فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      هذا منهاجكم معوجّا فاتركوه

      مظاهر مذهب الحروريّة في منهج جماعة "الدولة الإسلامية"

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد

      قال تعالى "إن الله لا يصلح عمل المفسدين"

      وقال صلى الله عليه وسلم "كلُّ عملٍ ليس عليه أمرنا فهو ردّ" أي غير مقبول

      (1)

      بين يدي الموضوع:

      لم أكن أود، بل ولم يخطر في بالي، أن أكتب هذا المقال في يوم من الأيام، بعد أن ترعرع في النفس أملٌ قد أعربت عنه في إحدى مقالاتي السابقة عن أحداث الشام، حيث قلت "وأسارع بالقول كذلك إنّ الإعلان عن "الدولة الإسلامية في العراق" أولاً، ثم إعلان تمددها إلى الشام ثانياً، قد أحيا في قلوب الكثير الغالب من المسلمين أملاً كان بعيداً فقربته، وأوردتهم ظلاً في صحراء الهزيمة ومدّته. وكان هذا، ولا يزال حياً في قلب كاتب هذه السطور، يشهد الله"[1].

      لكنّ الحوادث تَرِد بما لا يَرِد على الخاطر، والنائبات تصيب من حيث لا يحتسب الناظر. وقد كنا قد وصفنا جماعة الدولة من قبل، بالنقاء والجدة في الجهاد، كما قال عنها الشيخ الشهيد أسامة بن لادن أول نشأتها، وما ردّده معه الشيخ الجليل د أيمن الظواهري، حفظه الله. وكلنا، في هذا كنا سواء، شهدنا بما علمنا، وما كنا للغيب حافظين.

      إلا أنّ الأيام قد أظهرت لقيادة القاعدة، ولنا، ما خيّب الظنون، واستبدل الآلام بالآمال، بعدما بدا منهج تلك الجماعة يظهر رويدا رويداً، تتكشف حقيقتُه، وتتكامل صورته.

      ولا تثريب علينا، ولا على مشايخ القاعدة، في انخداعهم بما لم يكن ظاهراً في أول الأمر، فإن هذا حال البشر، لا يأتيهم وحي يخبرهم عن حقيقة من حولَهم، إلا بخبرة الزمن، ودلالة السيماء، وشهادة التصرفات.

      ومما ساعد على تكشّف الأمور، بالنسبة لنا، هو بعض ردود الأفعال التي رأيناها من قيادات تلك الجماعة، مما أخذ طريقه في النفس، تساؤلاً، ثم تعجباً، ثم نقداً، ثم استنكاراً، ثم تبرأً ومفاصلة.

      فعلى سبيل المثال، وضع العراقيل أمام كلّ محاولة للصلح والتقارب. وقد تفهمنا هذا فيما قدّمه مبادرة الأمة، خاصة بعد خروجِ الشيخ المحيسني عشية اشتراط الجماعة شروطاً على المبادرة، يحرّض على القتال، ويدفع عليه الناس. وهو أمر، لا زلنا إلى لحظتنا هذه، ونحن نقرر ما في عقيدة هذه الجماعة من خلل، نقرر أنه لا يصح الدعوة إلى الاقتتال بينها وبين المسلمين من الطوائف الأخرى. بل يجب أن تستمر محاولة رأب الصدع.

      ثم حاولنا، والشيخ هاني السباعيّ، مراراً، أن نتحدث إلى قيادات في تلك الجماعة، نعرض عليها أفكاراً وحلولاً، تحدثنا بشأنها مع جبهة النصرة، ووجدنا منها ترحيبا، لكن دون فائدة، يشهد الله!

      لكننا، لم نمل من تكرار المحاولة، ولم ندعُ إلا للصلح ووقف القتال. إلا أن هذا التصرف قد بذر بذرة الشك في النفس، أنْ لماذا لا يريد هؤلاء أن يقبلوا أية وساطة، ولا أن يخضعوا لأي تحكيم أو محاكمةلا على ما الطريقة التي يريدون؟ وبدأ موضوع ردّهم لتحكيم الشيخ الظواهريّ يعود إلى سطح الوعي، وينمو التساؤل، ما هي حقيقة توجهات تلك الجماعة؟

      ثم بدأت الدورة الثانية من مسلسل "انجلاء الحقيقة"، وهو ما كان من أمر ما اتخذته الدولة طريقاً لها من فتاوى الشيخ الحازميّ، خاصة فيما يتعلق بتكفير العاذر، وترك المجال للعوام في الافتاء بالكفر والردة! وكانت سلسلة مقالاتنا. وكان أن اتصل بي تركي البنعلي يومها وطلب منى أن لا أشير إلى الدولة في حديثي عن الحازميّ، وأن أجعله رداً علي الشيخ لا على جماعة الدولة، إذ ليس ما يقول من عقيدتها ولا هي تدين بها. فقبلت مسروراً، وكتبت تغريدة بشأن ذلك عمن "وثقت به تمام الثقة" حينها. ثم كان ما تعرضنا له من سفاهة كوكبة جهال على تويتر من كبار أنصار الجماعة ومن إعلامييها، الذين تولوا كبر الترويج للحازميّ وفكره في هاتين النقطتين بالذات. فطلبنا من الجماعة أن تنكر على هؤلاء تبنّيهم لهذا الفكر علنا، وأن تتبرأ منهم، إذ، كما ذكرنا مراراً، هذا مما يشوه عقيدتها أمام أهل العلم، ممن لا ينخدع بتزويق الكلام. لكن، سمعنا كلّ غثّ في عدم إمكانية ذلك، بدعوى أنهم لا يمثلون الجماعة، وأن الجماعة لها بيانٌ عام في هذا الشأن، وأنه لا وقت لدى المجاهدين ليردوا على أحد! فبدأت بذرة الشك تترعرع في نفوسنا. أيّ "دولة" هذه التي ليس لديها من يذبّ عن عقيدتها حين تخرج عصابة تنسب لها ما لا تعتقَده؟ وكان هذا أول مرحلة التعجب ثم النقد لهذا الموقف، هيناً ثم عنيفاً. ثم اعتبرنا السكوت رضا، بل موافقةً، بل توجهاً وتوجيها.

      ثم بدأت أحداثٌ تتوالى على الساحة الجهادية، عن عمليات قتل فردية، لا علاقة لها باقتتال على حواجز أو محاولة السيطرة على مدينة أو قرية. ومنها، حسب ما وصلنا، موضوع حزاز الرؤوس، وجزار الجماعة أبو عبد الرحمن العراقيّ. ثم جاءت حادثة ذلك القاتل الأوزبكي. وقد حاول البعض أن ينفي علاقتَهما بالجماعة، وأن يروج أن الأوزبكي مطلوب للمحاكمة. وهي كذبة دارجة عند هذه الجماعة، استعملوها مع الشيخ د هاني السباعي بشأن ذلك المتشرعن أبو معاذ، أو أيا كان اسمه.ّ

      ثم جاء حدث قتل الشيخ الشهيد أبو خالد السوريّ، وأشارت كافة القرائن على أن أعضاء من هذه الجماعة الحرورية هم من نفذوها. وأبت الجماعة إلا أن يُبعث أبو خالد من موته ليدل على من قتله منهم. وكأن الحكم بالأمارات ليس من الشرع! وهو ما سنتناوله بعد إن شاء الله. وكان هذا الحدثُ حجراً ثقيلاً ألقي في بركة أخطائهم، فأثار النقع، وهيج الشكوك.

      ثم جاءت أخبار توجهِهم إلى البوكمال وغريبة لقتال المسلمين، وهي منطقة محرّرة من النصيرية أصلا. ثم تزامن قتالُهم مع ضرب النظام للمسلمين بداخلها. ثم توجهُهم إلى إدلب، وأخيراً، قتلهم أميري النصرة، وعائلاتهما، ثم حشدهم حول الدير. وهو ما طفف ميزان سيئاتهم، وجعل السكوتُ عن إظهار عوار مذهبهم جريمةَ لا يحتملُها صاحبَ دين وعلم، إلا من اتبع هواه أو كان ممن تلبّس بثوبي الزور، فظهر في لباس العلم، زورا وبهتانا، وقد أشرنا في تغريداتنا إلى بعض منهم بالفعل.

      ثم إننا نظرنا فيما أصدرت قاعدة الجهاد من تبرأ من أفعال تلك الجماعة، التي لخص أسبابَها الشيخ الجليل الظواهري في تسجيله مع مؤسسة السحاب، في الدقيقة التاسعة وبعدها[2]. ثم ما جاء من طامة متحدث جماعة الدولة، مما لم يدع شكاً في النفس في توجهات هذه الجماعة وعقيدتها وسياساتها.

      ونكرر هنا أنني لا أنتمي لأي من هذه التنظيمات، لا القاعدة ولا جبهة النصرة ولا جماعة الدولة ولا الإخوان ...

      وكان أن خرج عنّا بيان البراءة والمفاصلة. إذ لا مجال إلا أن نعلن البراءَة منهم حتى يتوبوا إلى الله، ولا نظنهم يفعلوا، فكما جاء عن السلف "لا يرجى لصاحب بدعة توبة"، إذ يرونه، وأتباعهم المغرر بهم، دينا يتقربون به إلى الله، وهو لا يزيدهم إلا بعداً منه. والله المستعان.

       (2)

      مظاهر مذهب الحروريّة في منهج جماعة "الدولة الإسلامية

      • ·         عجالة في تاريخ الخوارج ومذهبهم:

      الخوارج اسمٌ عُرف في التاريخ عن طائفة من جند علي بن أبي طالب رضي الله عنه، خرجوا عليه في موقعة صفين مع معاوية رضي الله عنه ، لقبوله التحكيم في قضية الصراع بينهما، زاعمين أنه بذلك قد شك في حقه في الخلافة، وحكّم الرجال في كتاب الله - فسموا المُحكمة - ورفعوا شعار "لا حكم إلا لله" فقال علي رضي الله عنه  "كلمة حق أريد بها باطل" ، وتوجهوا إلى حروراء وهي مدينة بقرب الكوفة - فسموا كذلك الحرورية - حيث تجمعوا لقتال عليِّ فقاتلهم في موقعة النهروان ، وهزمهم ، فزاد كرهُهم له رغم أمره أن لا يقتل هاربُهم ولا تسبى نساؤهم، وقوله : "ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه" ، وهذا كله في حق خوارج عليّ بالذات ، قبل أن تتطور مذاهبُهم وآراؤهم التي أوجبت الخلاف في تكفيرهم ، وقد اشتدت الدولة الأموية في قتالهم ، خاصة المهلب بن أبي صفرة وابن زياد، وقد انقسموا إلى عدة طوائف تصل إلى العشرين، تختلف فيما بينها في نظرتها إلى المسلمين من حولهم ولهم نظريات في السياسة كالخلافة والإمامة، ونظرات في العقائد، كالإيمان ومرتكب الكبيرة. ومن هذه الفرق الأزارقة، وهي أشدُّهم، وقد كفروا علياً ومعاوية وجميع المسلمين غير أتباعهم، واستحلوا دماء المسلمين وأطفالهم ونسائهم ، واعتبروهم كعباد الأوثان، وكانوا يكفرون مرتكب الكبيرة. ومنهم النجدات، الصفيرية، والإباضية، والأخيرة أقربُهم إلى أهل السنة ، فقد قالوا إن مرتكب الكبيرة كافر كفر نعمة ، إلى غير ذلك من فرقهم.

      وقد عرف الخوارج بشدة العبادة والزهد وقوة العقيدة والشجاعة النادرة، كما عرفوا بالتضحية في سبيل ما رأوه حقاً تحت شعار الثبات على الحق والمبدأ. ولهم في ذلك أحاديث مشهورة في التاريخ، ومن أشهر خطبائهم أبي حمزة الخارجي وقطري بن الفجاءة[3].

      وقد صحّ في الخوارج حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم بسنده عن أبي سعيد قال: "بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ فَقَالَ اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ قَالَ دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ "([4]).

      فشدة الزهد والعبادة والشجاعة في حرب المسلمين، ومنها ظاهرة الانغماس ، كما يسمّونها، ليست دليلاً على صحة معتقد أو سلامة منهج.

      ومما يجب أن ننبه عليه هنا أنّ الخوارج الأُوَل تبنوا موقفا سياسياً عملياً، لم يكن لديهم تقريرٌ لقواعده أو تقعيد لأصوله، بل كان الأمر مجرد ظاهريةٍ جاهلة اتخذت من ظاهر القرآن "إن الحكم إلا لله"، حجة ودليلاً، دون اعتبار ما يدخل على النص والظاهر من تفسير وبيان، أو تخصيص وتقييد، أو غير ذلك مما هو معلوم في علم الأصول.

      • ·         الفرق بين قتال الفئة الباغية وقتال الخوارج

      أثبتت الحوادث التي مرت قبيل ظهور الخوارج، من قتال بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما، وما تبِع ذلك من ظهور تلك الطائفة الحرورية، أنّ هناك صنفان من قتال يقع بين المسلمين[5]، قتال الفئة الباغية، وقتال الفرقة الباغية. وبينهما فرق كبير. وقد ثبت هذا بالكتاب والسنة المطهرة وسيرة الصحابة رضى الله عنهم. قال تعالى "وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُوا۟ فَأَصْلِحُوا۟ بَيْنَهُمَا ۖ فَإِنۢ بَغَتْ إِحْدَىٰهُمَا عَلَى ٱلْأُخْرَىٰ فَقَـٰتِلُوا۟ ٱلَّتِى تَبْغِى حَتَّىٰ تَفِىٓءَ إِلَىٰٓ أَمْرِ ٱللَّهِ ۚ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُوا۟ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُوٓا۟ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ"الحجرات 9. وفيها أن المؤمنين يتقاتلون، وأنهم في حال قتالهم مؤمنون، وأنّ ذلك لا يمنع من بغي إحداهما على الأخرى، وأنها ليست باغية حتى ترفضَ الصلح. ثم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من ضئضئ هذا قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروقَ السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتُهم لأقتلنهم قتل عاد"البخاري ومسلم. وقد اختلف العلماء في معنى "قتل عاد"، فمنهم من قال إنّ ذلك من كفرِهم، ومنهم من قال بل ذلك مجرد تشنيعٍ عليهم، وهم لا يزالوا من أهل القبلة[6]. والحق أنّ هذا يتوقف على أقوال الطائفة المعينة منهم، كمن أنكر منهم سورة يوسف، فهذا كفر لا شك فيه.

      ثم ما ورد في أحداث الفتنة الكبرى، وما صاحبها من ظهور الخوارج، وتفرقة عليّ رضي الله عنه بين قتال معاوية رضى الله عنه، وقتال الحرورية في النهروان. ذلك أنّ علياً قال فيمن قاتله في موقعتي الجمل وصفين "إخواننا بغوا علينا"، بينما لم يذكر هذا في قتاله مع الخوارج، وإن أمر بعدم سبي نسائهم ولا تتبُع جرحاهم.

      • ·         إطلاق اسم الحرورية على طائفة من المسلمين:

      كما أودّ أن أبين أنه لا يلزم من نسبة اسم فرقة من الفرق لجماعة ما، يعنى أنها تشارك تلك الفرقة الأم في كلّ صفاتها، بل يُطلق الاسم على المشاركِ في البعض وفي الكل. وفي بعض الأحيان يُطلق الاسمُ مجازاً، ردعاً ويطلق حقيقةً نصاً. والدليل على ذلك ما ورد عن عائشة رضى الله عنها في حديث البخاري ومسلم عن معاذة العدوية "سألت امرأة عائشة رضي الله عنها: أتقضى الحائض الصلاة؟ قالت: أحرورية أنت؟ قد كنا نحيض عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نقضي ولا نؤمر بالقضاء". وهذا الاستفهام الاستنكاري من عائشة رضي الله عنها، وهي التي عاشرت الحرورية وعرفت مناطات تسميتهم، يظهر ما قصدنا اليه. هذا، وسؤال المرأة عن قضاء صلاة الحائض، فكيف بمن استحل دماء المسلمين وقتلهم على شُبهات التكفير؟

      ثم إنّك تجد تحت الفرق الخمسة الكبرى طوائفَ كثيرة، تبلغ أكثر من العشرين في كل فرقة، انشقت عنها وتشعّبت، منها ما اتفقت فيها على أصول ومنها ما اختلفت فيها. لكن الجامع بينها هو أصول معينة، يتميز بها أصل الفرقة، وعليها تقوم، وهي في أصول كلية في الشريعة، اتفق المسلمون عليها. وهذه الأصول الكلية، منها ما هو في صلب العقيدة، كما اتفقت المعتزلة على الأصول الخمسة، العدل، والتوحيد، والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والتحسين والتقبيح العقليين. ومنه ما أصلُه ليس كلياً، لكن أدخل في أصول الدين بالبدعة، كما فعل الروافض حين جعلوا الإمامة شرطاً وأصلاً من أصول دينهم، فكان الحاقهم لها بالأصول، أصلٌ كليّ بدعي عند أهل السنة.

      كذلك الخوارج، فقد اتفقوا على كفر مرتكب المعصية من المسلمين، واستحلوا دماءَهم بهذا السبب، وولغوا فيها، وعاملوهم في القتال معاملة الكفار، بل تقربوا إلى الله بقتلهم! ثم اختلفوا فيما غير ذلك من مرتكب المصر على الذنب، صغيراً أو كبيراً، وحكم التائب وغير ذلك مما تجدُه مدونا في كتب الفرق.

      والأمر، أنّ أولئك الخوارج، قد لبّسوا أمر المعاصى التي جعلها الله سبحانه معاصٍ لا كفراً، وألبسوها لباس أعمال الكفر، ومن ثم، أدخلوها تحت مبدئهم العام من كفر مرتكب المعصية، كما فعلت الروافض في جعل الإمامة من أصول الدين! ومن هنا كان قتال الحرورية ليس من باب قتال الفرقة الباغية.

      مظاهر مذهب الحروريّة في منهج جماعة "الدولة الإسلامية"

      وإذ وصلنا إلى هذا الموضع في بحثنا، فإننا نرى أوجه التشابه بين الحرورية وبين جماعة "الدولة الإسلامية".

      • اتفاقهم في الأصل البدعي الذي اجتمعت عليه فرق الحرورية جميعا، ألا وهو تكفير المسلمين بما يرونه معاصٍ، بعد أن يُلبسوها ثوب أعمال الكفر، واستحلال دم المسلمين وقتلهم والتمثيل بهم!

      وقد ورد هذا عن بعض أمرائهم، كعبد الرحمن العراقي، وما جاء عن أبي دجانة القزبيز، أمير في الشرقية، وقد كفر النصرة واستحل دماءهم واستحي نساءهم وتتبع جرحاهم! وهو غايةٌ في الحرورية. ثم ما حدث من قتل الشيخ أبو خالد السوريّ، الذي تدل كلّ القرائن على أن من قتله منهم، وإن لم يأمروه أو يستأمروه، لكنه نبع من هذا الأصل الخرب عندَهم، كما نبع عبد الرحمن بن ملجم من نفس سقط الرّحم. والأتباع على مذهب وتربية سادتهم وكبرائهم. ثم ما حدث أخيراً في واقعة قتل أمراء إدلب أبو ترابٍ وأبو محمد عليهما رحمة من الله ورضوانا، وقتلِ أطفالهما ونسائهما. ألا لعنة الله على من فعل هذا منهم. وهم يكذبون وينكرون، ويعلم الله أنهم كاذبون. فمن غيرهم يفجّر نفسه؟

      وقد يقول البعض: هذا ليس بمذهب الجماعة، بل مذهبُ الجماعة ما هو معلن في مواثيقها، وعلى لسان "شرعييها". قلنا، وهذا مع الأسف، هو ما جعل هذه الجماعة أحطّ درجة من الحرورية، إذ إن الحرورية لا يكذبون ولا يدارون، حتى أنّ أهل الجرح والتعديل في علم الطبقات، قبلوا رواياتهم، ومن ثمّ، حَمَل أحاديثًهم كثيرٌ من أصحاب المسانيد والصحاح، ومنهم البخاري، ونقل فيهم الخطيب البغدادي، في الكفاية في علم الرواية عن أبي داود قولَه: ليس في أصحاب الأهواء أصح حديثا من الخوارج، ثم ذكر عمران بن حطان وأبا حسان الأعرج.وهذا الذي نقول قد عايناه بصفة شخصية، مما كان يقال لنا في السر، وما نراه في العلن. ونحن نتحدى الشيخ تركي البنعليّ أن يخرج على الملآ فيتبرأ من مذهب الحازميّ كما قال لي شخصياً أنّ "الدولة" لا تتبناه. والكلّ يعلم أنهم يتبنون مذهب الحازميّ، وبل ويغالون في تأويل مذهب النجديين في مسائل التكفير، وينزلونه على هواهم.

      لكن الأمر، أنه لا يوجد لديهم، داخلَ "دولتهم"، من عنده من العلم الكافي ليأصل لهم هذه المسائل، ويخرج لهم بما يصف عقائدَهم وأصولَهم وتأويلاتِهم بشكلٍ واضح يعتمد عليه الموافق والمخالف.

      وقد يقول البعض: لم نأمُر ولم نستأمر في هذا أو ذاك، قلنا، خسأ هذا من عذر، بل هو عذر أقبح من ذنب. إذ إنهم أولاً سكتوا عنه، وصمتوا صمت أصحاب القبور، ولم يستنكروا، بل خرجوا بنفس التعليل البارد عن عدم إتاحة الوقت، وكأنهم يستخفون بعقول الناس! ثم ثانيا، إن صح تعللهم، فإن هذا لا يعنى إلا عدمَ سيطرتهم على أمرائهم، لا عقيدة ولا عملاً. وما أسوأه من حال. فهم في هذا بين رحى وسندان، لا فكاك لهم منها إلا بكذب وبهتان.

      ثم القرامطة هم من اتخذوا سياسة الاغتيالات لا الخوارج، ومن ثم كانت إشارتُنا إلى شبههم من القرامطة.

      • إتْبَاعهم العملَ بالقول: وهو عكس ما يجب أن يكون عليه الأمر، فالأسوياء من الناس، يقولون ثم يعملون. لكن هؤلاء، لما كانوا يستخفون بمذهبهم، ويكذبون فيه، فعلوا أولاً كما بيّنا، ثم خرج متحدثهم مؤكدا في كلّ حرف مما قال، ما قلنا من انتمائهم لهذا الفكر الحروريّ، ويسير على النهج الذي ذكرنا من اطلاق تسمياتٍ وأوصاف، يلقون بها على عواهنها، ثم يكفرون من ينسبونها له، صراحة أو ضمنا.

      فقد خرج ذلك المتحدث يقول أنّ قادة خراسان قد دانوا بالديموقراطية، وانتكسوا عن الجهاد، ورضوا بالسلمية، ودعموا البرلمانات والعمليات السياسية، وناصروا الإخوان، وحالفوا الشيطان ووالوا المجوس والروافض.. وسائر ما نسبَه لهم مما هو عند هذه الجماعة، بل وعند غيرهم، على تفصيل فيه، كفر بواح. ثم يخرج قائلهم فيقول، بغاية البرود والدجل، إنهم لم يكفروا أحداً! يستخفون بعقول الخلق، وهم أخفّ الناس عقولا. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لم تستح فاصنع ما شئت"البخاري.

      فكان في هذا البيان الذي تلاه متحدُثهم، كفايةً لأن يوضح حقيقةُ مذهبهم، من إنهم:

      أولاً: يكذبون على العلماء وقادة الجهاد ممن خالفهم في حروريتهم.

      ثانيا: يرمونهم بصفات الكفر الثابت عندَهم، والذي هو، في حقيقة الأمر فيه تفصيل واسع عن أهل السنة، سواءً في أصل الحكم أو مناطه، ووقوعه على المعين.

      فكان هذا إثباتٌ ليس من ورائه إثبات، ودليل لا يُراد من بعدِه دليلٌ على مذهبهم.

      • إدعاء الطهارة والثبات على المبدأ والمفاصلة عليه: وهذا عامّ طامٌ في أقوالهم، إذ يهيئون لأنفسهم أنهم أطهرُ الخلق، وأنّهم الغاية والمنتهى، وأن سواهم بين كافر مرتد، أومبتدع منحرف، وأنّ دولة الإسلام لن تقوم إلا على حفنتهم هذه التي يدعون لها العصمة عملاً، وإن أنكروها قولاً.

      وقد رأينا كيف أن هذه الصفات هي من صفات الحرورية. فإن الثبات على الحق حقٌ لازم، لكن بعد أن يثبت أنه حق لازم، لا بما هو من تقريرات طالبي علم، على أحسن أحوالهم، فُتن بها كثير جدا من العامة من جهال الناس، فغيّموا بضباب دعواهم على عقول الشباب بما يدغدغون به عواطفَهم، وما يتلونه عليهم من آياتٍ عامة يستدلون بها على أوضاع خاصة ويخرجون بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، ثم يستحلون بها الدماء.

      هؤلاء يروجون أنّ هذا صراع الحق مع الباطل، وكذبوا من حيث صدقوا، فصراع الحق والباطل مستمر، لكن تعيين الحق وتمييز الباطل هو ما أوقعكم فيما أنتم فيه.

      • حصر الأمة في أتباعهم: والأمة بالنسبة لهم هم من يخضعون لهم في مناطق نفوذهم، أما من هم خارجها فمستباحي الدم، بأي عذر كان، بكفر جهل أو قتل مصلحة، أو أي من أفكار الخروج التي يفتي بها لهم طويلبي علم يسمونهم الشرعيون. وهذا هو ما كانت عليه الحرورية، كلّ من عداهم ضال أو كافر، حسب نسبة الطائفة التي ينتمون لها من الفرقة الأم.

      ثم إن تحدثت عن الأمة، قالوا: أنت تقول بالحاضنة الشعبية، ومن ثمّ أنت ممن يشركون شرك الولاء! وقد بينت أمر الحاضنة الشعبية، فأنكرتُها بمعناها العام، الذي تقول به الإخوان والسرورية، وقلت إنها تلك الجماعة من المسلمين، لا من أهل الكتاب ولا من الروافض، التي تحيا على الاسلام، سواءً منهم من أحسن واتقى أو من عصى أو من أصرّ. لكن لم نقل أن ذلك يعنى خروج المخالف وأتباع المخالف بما يتوهمه بعضُهم كفراً مما ليس بكفرٍ، أو مما هو مختلف عليه على أسوأ تقدير، كما بيّنا.

      وقد ظهر بعدما أصدرنا البيان أنّ هؤلاء لا يصلحون لقيادة أمة، فكيف بالله عليك تكون "دولة" أبناؤها في هذا المستو من  المنحط من الخلق والأدب، والفجر في الخصومة، واستخدام كلمات وتعبيرات لا تصدر والله من شعب السيسي كما قلنا. هذا دليل على أن هذه شمعة تُطفئ لا دولةٌ تنشأ، فلا حياء ولا دين والله. وهذا والله سقوط وانحطاط لم تره ساحة الجهاد من قبل، إن كان حقا ثمة جهاد بقى لهؤلاء، فنعتذر من الحرورية لتشبيه هذه الجماعة بهم.

      وما يحزن هو قصور فهم قادة هذه الجماعة عن قواعد وأصول تكوين الدول وقيادة الأمم، والتوازنات الراهنة، وما يستدعيه شرع الله، ومقاصده ودينه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الزمن. فإن حاديهم الظاهرية التي لا تأتي إلا بالغلو والشدة في غير موضعها إن اقترنت بجهل.

      أخيراً، وليس آخراً، فإنني أدعو قادة هذه الجماعة إلى أن يبادروا الجلوس إلى مخالفيهم، وأن تتكون لجنةُ شرعية تمحّص أقوال التكفير التي يدينون بها، فتنفى عنها الخبث، وتُلزم بما صحّ منها، ثم يكون السير بعد ذلك على هذا المنوال المنسوج، لا على هذا الدرب الحروري المُعوج.

      لقد والله حولتم الوسيلة إلى غاية، ونقضتم مقصد الشارع من إقامة إمارات وخلافة، واجتمعتم اليوم على قتال مسلمين مع العلمانيين والروافض فتركتم قتال هؤلاء وانشغلتم بقتال المسلمين!

      والفرصة متاحة لهذه الساعة. والكلّ سيقف بين يدي الله ساعة. فلا تضيّعوا الفرصة، واعلموا أن ليس لدينا مصلحة في نصر هذا الطَرَف أو ذاك، إلا من نراه على حق فننصرَه، ومن نراه على باطل فننهره.

      وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

      د طارق عبد الحليم

      21 جمادى الثاني 1435 – 21 أبريل 2014


      [1]  مقالنا " مسائل في السياسة الشرعية تخص الجهاد في الشام" http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72553

       [2]  https://www.youtube.com/watch?v=MFuBuV__1CE

      [3]  "نيل الأوطار" للشوكاني جـ7 ص 339 ، "تاريخ الإسلام السياسي" لحسن إبراهيم جـ1 ص 375 . "الملل والنحل" للشهرستاني هامش ابن حزم جـ1 ص 157، راجع "البيان والتبيين" للجاحظ جـ2 ص 277 ، وكتاب حقيقة الإيمان، د طارق عبد الحليم ص89 وبعدها.

      [4] عن "نيل الأوطار" للشوكاني جـ7 ص 344 ، والنصل والرصاف والنفي والقذذ هي أجزاء من السهم وأنواع منه ، يريد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يخرجون من الدين لا يتعلق منه بهم شيئاً .

      [5]  على اعتبار قول من لم يخرج الخوارج من الإسلام

      [6]  وقد حققنا هذه المسألة في ذيل رسالة لنا طبعت عام 1979، تحت اسم "حكم شيخ الاسلام فيمن بدل شرائع الاسلام"، وسأقوم بإعادة نشرها، قريباً إن شاء الله.