماء من ذكر منهم في القرآن، أو عدد أجنحتهم، للمُعين.. ) أو الكتب كلها (دون ضرورة معرفة عددها أو أسمائها عند المعين) لا يحتاج لفتوى عالمٍ، كذلك فإن الإيمان بوجوب طاعة الله طاعة مطلقة (دون ضرورة الخوض في تفاصيل الطاعةٍ وشكلها عند المعين)، وتقديم النسك لله وحده (دون التفاصيل لدى المعين)، بل معرفتها والإتيان بها بشكل عام مجمل. ولا يلزم من ثم معرفة نواقضها إلا بنفس قدر معرفتها، أي بالعام المجمل، فيعرف أن طاعة غير الله شرك، وأن الله واحدٌ لا ثالث ثلاثة. وغير ذلك فهو خاضع للعلم والتعلم، ولثبوت الشروط وانتفاء الموانع.

      ثم ما بعد ذلك ينقسم إلى شقين، شقٌ يتعلق بالعقائد، وهو ما يسمى خفيّ المسائل ودقائقها، مثل مسائل التكفير وتطبيق نواقض الإسلام، لارتباطها كلها بتحقيق شروط وتخلف موانع، وتفاصيل ما يكفّر كفراً أكبر أو أصغر، وما هو من الكفر العمليّ وما هو من كفر العمل، وما إلى ذلك، وتفاصيل بعض الصفات الإلهية، وما شابه. ثم شقٌ يتعلق بسائر الشرائع والتشريعات، منها ما هو من الحكام، كتفاصيل السنن الرواتب والمستحبات، أو ما يرتبط بالمناطات واختلاف الأحوال والحالات.

      ثم ما يتعلق بتوقيت الفتوى، فإن لزوم الاستفتاء يتأكد ويلزم في حالات النوازل، الخاصة والعامة، فمن النوازل الخاصة مثلاً، وفاة الوالد، فيجب على الورثة استفتاء عالم في موضوع الميراث. وفي النوازل العامة، مثل ما نحن فيه من اجتياح قوى الكفر لديار المسلمين، وحدوث النوازل في أرضهم من حرب وجهاد، ومن تشتت أحوالهم وفقه السياسة الشرعية لمواجهة هذه الحالة سواء في الدفاع عن الأرض والعرض، أو توحيد الصف وصفّ القوى.

      هذه نبذة مختصرة عن هذا الأمر المتعلق بأهمية فتوى العلماء في حياة المسلم.

      ثم ثانياً، فإنه مما يجب أن يستقر في عقول العامة وطلبة العلم، أنّ ليس هناك نصّ واحد، سواء في الكتاب أو السنة أو قول عن عالمٍ أو مفتٍ، يؤخذ على ظاهره في التطبيق، من النص إلى الواقع رأساً، دون التحقق من إنه كان لفردٍ بعينه، لا لجماعة، أو إنه جاء على العموم المطلق غير المخصص.

      فإنه يجب أن يكون من المعلوم أن هناك فرق بين الحكم والفتوى، وقد يشتبها عند الكثير من العوام، بل بعض طلبة العلم كذلك. وما نعنى بذلك هو أنّ هناك ثلاثة مستويات من الحكم والفتوى. فالحكم الشرعي، عادة نص أو إجماع، يأتي في صورة عامة مطلقة. مثل أن "الخمر حرام". ثم تأتي الفتوى في حق شراب معين، أهو خمر أم لا. ثم يأتي المعينٍ من الناس فتأتي الفتوى في حقه، هل في حالته تلك يحرم شرب ذلك الشراب أم لا، كضرورة الموت عطشاً. وممكن آخر، أن يسأل سائل "هل الضحك يبطل الصلاة؟" فيجيب العالم "كثير الضحك يفسدها لا قليله" ويبقي تحديد القليل من الكثير هو فتوى واجتهاد يقوم به العاميّ بنفسه مما يسميع علماء الصول "تحقيق المناط الخاص". هذا بالنسبة للفرد المستفتي.

      من هنا فإن درجات الحكم والفتوى تختلف حسب الحالة، فمنها ما هو فتوى صالحة للتطبيق رأساً كما قلنا، وهي غالبا ما تكون صادرة لفرد ما. ومنها ما هو فتوى، عن حالة ما، لكنها لا تصلح أن تطبق إلا بفتوى تلحقها عن تفصيلها وتنزيلها على الواقع. فهذه ثلاثة مراحل للفتوى.

      1. حكم شرعي
      2. فتوى شرعية عامة
      3. فتوى شرعية خاصة

      وهذا الترتيب يجرى في كافة أبواب الفقه، ويتغير حسب الحال، بين فردٍ وجماعة.

       فمن النصوص التي ترد عن العلماء ما هو فتوى بالنسبة لحالة معينة، لكنه حكم بالنسبة لحالة أخرى، يجب الإفتاء فيه مجدداً.

      ومثال من الساحة الشامية، أن يسأل سائلٌ "هل استرداد الحقوق التي اغتصبتها الحرورية من السُنّة صحيح، في وقت تعرضهم إلى الحملة الصليبية؟ ففي الإجابة عن هذا السؤال يظهر قصدنا إن شاء الله.

      • فالحكم الشرعيّ هنا هو أنّ "استرداد الحقوق واجب لمن قدر عليه دون أن يؤدى ذلك إلى مفسدة أعلى من فقدها".
      • فمن سأل عالماً عن "حكم استرداد الحقوق المغتصبة" فأجاب العالم "استرداد الحقوق واجب لمن قدر عليه دون أن يؤدى ذلك إلى مفسدة أعلى من فقدها"، فقد أفتى له.
      • لكن هذه الفتوى هي في ذاتِها حكم شرعيّ إن جاء السؤال على هيئة "هل استرداد الحقوق التي اغتصبتها الحرورية من السنة صحيح". حالتها فإن الإجابة التي ننتظرها من العالم هنا أن ينظر في حكم الفرقة، كذلك، فيقول "نعم هو صحيح من وجهين، وجه استراد الحق والموت دون المال والعرض شهادة، والثاني أن هؤلاء قد سلبوا الحقوق غصباً صائلين، فيجب استعادتها منهم". فهذه فتوى لهذا السؤال.
      • لكنها كذلك حكم شرعيّ لمن سأل "هل استرداد الحقوق التي اغتصبتها الحرورية من السنة صحيح في وقت تعرضهم إلى الحملة الصليبية" فهنا يجب أن يعود العالم إلى تحقيق مسألة تلك الحملة، هل تقع عليهم وحدهم أم على كلّ المسلمين؟ هل يستنفذ هذا الاسترجاع قوى مطلوبة لمواجهة عدو كافر صائل أم لا؟ فسواء أجاب "لا، لا يجب محاولة استرداد هذه الحقوق في وقت الحملة الصليبية"، أو أجاب "نعم، يجب محاولة استرداد هذه الحقوق في وقت الحملة الصليبية" فقد قصّر في الفتوى.
      • إذ إن ذاك حكم شرعيّ لمن سأل (1)"هل استرداد الحقوق التي اغتصبتها الحرورية من السنة صحيح في وقت تعرضهم إلى الحملة الصليبية، وهم صائلون علينا لا يزالون، وقتالهم لا بد منه لهذا السبب في هذه المحلة" أو (2)"نحن في محلة لا يتعرض الحرورية فيها إلى قصف ولا غيره، ونحن مستضعفون، فهل نحاول استرجاع الحقوق" أو (3)"نحن في محلة لا يتعرض الحرورية فيها إلى قصف ولا غيره، ونحن أقوياء ولدينا القدرة على استرجاعها، وهم لا يصولون علينا هنا".
      • والاجابة عن كلّ واحد هذه الحالات تختلف الفتوى عن الآخر، ففي حالة (1) تكون الفتوى "نعم يصح قتالهم واستعادة الحقوق إن أمكن". وفي حالة (2) تكون الفتوى "لا يصح قتالهم، لحالة استضعافكم، واحتمال المفسجة عليكم اكبر من تحصيل المنفعة"، وفي الحالة (3) تكون الفتوى "نعم يصح استرجاعكم للحقوق المسلوبة بلا خلاف" .. وهكذا.

      والقصد هنا هو أن نُظهر للمستفتي أن يكون حذراً في الأخذ عن العالم، فإن في صحة السؤال وتمامه صحة الفتوى ودقتها. لذلك فإننا نلفت انتباه علمائنا إلى هذا الأمر، إن أرادوا إصدار بيانات أو توجيهات للأمة بعامة، أنْ يكونوا غاية في الدقة في تحديد مناط قولهم، وفتح الباب أمام استكمال الفتوى في الحالات المختلفة الأخص، لأننا نعلم أنّ المستمع يلجأ عادة إلى تطبيق العام على الخاص، ومن هنا أُتيت غالب الفرق البدعية.

      والله غالب على أمره،

      د طارق عبد الحليم

      23 ذو القعدة 1435 – 18 سبتمبر 2014