فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      تعليقٌ على ردّ منشور – في موضوع الشيخ الحازمي

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد،

      ألمح الينا أحد الإخوة أن هناك ردّ من أحد الإخوة، المنتمين إلى مركز إسلاميّ، وهو الشيخ حسان بن حسين، فكّ الله أسره وأنجاه وأهله، على موقع المقريزي، على ما كتبنا في شأن موضوع تكفير العاذر وغيره مما خرج به الشيخ الحازميّ في بعض حديثه. وقد اطلعت على الردّ اليوم، فوجدت فيه نفساً أصولياً جيداً، وإن خلا من التمحيص و التبصّر الذي يأتي من ممارسة العلم ردحا من الزمن، مما أدى إلى ما جاء فيه من الخطأ المنهجي والشرعيّ الذي يمكن أن يقع فيه باحث، على ما سنبين.

      وما شجعني على كتابة هذا التعليق، على كراهتي للتعليق على التعليقات، إلا أن يتخذه طلبة العلم دُرْبة على طرق الاستدلال والنظر في النصوص والنقولات.

      وأود أن أذكر هنا فائدة وتحذيراً لطلاب العلم والباحثين الجدد والقارئ العادي على السواء، وهو أنّ القارئ قد يرى في مثل ذلك الحشد من التعليقات التي أوردها الأخ الكريم حسان بن حسين، دلالة قوة ومصدر ثقة على ما في التعليقات من صحة وصواب. وأقول، لا، هذا باطل من القول وغرر في الفهم. إذ النقولات تخضع عادة لاختيار الناقل، ثم لتحليله وفهمه لما فيها، كما سنرى، ومن ثم فإن حشدها دليل ضعف لديّ لا دليل قوة، وإن كانت تروّج للسلعة المكتوبة لدى العوام والمبتدئين. فلا يغترنّ أحد بهذا، وليعلم طلاب العلم والباحثين الجدد والقارئ العادي أنّ الثقة في المعنى واستيعاب العلم يغنى عن كثرة النقولات، إلا ما لزم منها، إذ ترداد النظر في العلم وكتبه، يجعل منهاج النظر فطرة مطبوعة في النفس وطبيعة مغروزة في العقل، ويصبح النقل استشهاداً لا احتشادا.

      أعيذها نظرات منك صادقة   أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورمُ

      ثم إلى موضوعنا والله المستعان.

      أما التعليقة الأولى فلا غرض لي في التعليق عليها!

      التعليقة الثانية:  قال "فهمت مما قرأت للدكتور: أن النزاع بينه وبين الحازمي ليس في مأخذ التكفير في الجملة، ولا في مناطه، وليس أيضا في مفهوم الكفر وحقيقته، ولا في أسبابه، وإنما النزاع في ضوابط التكفير"

      قلنا: وهذا خطأ فالنزاع واقعٌ في أحد مآخذ التكفير، ليس في مناطه، وهو تكفير من عذر الكافر، وليس هذا ضابط من ضوابط التكفير، وهو واضح، ولا داعي للإستطراد فيه.

      التعليقة الثالثة: "والصواب الذي تقوم عليه الأدلة: أن التكفير حكم شرعي يؤخذ من حيث تؤخذ الأحكام الشرعية، ويجري فيه القطع والظن في دليله، كما يجري في دلالة الأقوال والأفعال على المعاني الكفرية، واشتراط القطع داخل في مذاهب أهل الأهواء والبدع"

      قلنا: وهنا عين ما قصدنا من قولنا أنّ التبصر في تقرير المسائل لا يزال مفتقد في هذه التعليقات. فنقول في مسألة قيام الأحكام على الظن: الظّن المقصود نوعان، نوع يقع في الدليل، ونوع يقع في نفس المجتهد. فالدليل منه قطعي ومنه ظنيّ. ولا يقال أنّ كافة أحكام الفقه دلالتها ظنية، فهذا إنكار قريب من وقوع القطعي، وفيه ما فيه، وهو أقرب لقول المتكلمين والأشاعرة. ومثال الاختلاف فيه ما ورد في خبر الآحاد، فهو عند الأشاعرة وعلماء الكلام يفيد الظن، بينما هو عند أساطنة أهل السنة يفيد القطع، إن صحّ سنده وسلم من العلل. ثم الظنية التي تقوم في نفس المجتهد، ليست هي من قبيل الظنية الأولى، بل هي عدم اطمئنان لصحة الدليل، قطعي أو ظني كان، وهذه لابد من أن تقوم على القطع ولا مجال لظن فيها، وإلا جوزنا الفتيا على الشك. وهذا هو ما أشرنا اليه في مثالنا، من أنّ الحجة لم تقم، بمعنى أنّ المجتهد الذي يُصدر الفتوى  بالتكفير لم تطمئن نفسه بقيام القطع فيها بالنسبة اليه.

      فمسألة أنّ التكفير حكم من الأحكام الشرعية، يقوم بالظن، فهذا يتبع ما قبله، فليس كل الأحكام تقوم على الظن، وإن كان المسح على الجورب، أو الاستنجاء من الخراءة يمكن أن يفهم فيه هذا القول، فنحن بحمد الله لا زال فينا بقية من عقلٍ يفرّق بين هذا وبين الحكم بتكفير أحد المسلمين بالظنّ، مع إمكانية القطع فيه.

      التعليقة الرابعة: قال " قياس من لم يكفِّر الفرع (عباد القبور) على من لم يكفِّر الأصل (عباد الأصنام) ولا ريب في كفر من شكّ في كفر عباد الأصنام. فهل من حجة بيّنة تدفع هذا القياس البيّن؟ وإذا كانت، فهل هي في رتبة القواطع التي ترفع النزاع وتوجب الوفاق؟ أم للنظر فيها مسرح؟"

      قلنا: فيها ظاهرية واضحة في النظر، إذ أخذ فيها بقياس جليّ وهو ما أقرته الظاهرية دون غيره. فإن هذا لا يحسن فيه قياس جليّ، لما سنذكر بعد في الرد على التعليقة السابعة. فالأصل والفرع هنا ليسا متفقين في العلة الجامعة، وهي استصحاب أصل الإسلام. ولهذا وحده يسقط هذا القياس، ولا مجال لقول أنه بيّن. ثم قوله هل هي "في رتبة القواطع التي ترفع النزاع وتوجب الوفاق؟ أم للنظر فيها مسرح" يناقض فيه نفسه من حيث قرر مسبقاً أن الأحكام الشرعية تقوم على الظنون لا على القواطع! ونذكره بقوله " واشتراط القطع داخل في مذاهب أهل الأهواء والبدع"! فترى لمن نستمع، الشيخ حسان في التعليقة الثالثة، أم الشيخ حسان في التعليقة الرابعة، وما بينهما إلا سطور؟

      التعليقة الخامسة: "فإن قيل: هنا فرق مؤثر بين الأصل والفرع، وهو أن من يدعو صاحب القبر يستصحب له الإسلام، وعابد الأوثان ليس أصل آخر إلا الكفر".

      قلنا، مرة أخرى، كما سيأتي، الاستصحاب هنا ليس لإنفاذ حكمٍ أو ردّه، بل قرينة ترفع القطع وتمنع من تطبيق القياس الجليّ الذي أشار اليه، وهو من الظاهرية في تطبيق كلام الفقهاء وقواعد الشريعة. ولا داع للتكرار، فليس فيها جديد.

      التعليقة السادسة : " فإن قيل: النزاع ليس في عابد القبر، وإنما في تكفير العاذر المتأول، وهو مربط الفرس ومستند نسبة الغلوّ إلى الشيخ الحازمي. أجيب: نسبة الغلو إلى الحازمي (حفظه الله) في هذا باطلة لأنها كنسبة الغلوّ إلى من كفّر من لم يكفّر المجتهدين في طلب الدين من غير أهل الإسلام، ومقلدّة اليهود والنصارى والنساء والبله منهم، وهذا الرأي نسب إلى عبيد الله بن الحسن العنبري، وداود الأصفهاني، والجاحظ، وثمامة بن أشرس، والغزالي".

      قلنا، كثرة نقول، وقلة استيعاب لما فيها. فهي كلها إما عائدة على الكافر الأصلي كما نقل عن القاضي عياض، أو شبه تكفير كما تلحظ في لفظة "وجوب" في قول الباقلانيّ عن الجاحظ والعنبري، إذ لم يجزم بالتكفير، أو حديث عن حكم الموالاة عموماً دون التعيين، كما في نقله عن الشيخ عثمان بن فودى. بل إنّ في قول الشيخ بن فودي، الذي نقله الأخ حسين، نقض لمذهبه كله، فالشيخ يقول "يجب عليك يا أخي أن تكفِّر كل من قال: بأن الموالاة ليست كفرا، لأنه كذّب بما في التنزيل، وإن لم تكفّره فأنت للكفر حينئذ أقرب منك للإيمان"، فسبحان من خلق العقول والفهوم! إن هذه وحدها تثبت مذهبنا أن العاذر لا يكفر، بل أشد ما جاء فيه أنه للكفر أقرب منه للإيمان، فلم يتجرأ العلامة بن فودي على ما تجرأ عليه الحازميّ والأخ حسين.

      التعليقة السابعة: مسألة الاستصحاب: قال "الأمر الثاني: استصحاب حال الإسلام حيث لم يقم سبب الكفر واجب، ولا أنكره على الدكتور ولا على غيره من مشايخنا وإخواننا طلبة العلم، وإنما النزاع في الاستدلال بالاستصحاب في موضع سلّم الدكتور قيام سبب الكفر فيه. وهو خطأ في قوانين الاستدلال؛ ذلك أن الدكتور رعاه الله وخصومه اتفقوا على قيام سبب التكفير، وإنما يدعّي النافي للحكم شبهة مانعة منه، وإذا كان الأمر كذلك لا يصح الاعتماد بالاستصحاب على منع حكم السبب؛ لأن الاستصحاب قد بطل بقيام السبب، والدكتور وأمثاله يدّعون قيام أمر وجودي يمنع من ثبوت حكم السبب، وعليهم بيانه بالدليل المثبت لا بدليل التقرير"

      والحق في غير ما قال. فإننا لا نرفع الحكم باستصحاب الأصل، ولكن نورده كقرينة على ضرورة استبيان انتفاء الموانع، والفرق كبير بينهما عند من دقق النظر، ولم يستعجل في التبصر. فالكافر الأصلي يثبت فيه الحكم تواً لأنه "مقارن للكفر، قائم فيه"، والاستصحاب هنا لا عمل له إلا تأكيد قيام الحكم به، أما من كان على الإسلام، فالعكس تماماً هو الحال.

      التعليقة الثامنة: قال عن المرجئة: "وهذا ليس بصحيح لأن المرجئة عند السلف هم القائلون: الإيمان قول. وهو قول الحنفية المتقدمين الذين أخرجوا الأعمال عن مسمّى الإيمان، فكيف يقال: لا يعني أنهم مرجئة "، واجتهد في جعل الأحناف هم المرجئة، لا غيرهم حتى قال "فإذا لم يكن مرجئة الفقهاء مرجئة، فمن هم المرجئة الذين ذمّهم السلف واشتد النكير عليهم؟" هكذا والله، عجيب! فقد جاء هنا بما لم يأت به الأوائل.

      لا أدرى والله من أين جاء الباحث بهذه الفكرة العجيبة من حصر المرجئة في الأحناف، وجعلهم هم "فرقة" المرجئة التي تحدث عنها أصحاب الفرق، حصراً كما يظهر جلياً واضحاً من تساؤله؟

      إن مجرد استعمال علماء السلف لتعبير "مرجئة الفقهاء" عن الأحناف، بصيغة المضاف والمضاف اليه، يشير، وحده، إلى تخصيص الأحناف، وإخراجهم من عموم "فرقة" المرجئة الخالصة. بل ذهب الشهرستاني إلى أن "المرجئة أصناف أربعة، مرجئة الخوارج، ومرجئة القدرية، ومرجئة الجبرية، والمرجئة الخالصة" وذكر منهم اليونسية، والعبيدية، والغسانية، والثوبانية، وغيرهم. فلم يعدّ الأحناف منهم إلا في إشارة لما جاء عن غسان من أنه كان يعد أبي حنيفة من المرجئة! فهل تابع الباحث غساناً في هذا؟ ثم يقول الشهرستاني "ولعمرى كان يقال لأبي حنيفة مرجئة السنة" وبيّن ذلك التشابه لقوله بفصل الإيمان في المسمى عن العمل، كما قال "له سبب آخر، وهو أنه كان يخالف القدرية والمعتزلة الذين ظهرا في الصدر الأول والمعتزلة كان يلقبون كل من خالفهم في القدر مرجئاً"[1].

      وأنقل هنا ما سبق أنْ دونت عن الأحناف، في كتابي "حقيقة الإيمان"[2]، ففيه مناسبة للقول هنا، ولعل فيه، بإذن الله، فائدة للقارئ والباحث جميعاً. وليلحظ القارئ إنني أشير هنا إلى الهامش الطويل الذي وضعته على عنوان "عمل اللسان والجوارح"، ونصه.

      "وقد خالف في هذا – أي إدخال أعمال الجوارح في مسمى الإيمان – بعض فقهاء الكوفة كأبي حنيفة وغيره ، ومدار خلافهم في  أمرين:

      (أ ) أن مسمى الإيمان يشمل القول دون العمل.

      (ب) إن الإيمان – بمعناه عندهم – لا يزيد ولا ينقص . فنقول وبالله التوفيق قالوا "إن مسمى الإيمان لا يدخله عمل الجوارح ، وجعلوه بذلك مرادفاً للتصديق وهو تصديق مخصوص مستلزم للإقرار والانقياد كما سيتضح بعد فيما سننقله عن أئمتهم في معناه – فلاحظوا بذلك المعنى اللغوي – كما أثبتوه – دون المعنى الشرعي كما قال شارح الطحاوية: "فالإمام أبو حنيفة رضي الله عنه نظر إلى حقيقة الإيمان لغة مع أدلة من كلام الشارع وبقية الأئمة رحمهم الله نظروا إلى حقيقته في عرف الشرع فإن الشرع ضم إلى ذلك – التصديق- أوصافاً وشرائط" . شرح الطحاوية ص 241. وقد استدلوا على ذلك بأدلة تدل على أن الإيمان هو التصديق دون العمل كقوله تعالى (وما أنت بمؤمن لنا) أي مصدق لنا كما دللوا بمبانيه الإيمان للأعمال الصالحة في التعبير القرآني على افتراقهما في المعنى كقوله تعالى "الذين آمنوا وعملوا الصالحات" فالأعمال إذن ثمرة من ثمرات الإيمان وليست لازماً من لوازمه ، ثم كان من نتيجة هذا النظر أن كان الإيمان – في مصطلحهم – لا يقبل الزيادة ولا النقصان ، وإنما تتفاوت مراتب اليقين القلبي ، وأما أصل الإيمان – التصديق – فهو مرتبة محفوظة . وننقل هنا من أقوال أئمة الأحناف ما يدل على ما ذكرناه.

      يقول شارح الفقه الأكبر : "(وإيمان أهل السماء والأرض) أي من الملائكة وأهل الجنة والأنبياء والأولياء وسائر المؤمنين من الأبرار والفجار (لا يزيد ولا ينقص) أي من جهة المؤمن ، نفسه ، لأن التصديق إذا لم يكن على وجه التحقيق يكون في مرتبة الظن والترديد ، والظن غير مفيد في مقام الاعتقاد عند أرباب التأييد قال تعالى (إن الظن لا يغني من الحق شيئاً) فالتحقيق أن الإيمان كما قال الإمام الرازي لا يقبل الزيادة والنقصان من حيث أصل التصديق لا من جهة اليقين فإن مراتب أهلها مختلفة في الدين". شرح الفقه الأكبر لملا علي القاري ص70. وراجع التفسير الكبير للرازي جـ2ص26.

      ثم يقول بعدها: "وهذا معنى ما ورد لو وزن إيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه بإيمان جميع المؤمنين لرجح إيمانه يعني لرجحان إيقانه ووقار جنانه وثبات إتقانه وتحقيق عرفانه ، لا من جهة ثمرات الإيمان من زيادات الإحسان لتفاوت أفراد الإنسان من أهل الإيمان في كثرة الطاعات وقلة العصيان وعكسه في مرتبة النقصان مع بقاء أهل وصف الإيمان في حق كل منهما بنعت الايقان ، فالخلاف لفظي عند أرباب العرفان" السابق ص 70.

      ويقول صاحب "فيض الباري" العلامة الكشميري: "وأثبت شئ في هذا الباب عقيدة الطحاوي فإنه كتب في أوله أنه يكتب فيه عقائد الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأبى يوسف رحمه الله تعالى ، وأحسن شروحه شرح القونوى وهو حنفي المذهب تلميذ ابن كثير ويستفاد منه أن الإمام رحمه الله تعالى إنما نفى الزيادة والنقصان في مرتبة محفوظة كما سيأتي ولا ينفي مطلقاً" فيض الباري شرح البخاري جـ1ص60. وتعليقاً على ذلك نقول: إنه بالنسبة لمسألة دخول الأعمال في مسمى الإيمان فإن الحق – والله أعلم – في جانب جمهور أهل السنة والجماعة الذين اعتبروا إن الإيمان قول وعمل ، فالأعمال داخلة في مسماه ، فإنه من المقرر في علم الأصول أن اللفظ إن كان له استعمالان لغوي وشرعي قدم المعنى الشرعي على اللغوي. (راجع الموافقات جـ2ص268 وبعدها).

      وأما عن مباينة الأعمال الصالحة للإيمان في التعبير القرآني فقد أوضح الإمام ابن تيمية أن ذلك إنما هو من قبيل عطف الخاص على العام كما في قوله تعالى : (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) البقرة 98 ومثاله كثير في القرآن.

      كما رد ابن تيمية تفصيلاً على ما ذهبت إليه هذه الطائفة من الفقهاء في كتاب "الإيمان" بأكثر من ستة عشر وجهاً فارجع إليها ص247 وبعدها ، ص51 وبعدها وإنما مرادنا هنا هو إثبات ما ذهب إليه جمهور أهل السنة في هذا الأمر. والمهم هنا هو أن نبين كذلك أنه وإن كان أبو حنيفة قد قصر لفظ الإيمان على التصديق – الذي هو تصديق مخصوص كما سنبينه بعد – فإنه متفق مع أهل السنة جميعاً على ترتيب الثواب والعقاب على الأعمال – وهو ما فارقته فيه المرجئة – سواء فعلها أو تركها فهم في ذلك سواء.

      يقول ابن تيمية: "ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول من الفقهاء كحماد بن أبي سليمان – وهو أول من قال ذلك ومن اتبعه من أهل الكوفة – وغيرهم متفقون مع جميع علماء السنة على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد وإن قالوا إن إيمانهم كامل كإيمان جبريل فهم يقولون إن الإيمان بدون العمل المفروض ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقاً للذم والعقاب كما تقوله الجماعة…" الإيمان ص255.

      كذلك فإن الحنفية قد جعلوا كثيرا من الأعمال من شرائط الإيمان ومستلزماته ، وجعلوا من لم يأتي بها كافراً ، بل توسعوا في ذلك عن سواهم من المذاهب ، قال صاحب الفقه الأكبر" "… وفي الخلاصة من وضع قلنسوة المجوس على رأسه قال بعضهم يكفر ، وقال بعض المتأخرين إن كان لضرورة برد .. لا يكفر الإيمان وإلا كفر"ص155.

      وكذلك : "وفي الخلاصة من أهدى بيضة إلى المجوسي يوم النوروز كفر أي لأنه أعانه على كفره وإغوائه أو تشبه بهم في أهدائه.." إلى غير ذلك كثيراً جداً من الأعمال التي نصوا على كفر فاعلها أو على كفر من لم يتركها "إن كانت من أعمال المشركين" فهم وإن جعلوا الإيمان "التصديق" إلا أن ذلك خلاف لفظي لأن من الأعمال عندهم – بل أكثر مما هي عند غيرهم – ما يكفر فاعله ويخرج عن الملة مطلقاً ، ونظرة في كتب فقه الحنفية تؤكد ذلك مما لا يدع مجالا للشك (راجع شرح الفقه الأكبر ، الإعلام بقواطع الإسلام للهيثمي).

      وأما بالنسبة لمسألة التصديق ومعناه والمراد منه ، فقد ذكرنا من قبل أن الأحناف وإن اعتبروا أن الإيمان هو التصديق إلا أنهم جعلوا الإقرار من لوازمه.

      = فمدار النجاة عندهم – كمداره عند أهل السنة جميعاً – على الالتزام بالطاعة – كما سيتبين بعد في مفهوم الالتزام عند أهل السنة – مع ترك أعمال الشرك جملة ، ولم يجعلوه كما يعتقد بعض مرجئة العصر الحديث – هو مجرد نسبة الصدق إلى الخبر أو المخبر ، فإن هذا الأمر مما لا يختلف فيه بين أبي حنيفة وبقية الأئمة لمساسه بأصل الدين ومدار النجاة من الكفر المخلد في النار وهذا ما عناه الإمام الكشميري في "فيض البارى" حيث ذكر أن الخلاف بين أبي حنيفة وبقية الأئمة – وإن لم يكن نزاعاً لفظياً في رأيه – إلا أنه اختلاف في جهة النظر ولكن مدار النجاة عندهم واحد يقول:

      "ومن ههنا علمت أن الاختلاف ليس من باب الاختلاف في الأنظار بمعنى أن هذا مؤد إلى طرف صحيح وهذا أيضاً لطرف آخر صحيح وعند كل حصة صحيحة ، والناتج عند كل واحد ناج عن الآخر وكذلك الهالك عند واحد هالك عند الآخر" فيض البارى جـ2ص63.

      وهذا الذي أشار إليه العلامة الكشميري هو ما نريد أن نؤكد عليه هنا ، فإن خلاف أبي حنيفة وأصحابه مع بقية أهل السنة إنما هو خلاف لفظي يتناول مدلولات الألفاظ أو خلاف في الأنظار يصل إلى طرف صحيح ، وإنما المهم هو أن القدر اللازم للنجاة من الخلود في النار عند كل منهما لا يتغير فأبو حنيفة قد أطلق الإيمان على التصديق ثم جعل شرط قبوله الإقرار بالطاعة ، والانقياد - وليس نطق اللسان فقط - لضمان النجاة ، وأهل السنة قد أطلقوا الإيمان على التصديق والإقرار والالتزام بالطاعة معاً ، وهو المستلزم للانقياد للشرائع عامة وأدخلوا في مسماه الأعمال فيكون بهذا المعنى الإقرار شرطاً عند أبي حنيفة وشرطاً (أو ركناً) عند بقية أهل السنة .

      يقول صاحب فيض الباري: ".. فأقول إن الجزء الذي يمتاز به الإيمان والكفر هو التزام الطاعة مع الردع والتبرى عن دين سواه .." إلى قوله: "فهذا هو الصواب في تفسيره . فقد نقل الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى الإجماع على كون هذا الجزء مما لابد منه في باب الإيمان وحينئذ ينبغي أن يراد من الاقرار في قول الفقهاء الاقرار بالتزام الطاعة" الفيض جـ1 من 51.

      وما ذكره في غاية الأهمية للدلالة على أن مراد الفقهاء بالاقرار ليس هو نطق الشهادتين باللسان ولكن هو التزام الطاعة وعدم الانخلاع من الأحكام الشرعية عامة . ثم يبين أن القول بأن الاقرار المنجي هو النطق بالشهادتين يورد إشكالاً يقول: "وههنا إشكال يرد على الفقهاء والمتكلمين وهو أن بعض أفعال الكفر قد توجد من المصدق كالسجود للصنم والاستخفاف بالمصحف ، فإن قلنا أنه كافر ، ناقض قولنا : "إن الإيمان هو التصديق" ثم يجيب قائلاً: فالحق في الجواب ما ذكره ابن الهمام رحمه الله تعالى وحاصله أن بعض الأفعال تقوم مقام الجحود نحو العلائم المختصة بالكفر.

      وإنما يجب في الإيمان التبرؤ عن مثلها أيضاً ، كما يجب التبرؤ عن نفس الكفر ، ولذا قال تعالى : (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) في جواب قولهم (إنما كنا نخوض ونلعب) لم يقل إنكم كذبتم في قولكم بل أخبرهم بأنه بهذا اللعب والخوض اللذين من أخص علائم الكفر خلعوا ربقة الإسلام عن أعناقهم وخرجوا عن حماه إلى الكفر ، فدل على أن مثل تلك الأفعال إذا توجد في رجل يحكم عليه بالكفر ولا ينظر إلى تصديقه في قلبه ولا يلتفت إلى أنها كانت منه خوضاً وهزءاً فقط أو كانت عقيدة ، ومن ههنا تسمعهم يقولون إن التأويل في ضروريات الدين غير مقبول وذلك لأن التأويل فيها يساوي الجحود . وبالجملة إن التصديق المجامع مع أخص أفعال الكفر لم يعتبره الشرع تصديقاً ، فمن أتى بالأفعال المذكورة فكأنه فاقد للتصديق عنده وأوضحه الجصاص فراجعه" الفيض جـ1 ص 5.

      انظر رحمك الله إلى قول كبار أئمة الحنفية - كابن الهمام والكشميري والجصاص - وهم الذين أطلق عليهم بعض العلماء - مرجئة الفقهاء لمجرد أنهم أخرجوا الأعمال من مسمى الإيمان لفظاً فقط رغم اشتراطهم للقدر اللازم منها للنجاة من الخلود في النار كبقية أهل السنة سواء بسواء .

      يقول شارح الطحاوية مبيناً ذلك : "ولم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق وإنما يقابل بالكفر .. والكفر لا يختص بالتكذيب بل لو قال أعلم أنك صادق ولكن لا أتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك لكان كفراً أعظم ، فعلم أن الإيمان ليس التصديق فقط ولا الكفر التكذيب فقط بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب ، فكذلك الإيمان يكون تصديقاً وموافقة وموالاة وانقياداً ولا يكون مجرد التصديق". شرح الطحاوية ص 243.

      ويقول الإمام الطحاوي في المتن: "وأهله - أي أهل الإيمان - في أصله سواء" أي متفقون على أصله المنجي من الخلود في النار الموقع خلافه في الكفر ، فالمحصلة إذن واحدة والخلاف وإن كان لفظياً .. أو خلافاً في النظر كما يرى صاحب الفيض - فالاتفاق حاصل فيما هو مدار النجاة من الكفر ، وترتب الثواب والعقاب حسب إتيان الأعمال أو تركها متفق عليه بينهم ، والأعمال المكفرة والتي تعرف بها انخرام الأصل وسقوط عقد القلب محددة في مذاهبهم ، بل إن الأحناف توسعوا في دلالات الكفر بالأعمال عن سائر المذاهب ، كما ذكرنا من قبل، وأما أن يقال إن الإيمان هو التصديق ثم يقابل التصديق بالتكذيب فيكون الكفر هو التكذيب فقط ، فذلك ما لم يقله أحد من أئمة السنة لا الأحناف ولا غيرهم ، بل إن هذا هو محور بدعة الإرجاء المذمومة كما سنبين بعد إن شاء الله تعالى ، كذلك أن يقال إن إخراج الأعمال من مسمى الإيمان يعني عدم حدوث أو ترتب الكفر على عمل من الأعمال فهذا خلاف ما ذهب إليه جميع أهل السنة - بما فيهم الحنفية - بل إن قائل ذلك قد اضطرب فهمه عامة سواء في مفهوم الأحناف للإيمان أو في مفهوم بقية أئمة السنة فيه ، كذلك اضطرب في مفهوم الكفر العملي والاعتقادي ومجالهما كما سنبين بعد . ومما يجدر هنا ، أن ننقل أثراً رواه ابن أبي العز في شرحه على الطحاوية يفيد تردد أبي حنيفة في قوله في الإيمان ، قال : "إن حماد بن زيد كما روى له حديث أي الإسلام أفضل . الخ قال له : ألا نراه يقول أي الإسلام أفضل؟ قال الإيمان ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان؟ فسكت أبوحنيفة فقال بعض أصحابه : "ألا نجيبه يا أبا حنيفة قال : بم أجيبه وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" شرح الطحاوية ص 253." اهـ

      التعليقة التاسعة: قال "قرر أيضا أن من أخرج الأعمال من مسمّى الإيمان لم يكفّرهم أحد وقد أخرج من قبل الأحناف العمل من مسمى الإيمان، فلم يكفرهم أحد (يشير إلى قولي) .. وليس بسديد، وإن قاله قبله أبو العباس ابن تيمية وغيره؛ لأن تكفير القائلين بأن الإيمان (قلنا: قصور في الجملة) قول مشهور عن بعض أهل الحديث، ولا ريب أنّه يشمل الحنفية إن لم يكونوا المعنيّين، بل نقل بعض أهل العلم تكفير أهل الحديث للقائلين: أن الإيمان قول، وهم مرجئة الفقهاء ومن قال بقولهم. نعم، كفّرهم الإمام وكيع بن الجرّاح، والحميدي عبد الله بن الزبير، وأبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري المدني، وابن بطة، والآجري".

      ونعود مرة أخرى إلى التنبيه الذي ذكرنا في مقدمة هذا المقال من أنّ "النقولات تخضع عادة لاختيار الناقل، ثم لتحليله وفهمه لما فيها، كما سنرى". فتراه راح يحاول، فاشلاً، أن يثبت أن الآحناف كفارٌ عند عدد من أهل الحديث الذين ذكرهم. وبالطبع تعدى بن تيمية "وغيره" وهم جمهور العلماء من أهل السنة الذين صرحوا بذلك، ولو أنصف لتلا صفحات منهم هم أعلام أخل السنة. أما من نقل عنهم من بعض أكابر، فقد دلّس في نقولاتهم، وحمّلها مذهبه. ونجتزأ هنا بما نقله عن وكيع بن الجراح، قال: قال وكيع "القدرية يقولون: الأمر مستقبل إن الله لم يقدر المصائب والأعمال. والمرجئة يقولون:القول يجزئ من العمل. والجهمية يقولون:المعرفة تجزئ من القول والعمل. وهو كلّه كفر". وقد بيّنا أن ذلك على ما تقوله المرجئة الخالصة، لا الأحناف، فارجع إلى ما قررنا أعلاه لتعرف قدر التحريف في هذا القول، بل والظاهرية في فهمه. وهكذا الحال في بقية ما نقل، فلا نشغل أنفسنا به كثيراً.

      التعليقة العاشرة: وأسماها " الجواب عن الإشكالية في موقف النجديين من الجاهل المشرك". وقد حاول فيها أن يثبت أن في النصوص المنقولة خطأ مطبعيا! وهذا أضعف ما يمكن لباحث أن يتوسل به إلى مراد. ويكفي أن نعلق على ما نقله عن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن قال "والشيخ محمد رحمه الله من أعظم الناس توقفاً وإحجاماً عن إطلاق الكفر، حتى أنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه ويبلغه الحجة التي يكفر تاركها، قال في بعض رسائله: وإذا كنا لا نقاتل من يعبد قبة الكواز حتى نتقدم بدعوته إلى إخلاص الدين لله، فكيف نكفر من لم يهاجر إلينا وإن كان مؤمناً موحداً؟ وقال: وقد سئل عن مثل هؤلاء الجهال فقرر أن من قامت عليه الحجة وتأهل لمعرفتها يكفر بعبادة القبور"منهاج التأسيس والتقديس 76. ثم قال "قال الفقي في الحاشية رحمه الله تعليقا على الجملة الأخيرة فيما يظهر: «كان في العبارة تحريف غيّر معناها عما نعرف من عقيدة الشيخ لسقم طبع النسخة وكثرة تحريفها فصححناها بمراجعة رسائله والله أعلم" ويرى القارئ أنّ الشيخ الفقي قرر أن الخكأ قد تصحح بالفعل وأنّ الجملة المثبتة هي الصحيحية! واعترف الباحث بأن ذلك لا يزيد الطين إلا بلة! فلم تلجأ إلى هذا المسرب الضيق إذن؟

      ثم قال "فإن قيل: ما وجه التكفير من وجه والنفي من جهة أخرى؟ أجيب: يمكن أن يندرج هذا في قاعدة تبعّض الأحكام، أو الحكم بين حكمين، وذلك أن يكون الفرع يأخذ مشابهة من أصول متعددة فيعطى أحكاما مختلفة ولا يمحّض لأحد الأصول وبيانه: أن قيام سبب التكفير بالمكلف يقتضي الحكم بكفره ربطا للحكم بسببه، وجهل الفاعل يقتضي عدم عقوبته قبل العلم، فأعطي حكما بين حكمين".

      ولا نعلم ما هو الحكم بين الحكمين؟ أهو كافرٌ أم مسلم؟ أو أنه في منزلة بين المنزلتين؟ والله لا يعلم أهل السنة والجماعة إلا هذين، إلا المعتزلة!

      وما ذكره من أصل قاعدة تبعض الأحكام فصحيح، لكنه ليس موضعه. إذ غفل الأخ الكريم عن أنّ هذا فيما يصح فيه الانفكاك، كما في مسألة الصلاة في الثوب المغصوب أو الدار المغصوبة، لكن هنا، لا يصح الانفكاك بين الحالين، وقد قلت سابقا في سلسلة الرد على الحازمي "نعم حاله كفرٌ ويجب البيان له وإقامة الحجة عليه، ثم استتابته، فإن تاب وإلا قتل ردة"[3] وهو مقتضى ما قاله بن تيمية مما نقلت بعدها، فارجع اليها. فكون حاله كفر لا يجعله كافراً كما هو ظاهر.

      وقد اضطررنا إلى هذا الرد اضطرارا، حتى لا يغترّ به من هو من العوام. إلا إننا ندعو الله العظيم ذو العرش العظيم، أن يفك أسر الشيخ، وأن ينكّل بأعدائه وأعداء الله ورسوله، فوالله قد حزنّا لما سمهنا من نبأ اعتقاله فرّج الله عنه، وهو في عمر ولدي شريف، وما أذكره إلا كما تذكّر المصيبة بالمصيبة، كما قال شوقي بحق "إن المصائب يجمعن المصابينا".

      والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

      د طارق عبد الحليم

      17 جمادى الثاني 1435 – 17 أبريل 2014


      [1]  هامش الفصل في الملل والأهواء والنحل، للشهرستاني ج1ص186 وبعدها، طبعة المثنى ببغداد.

      [2]  حقيقة الإيمانن د طارق عبد الحليم، ص18، طبعة مكتبة المدني 1979.

      [3]  سلسلة الرد على الشيخ الحازمي، د طارق عبد الحليم ج3، http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72549