الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد
لا شك أنّ إقامة الخلافة واجبٌ شرعيّ، ثبت بالسنة الصحيحة، كما إنه ضروريّ وضعيّ، لا يمكن أن تستمر الحياة المتحضرة دونها، فالاجتماع هو سمةً العصر الحديث. لذلك فإنّ العدو الصهيو-صليبي يركّز على تفتيت الأمة، وتقسيمها إلى دويلات، لا حصر لها، كما يحدث في العراق وسوريا.
لكنّ إقامة الخلافة أمرٌ، وإعلان قيامها أمرٌ آخر بالكلية. فالخلافة كيانٌ لا اسم وإعلان. ومن ثمّ، فإن لها صفات ومقومات يجب أن تتوافر قبل إعلانها لا بعده. والأهم من ذلك أنّ لها حقيقة ومقصد يختلف عن مقوماتها، يجب أن يتوفر فيها قبل أن يعمل الناس سعياً لإيجاد مقوماتها.
ولن أتحدث عن مقوماتها هنا، إذ عالجناها بتوسع في بحثنا "قيام دولة الإسلام بين الواقع والأوهام"[1]. لكنى سأركز على مقصد الشرع من إقامة الخلافة.
أمّا عن مقصد الخلافة فتجمعه كلمة واحدة، الرحمة. فإن موضوع الخلافة هم المؤمنون. والرحمة بالمؤمنين هي موضوع الأحكام الشرعية كافة، من حيث جلب المصلحة والتيسير لهم ومنع الضرر والتعسير عليهم. فالغرض الأصلي من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هو الرحمة، قال تعالى "وَمَآ أَرْسَلْنَـٰكَ إِلَّا رَحْمَةًۭ لِّلْعَـٰلَمِينَ"، هكذا بصيغة الحصر، لا لتعذيبهم، أو إقامة الحدود عليهم، فإقامة الحدود تنبع من الرحمة، ولا تصح إلا معها. وقال تعالى في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم "لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌۭ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌۭ رَّحِيمٌۭ" وقال: "فَبِمَا رَحْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ". فالرحمة هي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بها تعامل مع الناس، وبها أتي لتوجيه الناس اليها، وبها يجب ان يتصف من يخلفه قياما على شؤون عباد الله من أمته.
وقد جاءت كلّ أحكام الشريعة، بلا استثناء، رحمة على العباد، لا عقاباً لهم، أو شدة وتنطع عليهم. انظر إلى قصة تلك المرأة الغامدية التي أقرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالزنا، وظهر عليها أثر الحمل، فأعرض عنها، ثم لمّا أصرّت، أمرها أن تذهب حتى تضع حملها، فلما جاءته برضيعها، أمرها أن تذهب حتى ترضعه وينفطم، فذهبت ثم جاءته، فأمر برجمها،. جاء في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم"جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ مِنَ الأَزْدِ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ طَهّرْنِي. فَقَالَ: "وَيْحَكِ ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللّهَ وَتُوبِي إلَيْهِ". فَقَالَتْ: أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدّدَنِي كَمَا رَدّدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ. قَالَ: "وَمَا ذَاكِ؟" قَالَتْ: إنّهَا حُبْلَىَ مِنَ الزّنَىَ. فَقَالَ: "آنْتِ؟" قَالَتْ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهَا: "حَتّىَ تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ". قَالَ: فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ حَتّىَ وَضَعَتْ. قَالَ: فَأَتَىَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قَدْ وَضَعَتِ الْغَامِدِيّةُ. فَقَالَ: "إذَاً لاَ نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيراً لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ" فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: إلَيّ رَضَاعُهُ، يَا نَبِيّ اللّهِ! قَالَ: فَرَجَمَهَا"، وكله رحمة بها وبولدها. وعن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُ قَالَ: أَتَىَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحّىَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتّىَ ثَنَىَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرّاتٍ، فَلَمّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، دَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: "أَبِكَ جُنُونٌ؟" قَالَ: لاَ. قَالَ: "هَلْ أَحْصَنْتَ؟" قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ". فانظر كيف أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، رحمة به من إقامة الحدّ.
الأمر إذن ليس في تطبيق الحدود، بل في النفس البشرية التي تطبقها، وفي الروح التي تحمل عليها الناس من منطلق الرحمة بهم لا عقابهم. وأين بالله عليكم هذه الروح فيمن يتشفوا بقطع رؤوس المجاهدين، المحاربين للنصيرية والرافضة، وقتل نسائهم وأطفالهم، ثم التفاخر بهذا؟ هذا والله ما هو بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا والله عمل مرضي نفسيين يجب أن يحجزوا في معامل أبحاث، فلعلهم الحلقة المفقودة بين البشر والحيوان.
ثم انظر إلى مايسمونه خلافة إبراهيم عواد! وانظر قبلها إلى كافة الحرورية من قبل، تجد روح التشفي والغلّ والحقد على من يرونه يرتكب معصية، فيتشفوا في إقامة الحدّ عليه، دون رحمة، وكأن الله سبحانه بعثهم نقمة على الناس، لا رحمة بهم، فهم مخالفون لمقصد الشريعة من إقامة الخلافة على خط مستقيم.
ونحن لا ننكر إقامة حدود الله، حاشا لله، فهذا كفر بواح، لكننا نلحظ مقصد الشارع من الرحمة بالناس، فأينما نجد العذر عذرنا، وأينما نجد المخرج أخذناه، طالما فيه سعة على العباد، ولا يتعدى حدود الله. ومثال على قلة حظ تلك الجماعة من الفقه، ما فعلوه بذلك الصبي الذي صلبوه لإفطاره! ووالله الذي لا إله إلا هو لو حدث هذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان منه إلا أن ينصحه ويعلمه، فإن أعادها عاقبه بما هو في شرع الله، وما هو بالصلب، إذ قد رُبيّ هؤلاء في جوّ من البعد عن الشريعة عقوداً. فهم في هذا كمن يصلى فرضه، دون أن يلتقت إلى الله في صلاته، بل يقصد إلى إقامة شكل الصلاة حتى يكون قد أتم فرضه، دوت أن يهتم بروحها ومقصد إقامتها، وحتى يقول الناس قد صلاّها، فيعتمدونه إماماً لصلاتهم! وفيه من النفاق ما فيه.
إذن، فهذه الخلافة المسخ قد فقدت الطريق إلى تحقيق مقصد الشريعة، واكتفت بظاهر منها، وهو تطبيق بعض الحدود، لا غير.
ثم، هل تطبيق حد السرقة والزنا، هو وحده عمل الخلافة؟ لا والله، بل إنّ إتيان الخليفة بحقوق رعاياه مقدم على قيامهم بواجباتهم تجاهه. وقد عكس هؤلاء الحرورية البغدادية الآية، مرة أخرى. فقد طالبوا الناس، في كافة أنحاء الأرض، بمبايعتهم، قبل أن يقدروا على حمايتهم والذب عنهم. فماذا لو بايعوهم، فكان ذلك جالباً للتعذيب والسجي أو حتى القتل، عليهم من أنظمتهم المتمكنة في الأرض؟ كيف سيعين "الخليفة" على رفع هذا الظلم، ويكون لهم "جُنّة" كما هو مفروض عليه؟ أم هي مجرد كلمات وحواديت، ومسرحيات ومشاهد خلافة؟
لقد افتقدت هذه الخلافة الباطلة المزعومة مقصد الشرع في إقامتها، وفشلت في تحقيق أيّ مقوّم من مقوماتها إلا إعلانها! وهذا أمرٌ يقدر عليه كلّ أمير جماعة صاحب جندٍ وسلاح، في أي بقعة على الأرض، بلا استثناء.
الخلافة أكبر من إقامة الحدود، بعضها أو كلها. الخلافة تحقيق مقاصد الدين، في حين إقامة شرائعه وشعائره، وعلى رأسها الرحمة بالعباد.
د طارق عبد الحليم
28 يوليو 2014 – 29 رمضان 1435
[1] http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72693