فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      من أسس قيام الخلافة الإسلامية النبوية .. ميزان الواقع

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد

      من المقطوع به أنّ عالم اليوم ليس بعالم الأمس، بل يختلف عنه اختلافاً جذرياً، في عالم الوسائل على أقل تقدير. وهي ضرورة بدهية لا محل لمناقشتها. ومن ثمّ، فإن متطلبات عالم اليوم، تختلف اختلافاً جذرياً عن متطلبات عالم الأمس، للوصول إلى ذات النتيجة. فالأمس مثلا، كان المرء يحتاج مسيرة شهر من العراق إلى الحجاز، واليوم، يطوى الناس المسافة في ساعة زمن. فالوسائل المؤدية إلى غاياتها، تبدلت بلا حد يعرب عنه ناطقٌ بفم. وهذا التحوّل العميق، قد سرى أثره في كافة ما يعنى الجنس البشري من مناحٍ في كلّ مجال. ومن العبث أن يُقال أنّ المسلمين مستثنون من هذا التحول لأيّ سبب كان. بل هو واقعٌ جديد من الامكانيات والوسائل، يخضع له كلُّ من يحيا في عالم اليوم، ولا يتيه بأوهامه في عالم الأمس.

      كذلك، فإن من المقطوع به، أنّ كليات شريعة الله سبحانه وأصولها وضوابطها، لا تتبدل ولا تتغير، فهي الثابت الأصيل في كونه سبحانه. وهذه الأصول والكليات والضوابط، قد أنزلها الله سبحانه في كتابه، نصاً ومفهوماً. كما بينتها سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قولاً وعملا، بياناً وتفسيراً. فلا مجال أن يتفلت منها المسلم إلا أن يتفلت من الإسلام ذاته.

      وحيث أن الفتاوى الشرعية، وبالأحرى هنا، النظر الشرعيّ، هو نتيجة نصوص ومفاهيم، تنطبق على واقع حيّ بأحواله ووسائله، فهي إذن خليط بين هذا الثابت القائم الذي لا يتحول، وبين المتغير الدائر الذي لا يثبت على حال. وهو ما يعرّفه علماء الأصول بإسقاط النص على المناط. ومناط عالم اليوم، برمته، يختلف عن مناطها في الأمس، كما نوّهنا.

      وقد عِبنا، وما زلنا، على أصحاب "التجديد" البدعيّ، الذي يقصد إلى تبديل الإسلام إلى مسخٍ بدعوى التغير في العالم ومعطياته، وحملنا عليهم حملات نقد لاذع تجدها منثورة في مقالاتنا، من حيث أرادوا المساس بالكليات والأصول والنصوص الثابتة، وإجرا عمليات "تجميل" و"تجديد" لها. فمثلاً، إنكار حدّ الردة أو الحجاب، أو تجديد أصول الفقه، وما شابه ذلك مما رأينا في مكتوبات "مفكرين إسلاميين" لا صلة لهم بإسلام النبوة الذي جاء بشرع الله المنزّل، الذي أرادوه شرع الله المُجدد.

      ومن هذا النظر، فإن الحكم الشرعي بإقامة "الخلافة" الإسلامية، أو الإمارة، أو الدولة، أو كيفما تسميه، من كيان يقوم على مصلحة المسلمين، ويلم شملهم ويحمى بيضتهم وينشر دعوتهم ويحقن دماءهم، ثابت من جهة طلبه ووجوبه، لكن وسائل الوصول اليه تختلف كلية عن وسائل الأمس، وطرق الأمس وتصورات الأمس. فما نقصد اليه هنا، هو ما أشرنا اليه من ضرورة اعتبار المتغيرات الهائلة في "الوسائل" لا "المقاصد".

      وفي عالم اليوم توازنات وقوى لا يمكن تشبيهها بقوى العالم بالأمس، لا الدولة الرومانية ولا الفارسية ولا البيزنطية، لا حجماً وانتشاراً ولا وسائل وتقنية. فالمسلمون اليوم يعيشون بين أقطاب كبرى تتمثل في الشرق البوذي والشيوعيّ، والغرب الصليبيّ الصهيوني. وكلاهما يمتلك من الوسائل ما يفتقده العالم الإسلامي كافة، لا تحصيلاً ولا تقنية ولا تصنيعاً. وهذا بالطبع ما أراده العدو أن يكون حين وضع الحكومات المرتدة العميلة، إما فقيرة، شعبها فقير، فلا مجال لامتلاكها وسائل اليوم، وإما غنية شاردة فاسدة تفسد ولا تصلح، تبني أبراجاً وأسواقاً وأشجار كريسماس، وتدفع للغرب ثمن حمايتها، أعز ما تملك، كرامتها وكرامة أهلها.

      وتغير النظام العالمي اليوم ليس فقط في تسليحه وتقنيته، بل في تعقيدات اقتصاده وسبل الحركة فيه. فقد رأينا كيف أن ذلك التنظيم العواديّ، حبيسٌ في دائرته التي سُمح له فيها بالتورم، ليس له جواز سفر أو وثيقة هوية يعترف بها أحد. ومن ثم، فهم مجبرون على انتحال صفة دول أخرى "كافرة" ليتحركوا في عالم اليوم.

      ومن ثمّ، فإن فكرة إقامة "دولة" وبالأحرى "خلافة"، إلى جانب ما ناقشناه من قبل من تصوراتٍ تتعلق بإقامة دولة الإسلام[1]، هي أمرٌ يستدعي تدبيرات وتنسيقات بين أصحاب القدرة الشرعية والعسكرية في الكيان السنيّ الحاليّ، أو من نسميهم "أهل الحل والعقد" عن طرق إقامة تلك الدولة حقيقة، لا وهماً، ولا إعلانا أجوفاً.

      إن إقامة مثل ذلك الكيان، هو التحدى الأكبر للمسلمين في كلّ انحاء الدنيا. وهو ما لم تنجح فيه جماعة بعد سقوط الخلافة إلى اليوم، إلا طالبان، حيث كان كيانها مستوف لشروط "الدولة"، من استقلال ذاتيّ وتمكين على الأرض.

      ويجب أن ننبه هنا إلى أنّ اعتبار كافة المتغيرات في الواقع العالميّ، ودراستها وتكييفها ومعرفة أثرها، لا يعنى الخضوع لها أو حتى الاعتراف بها. بل يعنى تحقيق مناط الواقع بشكلٍ أكثر دقة وتمييزاً، ليكون الهدم على قدر ما يجب، والبناء على قدر ما يمكن. فإن من هدم في الكيانات القائمة أكثر مما يلزم، مثلما يفعل التنظيم العواديّ بهدم الكيان الإسلامي القائم كله عن ظريق اعتبار كلّ من عداهم كفار مرتدون، ثم محاولة البناء على من هم في صفه، هو خبلٌ واستهتار وعدم إدراك لواقع الحال. كما أنّ ما تحاوله الإخوان من بناءٍ على تصدعات هارية متآكلة لا ينتج عنه إلا بناء آيل للسقوط ابتداءً كما في دولة محمد مرسي.

      فالهدم إذن يكون بقدر، والبناء إذن يكون بقدر. وهذا التناسب والتقدير هو من سمات أهل السنة، الذين يسيرون على هدي القرآن في سنن الله تعالى، فاعتبارها مبنيّ في فطرهم قبل عقولهم وفهومهم، قال تعالى "وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍۢ فَقَدَّرَهُۥ تَقْدِيرًۭا"الفرقان 2، وقال تعالى "رَبُّنَا ٱلَّذِىٓ أَعْطَىٰ كُلَّ شَىْءٍ خَلْقَهُۥ ثُمَّ هَدَى"طه 50. فالهداية وحسن التقدير هما فطرة الله بهد الخلق، يؤتيهما من يشاء ويضل عنهما من يشاء.

      د طارق عبد الحليم

      27 شوال 1435 – 23 أغسطس 2014


      [1]  http://www.tariqabdelhaleem.net/new/ArticalList-137