الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وبعد
عرفنا من عبر التاريخ، أن الأفكار، صحيحها وخبيثها، لا تموت بموت أصحابها أو هزيمتهم. بل تستمر بعدهم تحيا من وقود أتباعهم، الذين يتجددون ويتوالدون ويسيرون على نفس الفكر والنهج، صحيحا كان أو خبيثاً. والفرق بين الصحيح والخبيث، هو في استمرارية كليهما وقدرته على الصمود لفترة أطول، يستمد الحياة من خلال الأتباع.
ففكرة التوحيد، أصح الفكر وأجلها، دامت منذ أبينا آدم إلى يومنا هذا، صارعت وتحرفت وتشكلت، لكن بقيّ أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. أمّا الأفكار الخبيثة، فهي أكثر من أن تُعد أو تحصر على مرّ التاريخن والشاهد عليها، كتب الفلسفة، وكتب الفرق، المتفرعة من كلّ الأديان، الإسلام وديانات الكتاب، كلها بادت أو كادت، لا تجد لأكثرها اليوم أثراً إلا شذراً مذرا.
لكن،من المشاهد المعقول أيضاً، أن من تلك الأفكار الخبيثة، ما له نسب بالحق، كما في الفرق التي تنتسب للإسلام. وهذا النسب يمدّ في عمرها، ويعطيها زخما إضافياً يعينها على الحياة، وعلى العودة للسطح مرة تلو الأخرى.
ومن أسوأ تلك الإفكار والمناهج والأفكار الخبيثة، الفكر الحروري، المنتسب للإسلام، والذي يعود إلى الحياة بين الفينة والفينة، لانتسابه إلى الإسلام، ولظروف وعوامل اجتماعية تساعد على طفوه على السطح.
لذلك فإنه من أوجب الواجبات، هو صدّ غائلة هذا المنهج، وردّ صولته على العقول، وتحرير مذهب السنة الأصيل الطاهر، من خبث هذا الدخيل المعتدى. وهي الطريقة المثلي، بل والأوحب، في مقاومة هذا الفكر الممنهج الخبيث، وبيان أنّ نسبه للإسلام كما في حديث رسول الله "وللعاهر الحجر"!
وهذا الصراع يكون بطريقين أساسين، أولهما بيان تهافت هذا الفكر وسقوط أسسه ومنهجه، لقطع صلة النسب بالإسلام، والثاني هو بيان الإسلام في صفائه وطهره وشموليته، فبهذا يتمايز الضدان، ويفترق المختلفان.
فأما عن بيان تهافت هذا الفكر وسقوط أسسه ومنهجه، فوسيلته بيان أصله البدعي الكليّ، قبل بيان خبث فروعه وما يترتب عليه. فالهجوم على الأصل وقاعدة الفكر، هو الطريقة المثلي لتفكيكه والقضاء عليه. ففي مثالنا هذا، يكون الأولى بالبيان، هو أن أصل الحرورية "تكفير المسلم بما ليس بمكفر عن أهل السنة، ثم استحلال دمهم وقتالهم علي ذلك"، والنكتة هنا هو التفرقة بين "ما ليس بمكفر" على عمومها، وبين "التكفير بالمعصية" الذي هو خصوص عن الأول. كما كفّرت الحرورية الأول علي ومعاوية رضي الله عنهما، بموضوع التحكيم، وهو ليس بمعصية من قبيل الزنا والسرقة. ثم يكون بعد ذلك بيان مضادة مذهبهم للسنة في التعامل مع المخالف، وفي أحكام الردة، وسائر ما يترتب على هذا الفكر الخبيث من تمزيق للأمة وتشتيت شملها.
وأما عن بيان الإسلام في صفائه وطهره وشموليته، فإن هذا يأتي في سياقين، سياق بيان خبث النظر الحروريّ ومضادته للسنة، وفي سياق بيان الإسلام في صفائه وطهره وشموليته في مسار الدعوة، مع المقارنة المستمرة بالمنهج، أو المناهج الخبيثة الدخيلة على الإسلام. فيكون مثلا الحديث عن فقه تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الكفار، متى يقاتل ومتى يدعة، ومتى يصفح ومتى يردع لا يرحم. ثم بيان تمييزه صلى الله عليه وسلم، بل تمييز الكفار عن بعضهم البعض، في التعاملات، وانعكاس ذلك على كثيرٍ مما يجب فيه الاجتهاد اليوم، وعن طريقة معاملة الأسرى، وغير ذلك من تفرعات كثيرة، ترسم صورة الإسلام السني، وحدوده، وتبين أنه لين في موضع اللين، شديد في موضع الشدة "أشداء على الكفار رحماء بينهم".
وهذا البيان، وهذا الفضح للخبث، هو مسؤولية العلماء المنوط بهم مثل هذا البيان. وفح الخبث دون تقديم البديل في أبهى حلة لا يؤدى إلى المطلوب. كما أنّ توضيح التوحيد دون فضح الخبث وبيان عواره، بلا مواربة ولا مجاملة ولا عوامل مصالح ومفاسد موهومة، لن يؤدى إلى شئ من زعزعة هذا الباطل الخبيث. ولنا في المنهج القرآني عبرة، إذ إن نصفه في فضح الكفر والخبث والانحراف، ودحض حجج المخالفين، ونصفه في بيان التوحيد الصافي الصادق. جنبا إلى جنب، يتجاور الفضح والبيان.
بغير هذا النهج، فإن الفكر الحروري، كما حدث مع السكوت عن الفكر الإرجائي، سينتشر ويؤدى إلى كوارث أعمق من كارثة العراق والشام، كارثة قد تودى بالعمل الجهاديّ لتحرير بلاد المسلمين من طغاة العرب والعجم وصهاينتهم، سنين بل قرون عددا.
ولهذا، فإن المسؤولية في هذا الدور لا تقع على المجاهدين في الساحة، فهؤلاء يذودون عن النفس والعرض والمال حالاً، وهذا الدور يحميه مآلاً، فهو مسؤولية من هم خارج الساحة، ولا أراهم قائمين بها على الوجه الأمثل، ولا قريب منه!
د طارق عبد الحليم
10 ذو القعدة 2014 – 5 سبتمبر 2014