الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد
لا شكّ أن الفكر الجهاديّ، ومن ثم، العمل الجهاديّ، الذي أقصد به أساساً تحرير أرض المسلمين من إحتلال الحكام العرب وجيوشهم، المرتدين منهم والنصيرية الكفار والروافض، على حدٍّ سواء، يمر اليوم بأخطر أزمة في تاريخه الحديث. وتلك الأزمة تتمثل في المستوى الفكريّ، الذي ينعكس مباشرة على الأرض، في العمليات ضد الاحتلال العلماني، ودفع الصائل المعتدى.
وهذا الفكر الجهاديّ، المَعنيّ بدفع الصائل، داخلياً وخارجياً، قد أصبحت تتداخل فيه الأمور الشرعية وتتشابك بشكل فير مسبوقٍ اليه، حتى عمي عنه، أو بعضه، حتى بعض منتسبي العلم، بله العامة!
ذلك أنّ الواقع المرير الذي تعاني منه الشعوب "المسلمة" في أرضنا "المسلمة"، قد أفرز اتجاهات فكرية عِدة في التعامل معه، كلها يدعى الانتساب للكتاب والسنة، وكلها يتناقض فيما بينه تناقضاً لا تلاقي بينه!
وذاك الواقع لم يعد خافيا على أحدٍ، سواء من العلماء أو من طلبة العلم، بل ولا على كثير من العوام، منّ الله عليهم بفضل الفهم الفطريّ لدين الله، دون الدخول في تفاصيله.
والواقع العقديّ اليوم، كما كان على مرّ القرون السالفات، فيه من كلّ أنواع الفرق البدعية والكفرية، بكافة درجاتها وأطيافها تعيش جنباً إلى جنب مع الفكر السنيّ الخالص الصافي، تنازعه عقول الدهماء، وتسلُبه أكثرها. ففيها الفكر الإرجائيّ، والفكر الحروريّ، والفكر الصوفيّ، والفكر المُعتزليّ، والفكر الإلحاديّ الذي يُعرف في زماننا هذا بالعلمانية. وقد زاد عليها مركّبٌ جديد من تلك البدع، أطلقوا عليه "السلفية"، فتميز أهلها بصفات خاصة، جمعت قليلاً من السنة، وكثيراً من الارجاء، بدأت في المملكة السلولية، وخرج بعض منتسبيها إلى كفر بواح.
لكنّ لم تكن كلّ تلك الاتجاهات الفكرية مؤثرة في الواقع السياسيّ على الأرض، لأحد سببين أساسين، إما لأنّ التصور العقدي لا يقوم على فكرة تبديل الحكم القائم، خذلانا أو بدعة كالمداخلة أصحب عبادة ولي الأمر، وغيرهم من مبتدعي السلفية، والصوفية أحباب السلاطين، والمعتزلة "العقلانيين" المواكبين للحكم الغربيّ في أية صورة جاء.
أو أن يكون التصور العقديّ قائمٌ على تبديل النظم الحاكمة، مثل بعض فرق المرجئة كالإخوان، أو منتسبي الاعتزال كحزب التحرير، لكن هذه التصورات فشلت في إدراك حقيقة الفكرة الإسلامية حول التغيير، وفهم الواقع المحيط، ومن ثمّ إدراك الوسيلة للتغيير، وهي شحذ الهمم، وإيقاظ الأمم للجهاد.
أو أن يكون التصور العقديّ قائمٌ على تبديل النظم الحاكمة لكن بحرورية عقدية تؤمن بالتغيير بالقوة، ولا أعنى بالقوة الجهاد، إذ الجهاد لا يتوجه لأمة محمد، بل للعدو الصائل، وهؤلاء يقتلون أهل الإسلام ويتهاونون مع أهل الأوثان، مثل جماعة شكري مصكفي في مصر، التي كانت أعظم إنجازاتها قتل الشيخ حسين الذهبي بتواطئ مع المخابرات المصرية، وزوابرية الجزائر الذين قتلوا مشايخ جبهة الإنقاذ، والعوّادية العراقية، الذين يعيثون في الأرض فساداً اليوم باسم تطبيق "الحدود"، بعد أن قتلوا عدد من مشايخ الجهاد وأمراء السنةّ، غير عوام مساكين كثر.
وقد وقفت العامة، دائما، في صفّ اتجاهين رئيسين من تلك الاتجاهات العقدية البدعية، أولهما الارجاء، الذي تبناه الحكام على الدوام، حتى كفروا من خلاله في العصر الحديث، ومن ثم تبنته العامة لقربه من طبيعتها الجاهلة، وإفساحه المجال للفسق والخروج عن الشرع دون مؤاخذة، ولتمكينهم من الحياة "السلمية" مع الحكام" دون تصادم. والاتجاه الآخر، هو الصوفية، التي كان لها النصيب الأكبر في عقول وقلوب العامة، ممن اختار البعد عن خط السياسة ابتداءً، وسلّم ما بقي له من عقل للوليّ الذي يتبعه. وهم في هذا أقرب ما يكونوا من مرجئة المداخلة، الذين يسلمون قيادهم إلى وليّ أمرٍ واحد، هو الحاكم، يطيعونه طاعة عبادة فيما يخالف الشرع، بينما الصوفية يسلمون ما يسمونه عقولهم إلى أولياء عدة، يعبدونهم من دون الله.
أما الاتجاه السنيّ في التغيير، ودفع الصائل، دون عدوان إلا على الظالمين، فقد تبناه عددٌ من التنظيمات، على رأسها تنظيم القاعدة، وإن كان توجهها قد انصبّ على محاربة الصهيو-صليبية، قبل القضاء على الصائل الداخليّ الأصيل، الذي هو وسيلة البلاء الأولى، بدافع من الصائل الخارجيّ. وقد كنت على الدوام ممن يتبني توجيه الانتباه إلى أنّ الجهاد يجب أن يتركز في الداخل المريض، وفي الداخل المريض وحده، دون صرف جهد في استعداء أمم، يمكن تقليل شرّها لحين إعادة بناء الأمة داخلياً واستعادة الحكم فيها.
هذه الصورة السريعة التي رسمناها للخطوط العقدية المتشابكة تعطينا تصوراً لما يجب أن يسير عليه الفكر الجهاديّ في المرحلة القادمة، سلبا وإيجابا. سلباً بهدم الفكر الخاطئ المنحرف دون هوادة، وإيجاباً بالحركة لدفع الصائل الداخليّ بأشد قوة ممكنة.
وتفاصيل ذلك، في الجانب السلبيّ:
- محاربة الفكر الأخطر على الواقع اليوم، وهو الفكر الحروريّ المتمثل في منهج العوّادية، والذي أصبح فتنة للشباب المنخدع، حتى بعض منتسبي السنة منهم. ومن ثم، إيقاف زحفهم وتورمهم في العراق والشام.
- محاربة الفكر الإرجائي الذي يؤمن بالتغيير السياسيّ من خلال ديموقراطية شركية، والذي يتيح العمالة باسم المصلحة، والخيانة باسم التعاون، والضعف والهوان والاستسلام باسم "السلمية"، وإظهار عواره وعدم جدواه، الذي أثبتته جماعة الإخوان على مدى ثمانين عاماً من المحاولات، انتهت بها إلى السجون والعذيب والاعدام!
- محاربة الفكر الإرجائي الموالى لطواغيت الحكام، كفراً وبدعة، كالمداخلة والبرهامية، الذي هم كحية تسعى في جسد الأمة.
- محاربة الفكر الصوفيّ المدمّر للأمة، وإن كان ذلك ليس على قائمة الأولويات اليوم، لتقدم الفكر الأخطر على الأرض، وإراقته للدماء المعصومة.
- التحذير من الفكر المختلط، السروريّ، الذي يتلون حسب الوضع القائم، فيهادن تارة ويهاجم تارة، ويرفض حتى دفع الصائل في كلّ التارات.
- التحذير ممن يسمون أنفسهم "العقلانيون"، وإن كان أثرهم كامنٌ محدود بالنسبة للخطر العوّادي، مثل محمد المسعريّ
أمّا على الجانب الإيجابيّ فالواجب:
- نشر الفكر السنيّ على منهج الصحابة والسلف الصالح، البرئ من البدع والانحرافات العقدية.
- إيضاح التصرفات الصحيحة المبنية على التصورات الصحيحة، أيّ كيفية بناء العمل الصحيح على الفكر الصحيح، فالربط بينهما مشكلة طاة في أوساط العاملين في المجال السنيّ الجهاديّ والدعوى على السواء.
- دعم الحركات والجماعات السُنِّية البعيدة عن البدعة، بكل الوسائل المتاحة شرعاً، وتوجيهها لتنقية صفوفها من جرائيم الإرجاء الإخوانية، وبلاءات العواديةّ الحرورية.
والله ولي التوفيق
د طارق عبد الحليم
16 شوال 1435 – 12 أغسطس 2014