الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد
سيقول البعض، ومنهم قليل من أهل السنة، مالك لا تفرح اليوم وتدع الغد للغد؟ مالك لا تنتشي بالنصر حين حلّ بعد غيابٍ طويل؟ مالك تُحذّر وتُنذِر، كمنذر جيش يقول صبّحكم ومسّاكم؟ قلت: والله إن النشوة، في غير موضعها ووقتها، كالخمر، تُذهب عقل الناظرين، وتُغيّب وَعي الراشدين. ولسنا والله من متعاطي هذا اللون من السّكَرْ اليوم، فليس موضعه ولا أوانه، بعد. بل الأحرى هو النظر الموضوعيّ المتأني لكافة العوامل المحيطة بحركة الجهاد الحالية.
فالمشكلة الكبرى التي تواجه حركة الجهاد المُتقدمة حالياً في العراق هي ذلك المنهج الذي تتبعه جماعة البغدادي، والذي يقوم أساساً على:
- رفض المخالف رفضاً تاماً قاطعاً، وإعتباره خارجا عن "الدولة"، ومن ثم استحلال دمه وماله. وهو ما يُعرف بالمذهب الحروريّ، الذي تبنته تلك الجماعة، منذ نشأتها. وهذا دين التعصب، الذي يُعمى المرء فلا يرى إلا ما يراه، وكأنّ غيره لا عقل له ولا دين، ومن ثم، لا إلّا له ولا ذمة!
- الغرور، الغطرسة، الغلو، الجهل السياسي التام، الظاهرية الشرعية، قلة الوعي بالمتغيرات العالمية، وهي بعض عوامل قد تؤدي بلا شك إلى تدهور وسقوط التقدم الحروريّ العسكريّ الحاضر في العراق.
والله، لا نريد إلا دولة سنية إسلامية قوية، تزيل نجس الروافض والنصيرية، وترفع عن الأمة الذلة والتبعية. لكنّ هذا لن يتحقق على يد هؤلاء الحرورية، وها أنا أعلنها. وتحقق قيام مثل هذه الدولة له شروط يجب أن تتحقق، وموانع يجب أن تزال، أكبر مما يتصور هواة السياسة والسلاح.
وقد وضح ذلك من ميثاق ولاية نينوى، الذي حمل من النظر الحروريّ ما يجعله أول مسمار في نعش انتصارات الحرورية، لما فيه، بل ما ليس فيه من حكمة وحنكة وسياسة شرعية واعتبارٍ لمتطلبات المرحلة. فهم قد اعتمدوا على ما رفضوه من قبل، أي "الحاضنة الشعبية"، التي رضت بدخولهم وصفقت لهم. ثم إذا بهم يفرضوا ما يثير عليهم تلك العشائر السنية التي وقفت إلى جانبهم.
فلو أنّ هؤلاء الحرورية، دخلوا تلك المناطق، واستقرّوا فيها، ومَكّنوا لأنفسهم، وسالموا السّنة، ولم يعلنوا عن نواياهم التوسّعية بتلك الغطرسة، فلربما أخّر ذلك التحرك الثلاثي "الرافضيّ-الخليجيّ-الصهيو-صليبيّ". لكن هؤلاء لا يفهمون إلا على مذهب أولئك الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "قتلوه قاتلهم الله"! ولو أنهم رجعوا إلى مشايخ الجهاد لعلموا ما يجب أن يفعلوا، إذ "إن دواء العيّ السؤال". لكنهم يستعجلون الثمرة، فسيحرمون منها حسب سنن الله الكونية بلا بد.
القوى العالمية لن تنتظر طويلاً على تلك التغيرات التي نشأت عن سوء إدارة وطائفية المالكي الرافضي. وقد كانت كلمات أوباما كلب الروم سِهاماً موجهة إلى هذا الضال، تحمله مسؤولية هذا الانهيار. فالقوي الصهيو-صليبية لا يمكن أن تنسى مصالحها في هذا الجزء من العالم، كما قلنا من قبل. ومن ثم فإن هذا الذي حدث، ليس انتصاراً حقيقياً راسخاً نهائياً مؤكداّ، ومن يعتبره كذلك، ويخطط على هذا الأساس الواهم، هو رضيع سياسة. بل هو تغيير في متغيرات على الأرض "في صالح الجهاد". ما حدث هذا هو مجرد إرهاصات لما هو بعده. بل هو، إذا نظرنا من وجهة نظر العدوين الرافضيّ والصهيو-صليبيّ، بمثابة حقنة أدرينالين مُنشِّط، يوقظهم للوضع، ويدفعهم للتحرك، والتجمع من كافة جيوش المنطقة لإعادة الوضع، مع بعض التغييرات في شكل الحكم العراقيّ يسمح "للسنة" بالمشاركة في الحكم بشكل أكبر كثيراً من الوقت الحالي. خذلهم الله وخيّبهم.
والغَطرسة والغُرور الحروريّ، دفع متحدثهم، الكاذب المبهت العدناني، إلى تهديد الكويت والأردن وإسرائيل! سبحان الله! أيّ عقل هذا؟ ألم ير ما فعل الغرب في صدام من قبل؟ لعب صبية لا يعلمون ما يفعلون. والله ليوردهم هذا المبهت المهالكَ بغبائه وغروره.
إن حسم الأمور على الأرض عسكرياً، يختلف تماماً عن حسمها سياسياً، فالقوى العسكرية بين المتصارعين ليست متكافئة على أيّ وجه. والتقدم العسكريّ لتحالف العشائر والحرورية لا يعنى استقرار سياسيّ ممكّن "بعد". لكنه من الممكن أن يكون ورقة قوية في يد ذلك التحالف، يكرس فيه لاستقرار سياسيّ، ومن ثمّ، لتقدم بطئ محسوب نحو بقية العراق.
ونحن والله لا نحزن لهلاك رؤوس الحرورية ومعاونيهم من رجال البعث "التائبين" خاصة، فأهل السنة مأمورون بقتلهم قتل عاد، لكن المشكلة أن الضربات الصهيو-صليبية ستنهال على رؤوس العامة من السنة في تلك المناطق، فتقتل الآلاف، بسبب تلك الغطرسة والغرور والطفولة السياسية. ولعل العشائر والقوى المُجاهدة السنية تدرك ذلك، فتزيح الحرورية من صدارة الموقف الحاليّ، سلمياً إن أمكن، وإن كان هؤلاء لا يعرفون إلا لغة السلاح، ليكون هذا الزحف سنياً خالصاً مباركاً، قبل أن تقع المواجهة بينها وبين الحرورية.
فمثلا، لا يدرى هؤلاء أن خُلُق السُّنيّ ليس كخلق الرافضيّ، وأنّ الإسلام لا يقوم على أنّ مبدأ "المعاملة بالمثل"، بل على مبدأ "كلّ إمرئ بما كسب رهين". فالتصفيات التي يقومون بها في صفوف العائلات الرافضية لا مبرر لها شرعاً، وإن كانت القوى العسكرية الرافضية قد قتلت من قتلت من السّنة من قبل. بل الإثخان والقتل يكون في العسكريين أينما وجدوا. وهذا ليس بحكم شرعيّ فحسب، بل سياسة شرعية لتقليل حجم ومخاوف المقاومة الأهلية الرافضية. لكنّ هؤلاء يتبنون كفر أعيان الإثني عشرية، خلافاً لأعلام أئمة أهل السنة. بل هؤلاء يتبنون ردة المخالف لهم من السّنة، فكيف بغيرهم! فليس لنا إلا أن نردد:
لقد ناديت إذ أسمعت حيا ولكن لا حياة لمن تنادى
نعلم أنّ هذا التوجه في الحديث سيعتبر هرطقة وخروجاً على الإجماع عند أتباع الحرورية البغدادية، وأننا سنلقي أطنانا من السب واللعن والتكفير، والوعيد بالثبور وعظائم الأمور، إذ إنّ الفرحة اليوم أعْمت العامة، بل وبعض الخاصة، حتى أذهلهم ذلك الانتشاء العارم العارض عما هو قادم، كالعادة. لكن الرائد لا يكذب أهله، والدليل الهادي لا يعتبر بمثل تلك الأمور، بل عليه أن يتحدث عما يستشفّه مما يرى أن قد يصيب قومه، قبل وقوع المحذور، وإلا لم يكن له فضل هداية. وقد يؤثر بعض علماء السُّنة اليوم الصمت لحين ينقشع الغبار، لكنني أسير على قول دُريد بن الصّمة:
أمرتهــم أمري بمنعرج اللـــــــوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
بل سيكون قولهم يوماً كقول ابن السليماني
أأمكنت من نفسي عدوى ضــــــــــــــــلة ألهفي على ما فات لو كنت أعلم
ولسنا من دفعهم لهذا الغرور والغطرسة والظاهرية والضعف السياسيّ، بل هم من اختاروه مذهباً وسفكوا عليه دماء الأبرياء، ولا يزالون. فإن لم ينتصحوا ويرشدوا، فما لي إلا أن اقول:
عصاني قومي في الرشاد الذي بــه أمرتُ ومن يعص المُجرِب ينـــدم
د طارق عبد الحليم
16 يونيو 2014 – 18 شعبان 1435