الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد
عنوان يحمل في طياته أكثر مما يحمل مجلداً. فإن فقه الأولويات في الشريعة هو أسّ إقامتها، وبوابة تطبيقها. وهو الفقه الذي تحدث فيه الكثير في عصرنا هذا، حديثا تأرجح بين غثّ وسمين، ومُحّرفٍ وأمين، وركيك ورصين. فإن كلّ أمرٍ من أمور الشريعة، أو الفكر بعامة، وتطبيقها، يمكن أن يُحمل محاملاً تتعدد بعدد العقول الناظرة فيها، وصدق الله العظيم "وَلِكُلٍّۢ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَٱسْتَبِقُوا۟ ٱلْخَيْرَاتِ"البقرة 148، أي إن كلّ ناظرٍ في الدين، مولٍ وجهة فيما أرسل الله سبحانه، فوجّهوا وجهة الخير التي هي طاعة الله وإتباع سنة رسوله صلى الله عليه وعلى وسلمن ومنها القِبْلة.
ولا يخفى على أحد ما تمرّ به الأمة، لا أقول اليوم، بل منذ قرابة قرنين من الزمان، من محن متتالية، ومصائب متراكبة، يأخذ بعضها بزمام بعضٍ، تعمل على هدمها وتشتيتها. كما لا يخفى على الفطن اللبيب، أنّ واقع اليوم هو حصاد الأمس، وتوسم المستقبل. واضطراب الأولويات ينعكس انعكاسا آنياً على المستقبل، كما أن مصدره عدم فهم الأمس وأحداثه وتبعاتها.
والأولويات، في النظر الشرعيّ، تأتي في حديّ الفتوى، الحكم والواقع. فإن من الأحكام الشرعية ما تحدّد كأولويةٍ بنصٍ أو إجماع، مثل أولوية الفرض على النفل، والزكاة على الصدقة، والدَيْن على الزكاة، وغير ذلك مما لا يحصى. كما تأتي الأولوية في الواقع، من حيث القدرة والاستطاعة، وتوجهات الترجيح بالمرجحات بين الواجبات الشرعية، إن تساوت في رتبتها، حسب المصالح والمفاسد.
وهذا الشقّ الأخير هو ما طاشت فيه العقول وتخبطت فيه الآراء والحلول. فإن مشكلة تقدير الواقع، على حقيقته، أو أقرب ما يكون لها، هي عويصة العويصات ومعضلة المعضلات. وبناء الأولوية لفعل دون آخر إنما هي مبنية على هذا التقدير، إلا إن كان مما ثبت فيه النصّ أو الإجماع. وحتى ما ثبت فيه نصّ أو إجماع، رأينا علماء الدياثة والسوء ومروّجي الكفر، بعمائم كرحى المطحنة، يشاحنون فيه، كما شاحنوا في حكم الزنا والردة والربا والحجاب، وكل نصّ في الشريعة. لكننا هنا لا نتحدث عن هؤلاء، فهم خارج دائرة العقل والدين.
كما أنّ الأولويات تتغير حسب المكلف بها، فرداً أو جماعة، وتتمايز أوضاعها بينهما. فما هو بأولوية للفرد، قد يكون تالٍ للجماعة، والعكس. ومثال ذلك جهاد الدفع. فهو واجب قائمٌ اليوم على الأمة، لا يصح أن تتأخر عنه. لكنه غير واجب على كلّ فردٍ عيناً إلا بالاستطاعة والقدرة.
كذلك الأمر في باب المعاملات مع الكفار، ومع المبتدعة، ومع المخالفين من أهل السنة. فإن هذا باب واسع المدى، عميق الغور، بحر لا ساحل له. وهو الأمر الذي أحسب أنه يواجه كافة طوائف المجاهدين اليوم، وبه انحرف من انحرف عن الجادة، سواءً من باب الحكم أو الواقع.
ولا يختلط الأمر على القارئ بين الفتوى وبين فقه الأولويات. ففقه الأولويات أخص من الفتوى، إذ هو تقديمٌ وتأخير بين فتاوى محتملة في أمرٍ واحد.
وحين تحدثنا عن شقِّ الحكم في فقه الأولويات، فإنما ندل بذلك على أنّ علاج اعوجاجه، وتصحيح انبعاجه يقوم على علم من يتصدى له، من الناحية الفقهية. وفاقد العلم، غير المتحقق به، لن يميّز بين أولويات شرعية.
وحين تحدثنا عن شقِّ الواقع، شقّ الحكم، في فقه الأولويات، فإنما ننبه بذلك عن درجة وعي من يتصدى للعلاج، سواء بالأحداث الواقعة، وأهمية كلّ منها، مصدراً ومآلاً، أو بتحليلها وإرجاها إلى مسبِبَاتها الرئيسة الصحيحة. فإن من الأمور ما ما قد يجلُّ خطره، لكنه مآل خطره بعيد آجل، ومنها ما قد يقل فساده، لكن مآله حاضرٌ آنٍ.لنضرب مثالاً من تلك المواجهات الدامية على مسرح عمليت الشام. فالجبهات المتقاتلة تنقسم إلى خمس تكتلات:
- جماعات وجبهات أهل السنة ومن تابعهم، سواء على انحراف أو لا.
- جماعة الحرورية العوادية
- الرافضة في العراق
- النصيرية في الشام
- وأخيراً، التحالف الدولي، الذي سيدخل على الساحة في القريب العاجل
والعوامل التي يجب أن يتخذها أهل السنة في الحسبان، هي، على وجه الإجمال:
- التعرض للقتل والتصفية الجسدية من جهة التكتل.
- معرفة العدو وكشف أمره لدى طوائف الشعب.
- خطورة التكتل على مستقبل البلاد إن سيطر.
- مدى القرب والبعد عن الإسلام
فإن نظرنا إلى هذه العوامل، وجدنا أنّ:
- كلّ التكتلات تتفق في قتل المجاهدين، وتصفية رؤوسهم، وتشريدهم، سواءً بدعوى الردة عند العوادية، أو بدعوى الخروج على النظام القائم عند النصيرية والروافض.
- الحرورية العوادية أخفى وأخطر من النصيرية والرافضة لخفاء نياتها وتدسسها باسم الإسلام. فهم كطائفة المنافقين بين المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم التحقق بأعيانهم، والنصيرية والرافض مثل كفار قريش، واضحة معالمهم ومعتقداتهم.
- لا شك أنّ النصيرية أخطر الفصائل لو تمكنت من الاستمرار في الحكم، تليها الرافضة في العراق، ثم الحرورية العوادية.
- النصيرية كفار مرتدون (أو أصليون حسب خلاف فقهي)، والرافضة الإثني عشرية والحرورية العوادية كلاهما أهل بدعة مغلظة في أصلٍ كليّ.
- التحالف الدوليّ، أمره لا يمكن البتّ فيه، فالعدو في الجوّ، وهو صائل، ويعود أمره إلى ما سيدعم به الروافض أو النصيري (إن دعمهم علناً). فليس له في هذا التحليل محلّ، إلا من جهة التعاطف!
- الأمر بقتال كل تلك التكتلات، ثابتٌ شرعاً، فكلهم صائل على المسلمين
وبالنظر إلى هذا التحديد والتحليل، نرى أنّ الخطر القائم الآن، يأتي من جهة الحرورية العوادية، والقائم في المستقبل من جهة الرافضة والنصيرية.
ومن ثم، فإن من اعتبر فقه الأولويات، رأى أن:
- يتعين قتال الحرورية العوادية أولاً، في الأماكن التي تجرى فيها عمليات القتل والاغتيال للقادة خاصة.
- في الأماكن التي لا يتواجد فيها الحرورية، أو تواجدوا دون صولة، فإن قتال الروافض والنصيرية أولى.
ولا يتعلقن أحد بما يقولوا عن فتوى المالكية بمساندة الخوارج ضد الروافض الفاطميين، فإن الخوارج وقتها لم يكونوا صائلين على أهل السنة، يقتلون قادتهم ويحزون رؤوسهم، بل كانت لهم دولة مستقرة، يعيش فيها الحرورية مع السنة.
من هنا، فإننا نوصى شرعيّي أهل السنة أن ينظروا في هذه الأبعاد، وأن يقدروها تقديراً صحيحاً مبنياً على تحليلات دقيقة، تعتبر كلّ الأوجه، وخاصة من زاوية هذا الفقه العزيز، فقه الأولويات.
د طارق عبد الحليم
16 ذو القعدة 1435 – 11 سبتمبر 2014