فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      قيام دولة الإسلام .. بين الواقع والأوهام – دراسة سياسية تحليلية 9

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد

      ونعود قليلاً إلى ما سبق أن لمحنا اليه من معنى العصبية لتكتمل الصورة. "فالعصبية تجمع عنصرين، أولهما المُتَعَصّب له، والثاني المُتَعَصِّبون. والأول، المُتَعَصّب له، قد يكون فرداً أو فكرة، والمُتَعَصِّبون هم من يقفون وراء الفرد أو الفكرة، بقوة قادرة على حمايته أو حمايتها من أعدائهما". وغالباً ما يكون الفرد المُتَعَصّب له حاملاً لفكرة، إذ يصعب أن يكون فرداً لذاته محل تعصبٍ دون سبب، فالملوك تقف خلفهم فكرة الولاء والانتماء والاحساس بالذات المتميزة عن الغير عند الرعية، ورءوس القبائل تقرب من هذه الفكرة في العصبية، والأنبياء يحملون الفكرة الدينية، التي ترتبط بخصم ارتباطاً عضوياً محكماً. وقد يكون الفكرة أبرز من الفرد كما في حالة الفاشية والنازية، التي استعمل فيها هتلر وموسليني "الفكرة" أحسن استخدامٍ لتوظيف العصبية. ولذلك، نرى أنّ الجامعة العسكرية لا يمكن أن تكوّن عصبية ناجحة مستمرة، دون فكرة من ورائها. وهذا ما يميز كلب الروم السيسي عن الهالك عبد الناصر، فالأخير هذا قد سخّر فكرة القومة العربية من ورائه، فاكتسب الشعبية الجارفة مدة خمسة عشر عاماً، حتى بعد هزيمته النكراء في 67 ظلّ المتعصبون له على ولائهم، من باب التصاقهم بالفكرة التي يمثلها في عقولهم. والأول الأنكد، ليس من ورائه إلا قبضة عسكرية تضرب بلا تعقل أو تفكير في مآلات، ومن ثمّ فإن حياتها دائما سترتبط بقوة هذه القبضة، ولن ترتبط بشخصه يوما إذ لا يحمل فكراً ولا وطنية تجمع من حوله العصبة اللازمة للبقاء. والعسكر كانوا، وسيظلوا على ولاء لمن يدفع لهم، لا لغيره.

      تكملة: هل تقوم "الدولة" دون عصبية؟

      وقد رأينا أنّ العصبية الدينية قد لعبت دورها ابتداءً في إقامة ممالك آل سعود وآل الحسين في الجزيرة العربية، حيث اعتمد الأولون على مرجعية الشيخ محمد بن عبد الوهاب حتى نالوا الملك وعززوه، ثم حولوها إلى عصبية قبلية عائلية، فصلوا فيها الدين عن السياسة واقعاً، وإن لم يعلنوا واضحة. كذلك مع آل الحسين في الحجاز أولاً ثم في الأردن ثانيا، بالنسب القرشيّ، ثم بالعصبية العشائرية بعدها.

      وقد كان خطأ الإخوان الفادح هو أنهم ظنوا أنّ الدعوة الدينية كافية لإقامة الدولة دون العصبية المدعومة بالقوة، والتي تجسدت مصيبتها في قولتيهما "المشاركة لا المغالبة"، و"سلميتنا أقوى من الرصاص". والكلمتان قد آتتا أكلهما بالخيبة والخسران المبين، والسقوط المُزرى للجماعة ككل.

      والدعوة الدينية هي عصب الدولة النبوية بلا شك، وقد يقوم دول وممالك بغيرها، كما نرى في الغرب النصرانيّ، إلا إننا نتحدث هنا، على صنف العرب خاصة، وإن اشترك في الكثير مع بقية البشر. وصدق عمر رضي الله عنه "لقد كنا أذلاء فأعزنا الله بالإسلام ، فإذا إبتغينا العزة بغيره أذلنا الله". وهذه خاصية للعرب على وجه الخصوص، تشهد لها القرون الأربعة عشرة الماضية على الصحة والدقة. فلن تقوم لنا قائمة إلا بهذا الدين، والعصبية تحت لوائه.

      الفرق بين انتشار الإسلام قديما وحديثا

      وفي هذا الصدد، فإنه يجب أن نثبت الفرق بين تطبيق مبدأ العصبية بشكلٍ مباشر، كما استخدمها ابن خلدون، بناء على ما استشف بعبقريته من أحداث قيام الإسلام ودوله حتى عصره، وبين ما نحن فيه اليوم، فالفرق واسع شاسع، في الوسائل، وإن كانت المقاصد لا زالت قائمة لا تتبدل.

      لاشك أن العصبية الدينية في القرون الثلاثة[1] الفضلى لا يمكن أن يوجد لها مثيلٌ اليوم، من حيث قوتها ونقاء فهمها وحسن سيرة القائمين عليها. ودع عنك هنّاتٍ، جرت بين الصحابة، كلّ يسعى لصالح دين الإسلام والعدل كما يراه. وقد ظهر ذلك جلياً في آخر ما رميت به الأمة من حرورية التنظيم القائم على جزء من الدعوة الدينية في العراق والشام، وأقصد البغدادية. وقد رأينا كيف أنّ علياً رضى الله عنه قاتل الحرورية، كي تصفو صفوف المسلمين من خبث البدعة، خاصة إن تجمّعت في شكل تنظيم مسلح.

      ثم الفارق الآخر، وهو التغير الساحق في وسائل الحرب وطرقها، وظهور التكنولوجيا الحديثة. وهذا أمرٌ لا يجب أن يتخطاه الباحث بسرعة، أو أن يستهين به. فإن شجاعة الشجعان، قد خسرت بعض موقعها العالى لحساب تلك الوسائل التي لا تحتاج لشجاعة ولا جسارة، بل إلى خسة ووضاعة، دائما تجدها متوفرة عند من يملكون تلك الوسائل الحديثة.

      كذلك، ما أشرنا اليه آنفا، من ضعف ولاء الحاضنات الشعبية وتغير تصوراتها بشكل تحول في بعض الدول إلى كفر صريح بالله سبحانه، كما رأينا في مصر على الأخص. وقد رأينا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحرك من مكة إلى المدينة حين توفّرت الحاضنة الشعبية القوية المخلصة المسلمة في المدينة، ليكون بين أهلها في أمان ومنعة وعزة. ولم يكن للإسلام كيان ينتسب اليه أو عصبة يعتمد عليها قبلها.

      هذه العوامل، كلها، يجب اعتبارها في وضع أيّ تصور عن قيام دولة للإسلام، ونعنى هنا دولة حقيقية لها مقومات السلطان والمنعة والعصبية، لا ذلك الكائن المسخ الحروري، الذي يريد أن يفرض نفسه بالقوة على ساحة، ليس له فيها كمال القوة والمنعة والسلطان. بل يتقاسمه معه قوات مجاهدة سنية، وعشائر تكاد تنكر وجوده بالكلية[2]، ويعمل على إزالتها عن طريق "قتل المصلحة"!

      والنتيجة:

      أما وقد وصلنا إلى توضيح هذه النقاط المتشابكة، فإننا نخلص إلى أنه لا بد من توفر العصبية الظاهرة، والقوة القاهرة، والحاضنة الشعبية القابلة القادرة، والسياسية الشرعية الواعية الصابرة، لقيام أي "دولة إسلامية". وبدون أيّ من هذه المركبات، فلا يمكن أن تقوم لدولة قائمة، مهما بلغت قوة المركبات الأخرى في تلك المعادلة الرباعية.

      • من العصبية تنشأ الحماسة والجرأة على القتال
      • ومن القوة تنشأ المنعة وحفظ البيضة والحدود
      • ومن الحاضنة ينشأ المدد والاستقرار، ومنها يأتي اختيار أهل الحل والعقد، ثم اختيار الإمام.
      • ومن السياسة الشرعية، التي تدعمها القوة تنشأ المرونة في التعامل حسب ضوابط الشرع بما يقلل من الأخطار المحيطة بالدولة الناشئة.

      قيام دولة الإسلام في العصر الحديث:

      أما وقد مرت بنا نقاط التشابه والاختلاف بين مستلزمات قيام دولة أو إمارة إسلامية، قديماً وحديثاً، فإنه يمكن أنّ ننتقل إلى تصور قيام هذه الدولة أو الإمارة في عصرنا هذا.

      أشرنا إلى أنّ "الدولة الإسلامية" اليوم، ليست قائمة على عدم، كما كان الحال عهد رسول الله صلى الله عليه سلم، كما أنها ليست بذات قواعد صلبة على الأرض، بل تفتقد كافة المركبات اللازمة لقيامها إلى حدٍّ كبير. ومن ثمّ، فإن قيام هذه الدولة أوالإمارة يستلزم عملية هدم وبناء، وإصلاح وترقيع في نفس الوقت.

      وقد أدى عدم فهم هذه المعادلة إلى فشل التجربة الإخوانية التي اعتمدت نهج الإصلاح والترقيع وحده منذ عصر الهضيبيّ، وفشل التجارب السلفية الجهادية التي اعتمدت أسلوب الهدم وحده، كحركة الجهاد المصرية، والجماعة الإسلامية. هذا عدا فشل سائر الحركات السلفية الأخرى التي لم تراعي أيّ من الأبعاد التي ذكرنا، بل راحت تحاول البناء لا غير، على قواعد مهترأة، فسقطت وفشلت فشلاً ذريعاً، بل صارت معول هدم في عملية التحول للدولة الإسلامية، بعلمٍ أو بجهل، كسلفية الحويني واسماعيل المقدم وعصبتهما، وهم من الغفلة والتراجع الشديد مما أدى إلى فشلها في توجيه الشباب إلى بناء دولة إسلام، بل ساعدت على قهر العصبية الدينية في نفوس أتباعها وزرع روح الاستسلام والتبعية الذليلة محلها، وأعجب لمن يضع أمثالهما في سلة واحدة مع المجاهدين الصادقين من أمثال الظواهري والمقدسي! ولا أشير إلى عصبة المرتد البرهامي إذ هذا قد خرج عن الملة ابتداءً بموالاته المطلقة للطاغوت، تأييداً وتعاوناً.

      يتبع إن شاء الله تعالى

      الأطروحات – 10 - تكملة قيام دولة الإسلام في العصر الحديث

      د طارق عبد الحليم

      26 يونيو 2014 – 27 شعبان 1435


      [1]  وأرى أن القرون هي الأجيال، أي الثلاثة أجيال التابعة لجيل رسول الله صلى الله عليه سلم، أي جيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، لا القرن بمعنى مائة عام. وهو ما يأخذنا إلى حوالي الربع الثاني من القرن الثاني الهجريّ، على أكثر تقدير.

      [2]  كما رأينا على شاشة أحد الفضائيات التي استضافت قائداً ورأسا من العشائر المقاتلة في شمال العراق، فلم يشر في حديثه من قريب أو بعيد لتنظيم البعدادي، بل تحدث عن ثورة عشائرية سنية، وحكومة وطنية وانتخابات!