الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد
كررنا مراراً في كثير من مقالاتنا أن الوضع الحاليّ للمسلمين لم يسبق له مثيل في تاريخ الإسلام. وهو وضع ينبئ بتآكل الجيل الحاليّ، بل والأجيال القادمة إلى وقت لا يعلمه إلا الله. وعن المسلمين نتحدث، لا عن الإسلام. فإن الإسلام باق ولو كره الكافرون، ولو كره الصهيو-صليبيون، ولو كره السيسيون، ولو كره السلوليون الخليجيون والغنوشيون والحفتريون، وسائر كفار هذا العصر، قبحهم الله أجمعين.
ولسنا ممن يدفن رأسه في التراب، ثم يدعى أنه لا يرى شراً قائماً أو خطراً قادماً. فإن هذا هو تعريق المغفل في لغة العرب، وفي كلّ لغة. بل الشرّ محيق بنا، من كلّ ناحية، نراه ولكن لا نشعر به، كأنه ذبابة نهشها عن أنوفنا! كيف لا والجهاد ماض في الشام والعراق، والمساجد عامرة في رمضان، وأمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم لا تزال بخيرٍ إلى يوم الدين ، و.. و.. إلخ.
إذا نظرنا حولنا، لوجدنا أن المخطط الصهيو-صليبيّ قد آتى أكله، وأثمر وأينعت ثماره، إذ رعوه منذ بداية القرن التاسع عشر الميلاديّ، حق رعايته. بل قد آتى أكلاً لم يكن زارعوه الأوائل يحلمون بمثله، ولا قريبا منه.
ولسنا بصدد درس في التاريخ، لكن نريد أن نلقي ظلالا على الموقف اليوم من كافة زواياه، لنعرف حجم المشكلة، وحجم المطلوب للخروج منها، ومتى؟ كيف؟
المرة الأولى في تاريخنا يعيش المسلمون، كلهم، تحت نظم كافرة ملحدة، ليس فيها نظامٌ واحد مسلم، ولو من قريب. هذه حقيقة يجب أن تستقر أولاً في عقول وقلوب المسلمين ممن لا يزال في قلوبهم بقية حبٍّ لله ورسوله، وأثارة فهم عنهما.
وهذا، لا يعنى أنّ كلّ من يحيا تحت هذه النظم، كافر أو مشرك. لا والله، بل نحن نتحدث اليوم إلى من فيهم إسلام من هؤلاء. ونحن ندرك أنهم قليل، إذ خرج الكثير من الملة، لا على التعيين، تحت وقع الجهل والشهوة ومحبة الكفر التي زرعتها في أنفسهم وسائل إعلام تلك النظم، فتسرب الكفر إلى أنفسهم متعسعساً لا يشعرون به، حتى أصبحت قلوبهم لا تعرف معروفا ولا تنكر منكراً. بل أسوأ من ذلك، أصبحت ترى المعروف منكراً والمنكر معروفاً. وأصبح الولاء للكفار، سواء في الداخل أو الخارج هو الأصل، لا الشذوذ.
أصبح المسلمون، كلهم بلا استثناء، يعيشوا تحت مظلات الكفر. منهم من هم في الشرق العربي، وهم الأسوأ حالاً، إذ صاحب الكفر، الظلم والاستبداد والقهر والسجن والقتل والتعذيب والتشريد. فهو كفر وفُجر اجتمعا، فسحقا المسلمين سحقا. ومنهم من يعيش تحت الكفر الغربي، وهؤلاء أحسن حالاً، إذ دخلوا تحت مظلة العدل العام الذي تظل مجتمعاتهم، والذي لا يستثنون منه أحداً إلا في مناسبات خاصة، تجرى على بعض المسلمين، وفي تخفٍ وحذر وتآمر.
إذن، لم يعد للمسلمين دولة مركزية، ولا غير مركزية، يفزعون اليها، تقوم بحمايتهم وحفظ حقوقهم. فصاروا كاليتامى، أماّ وأباً، في هذه الدنيا، لا ترعاهم إلا يد العناية الإلهية، التي لا تتدخل في عالم الأسباب إلا لماماً وإعجازاً ليس محله أهل هذا العصر. فالمسلمون اليوم عبارة عن أفراد متفرقين، قد يجتمعون قبليا أو عائلياً، حسب العادات الإقليمية السائدة. وإن كان معظمهم يعيش اليوم في البيئة المدينية، أي ثقافة المدينة الكبرى[1]، فهم أقارب، يتزاورون، لكن قد يكون بينهم بعد المشرقين فكراً وتصوراً وتصرفاً. فهؤلاء لا يقوم بهم، أو عليهم "مجتمع مسلم".
وقد كان المخطّط الكفريّ العام، بقيادة الصهيو-صليبية، سائراً على منوالٍ محدد، إلى أن ظهرت بوادر من "المسلمين"، أو دعنا نقول "في أراضي المسلمين"، تدل على أن هناك بقية مقاومة داخل نفوس ذلك البشر المسحوق، مادياً ودينياً وحضارياً. وهي مقاومة أشبه بتشنجاتٍ المذبوح، قبل أن تفارقه الروح إلى غير رجعة. وكان من جرّائها ما يسمى "الربيع العربيّ". كذلك، ظهور مقاومة مسلحة جهادية في بعض الدول التي تسمح سيكولوجية أبنائها، وتاريخها، أن يظهر فيها مثل هذه الحركات، كالعراق والشام واليمن. وكان أنْ صار تعديل البرنامج الكفريّ العام، ضد الإسلام، ليريح المذبوح من ألم ذبحه.
وبدأت معالم برنامج جديد، تقوده علنا، الدولة السلولية والخليجيين، إذ هؤلاء مفضوحو الوجه والسريرة، لا حياء ولا ضمير أساساً. وتقوده الصهيو-صليبية سراً ، إذ الغرب لا، ولن، يتخلى عن النفاق السياسيّ، حيث يظهر وجه الحسرة على ضحايا القتل العشوائيّ في سوريا وغيرها، ويبطن التآمر للمزيد منه.
ظهر الدعم السلوليّ الرسميّ للسيسي وكلابه، من السلولية الخليجية، بشكل مقزز مجرم. وظهر تحالف "مَلَكيّ" يضمّ الممالك التي لم تسقط في القرن الماضي، كمملكة آل سلول وآل الصباح وآل طلال وآل خليفة وآل نهيان وآل مكتوم في الشرق وآل الحسن في المغرب. كلّ ذلكم الآل، الذين آل اليهم نفط العرب، ففجروا وكفروا وصدوا عن سبيل الله، وقتلوا دعاته، ودعموا كل مجرمي الأرض للبقاء على ممالكهم، كفراً وجحوداً واستعلاء واستكباراً. ووالوا وعادوا في الكفر، ورفعوا شرع الله من حكمهم، وتمسحوا بشكلياتٍ نُسُكِيّة لا ينخدع بها إلا جاهل أهطل أو سلفيّ أخَبل ، ولا ينخدع لها إلا سروريّ أو إخوانيّ أو علوشيّ أو غنوشيّ.
ولم يبق اليوم، إلا جيوب المقاومة المسلحة الجهادية، التي انقسمت بالفعل إلى أقسام ثلاثة متناحرة، منها ما وقف في صف السنة، وألقى رجاءه على الله وعلى ما قد يأتي من نصر "المسلمين" في المَحلة، ومنهم من ابتدع بدعة الحرورية، فصار يقتل المسلمين لحساب النظم الكفرية المتآمرة كلها، فصاروا كلاب أهل النار، ومنهم من يحاول أن يقف وسطاً بين الإسلام والكفر، استصلاحاً، وهم أحمق في هذا الموقف من الرضيع الذي تهديه سليقته ألا يضع يده قرب النار إن لدغ منها مرة! وهاهم يرون المخطط "المُلوكيّ" يتجه إلى القضاء على كلّ ما يحمل اسماً إخوانياً، فما بالك بمن يحمل اسماً جهادياً سلفياً؟ فهؤلاء آثروا الصلح مع الكفر، وهم لا يعلمون أن الكفر لن يرضى بصلحهم، لكنهم لا يكادون يفقهون حديثاً. فاليوم إما إسلام أو كفر، ولا ثالث بينهما.
الواجب اليوم، على الشتات المسلم، المتمثل في أفراد علماء، أو جماعات متناثرة في أنحاء الكرة الأرضية، أن يروا رأيهم في كيفية التعامل مع هذا التجمع التتاري السلولي الجديد، الذي يظهر من أجندته أنه يؤمن بمفهوم الاستئصال والابادة، في أعلى وأبشع صورها. بل لا يكاد يكون مثله إلا ما رأينا من فعل الصرب مع مسلمي البوسنة في أوائل التسعينيات من القرن الخالي.
وأقول، أخيرا، إن التغيير لن يأتي إلا من الداخل. لن يكون إلا بإزالة تلك النظم، والقضاء عليها. ولهذا حديث آخر إن شاء الله.
د طارق عبد الحليم
5 شعبان 1435 – 3 يونيو 2014
[1] Metropolitan