فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      عوامل يجب اعتبارها في جهاد الشام - قَالُوا۟ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد

      لم يعد من الصعب اليوم، كما كان في الأسابيع الماضية، أن يرى الناظر محال الخلل، ومواطن الانحراف، الذي أصاب الجهاد في الشام، بعدما كان رجاء أمة بأسرها، وبذرة أمل لشروق شمس الإسلام على بلادنا بعد ليلٍ طال وتمدّد، ولا يظهر أن له انجلاء قريب، والله المستعان.

      ونودّ أن نشير هنا إلى حقيقة إننا لا نوالى أحداً من الأطراف ضد آخر، ولا ننصر أحداً على أحدٍ، إلا من ظُلم. وما نقول ما نقول إلا لوجه الله تعالى، ورجاء أن يكون هناك آذان تسمع وعقول تقنع، بحقيقة أن ما يجرى اليوم. فهو إثم عظيم وخطأ استراتيجي، سيعرف أذاه من يتولى كبره "قَالُوا۟ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ"الأعراف 164. فلا نجامل أحداً فيما نقول ولا نخشى لوماً أو تعصبا أعمى أو سبّاً أو قدحاً أو تعريضاً أو تجريحاً، فإن الله هو حسيبنا.

      كذلك فليعي القارئ أنّ نقد طائفة ليس نصر للأخرى، فإن هذه الخلل في المنطق قد ساد مؤخراً نتيجة تفشى ثقافة التعصب الأعمى، لا بين العوام فقط، بل بين طلاب العلم و"الشرعيين" كذلك.

      والقصة، كما حدثت، بإيجاز شديد، هي:

      1. ظهور "الدولة الإسلامية في العراق" كما أسماها قادتها، والتي بايعتها عشائر وكتائب، وأقرهم على ذلك قادة الجهاد بخراسان، وحلوا تنظيمهم في العراق لصالحها.
      2. اتفقت "الدولة" في العراق مع أحد أمرائها، الشيخ الجولانيّ، على أن يتوجه لمساعدة أهل الشام في قتالهم النصيرية الملحدة، والتي يعينها كلاب الرافضة في كل مكان، على أن يعطوه زاداً ومؤونة وعتادا ورجالاً. فكانت شهامة من أهل العراق، كما عهد عنهم. وأسموها جبهة النصرة.
      3. أبلت جبهة النصرة بلاءً حسنا، وارتفعت أسهم الشيخ الجولاني في ساحة القتال بالشام.
      4. قررت "الدولة" في العراق أن "تتمدد" إلى الشام، بعد أن أخذت بيعة ممن حولها ممن توجه رأيها على أنهم "أهل الحل والعقد".
      5. رفض الشيخ الجولاني هذا التمدد، واعتبر، حسب قوله، أنه لا مبرر له. فشق عصا الطاعة وردّ بيعته، واتجه بها إلى الشيخ د أيمن الظواهريّ مباشرة، بعد أن أعلن أنّ الاتصال المباشر، بينه وبين قاعدة خراسان، تم بموافقة الشيخ البغدادي شخصياً.
      6. أعلن الشيخ الظواهري، أنه لم يُستشر في قرار التمدد. ومن ثم قبل بيعة الشيخ الجولانيّ.
      7. وافق الطرفان على تحكيم الشيخ الظواهري، ثم تراجع الشيخ البغدادي عن قبول الحكم.
      8. أعلنت "الدولة" مبدأ "كفوا عنا نكف عنكم"، وأنها ستقاتل "البغاة" المنشقين عن البيعة أينما كانوا حتى النهاية.
      9. فشلت محاولات عدة للصلح بين الطرفين، وصار القتال عاماً بين "الدولة" من ناحية، وكافة الفصائل الأخرى، المجاهدة منها والعميلة والمرتدة من ناحية أخرى.

      ثم إن الحديث عن البيعات، ومن شق عصا من؟ ومن الباغي على من؟ لم يعد، عملياً، يجدى هنا نفعاً. إذ كلّ فريقٍ آمن بما يراه حقاً كإيمانه بالله، مما لا يجعل محلاً لموقف وسط بينهما، بل ولا احتمالا لصلح. إنما طلب معرفة هذا الأمر ليس إلا من باب تحقيق التاريخ ومعرفة ما جرى، عبرة لأجيال قادمة تحسن التصريف وتقوم بحق التكليف.

      فمن ناحية، تري "الدولة" أنها دولة ممكّنة في الأرض، وأن النصرة انشقت عن بيعتها، وأن من ينكر ذلك يكون باغيا عليها، وإن سالمته مؤقتاً. كما أنها ترى أنّ كل الأطراف الأخرى هي إما أطراف بغيّ أو مرتدون كفار، حسب تصنيفهم، نصرة أو أحرار أو جبهة إسلامية أو جيش حر أو غير ذلك، وحسب مكانهم في الصف وقت القتال. وبناء عليه، ترى أن النصرة تعاونت وتهاونت، في التعاون مع كتائب، أعيانهم مرتدون بيقين، كالجيش الحر، كما قرروا، وهو ما يجعلهم موالين للكفار. فحكمهم أي النصرة، حسب موضعهم في قتالهم. إن كانوا في صف تلك الكتائب، كفروا، وإن كانوا في جهة أخرى لم يكفروا، بل بغوا، وفي الحالين يجب قتلهم. ومن ثم أفتى المفتون بقتل المصلحة، وأن قتل "المرتدين" ممن يدعى الإسلام، في تلك الجبهات، واجب محتم.

      ومن ناحية، ترى النصرة أنّ "الدولة" بغت عليها، بالتمدد أولاً، وبإعلان القتال ثانيا، وأن لا حق لها وحدها في إعلان التمدد، فالعراق غير الشام، كانت طول الزمن، شاماً عراقاً. وأن ممارساتها في العراق أظهرت غلواً شديداً جعل هذا التمدد خطراً لا عوناً في تلك البلاد. ورأت أن التعاون حالات، يمكن أن يُبرر في بعضها، خاصة و"الدولة" تهاجم الكلّ، فإن وُجدوا في صفٍ واحد ضدها، فهو تزامن لا تزامل. كما قالت أنّ من تلك الفصائل الأخرى مرتدون، ومنهم مسلمون لا تحل دماؤهم، ويجب التثبت قبل قتلهم.

      والحق، أنه بعد هذه العجالة، يمكن أن نقرر أربعة أمور نحسبها عاملاً من عوامل الابتلاء بهذا الواقع المرير:

      • خلع الشيخ الجولاني بيعته "للدولة"، كان حجراً أساساً في هذه الأزمة كلها. وتبرير الشيخ الجولاني لهذا لا يعلمه إلا الله.
      • قرار التمدد وإقامة "دولة" في العراق والشام، لم يكن على كاولة الجديث وقت أن توجهت الحملة من العراق إلى الشام، لمعاونة أهلها. وبكلمات أخر، لم تكن للتمدد أو التوسع.
      • رفض "الدولة" لحكم الشيخ الجليل د الظواهري، بعد قبولها التحكيم، كان المسمار الثاني في نعش مسيرة الجهاد هذه.
      • صمت الشيخ الجليل د الظواهريّ على إظهار موقف كلّ فريقٍ على الحقيقة، وعلاقته بخراسان، يحتاج إلى أن يراجعه بأسرع وقت ممكن، وإن كانت "الدولة" قد سبقت بإعلان رفضها لما قد يقول، بل واتخذت منه هدفاً وعدواً على لسان "شرعييها" وأنصارها.

      ثمّ، ما نريد أن نقرره هنا من جديد المقال، هو بعض النظرات التي يراد لأهل العلم أن يتأملوها، إذ نحسب إنها ستكون مرآة ما سيعكسه التاريخ عن هذه الحقبة، وعن أطرافها، بعد أن ينقشع غبار المرحلة، نسأل الله عدم الفجيعة فيما سينحسر عنه، كما انحسر عن أرض مصر وأهلها بفجيعة السيسي!

      • الحق أن غياب تنظير واضحٍ من جبهة النصرة، لما تراه في تلك الجماعات الأخرى، ببيان واضح شافٍ، لا يلزم فيه أسماء أفراد، لكن بيان تنظيرات ثم وصف تنظيمات، وببيان موقفهم من عدم تطبيق الحدود المقدور عليها في أماكن تواجدهم، هو أصلٌ لما فيه الخلط اليوم، بل مبرر للخصم أن يرمي بما يرمي به خصمه، إذ لا قواعد ولا أسس تجعله للسنة أقرب ولحكم الله أسمع. فإن موضوع التعاون والتهاون هذا في التعامل مع عدو متلبسٍ بلباس صديق موضوع ولاء وبراء وعقيدة. وقد يكون من حجتهم أن "الدولة" أجبرتهم على ذلك بأن وضعتهم في فسطاط هؤلاء ابتداءً، بل إنها فعلت ما تنهاها عنه، كما حدث اليوم في الدير، حيث تقدمت قوات النظام من الأمام لقرية الصور، فاندفع المجاهدون لصدهم، فإذا بالدولة تأتي من جهة الريف وتستولى على المدينة وتقتل أمير النصرة فيها وعائلته، فهو تعاون خفيّ. لكنّ هذا إدعاءٌ يقابله ادعاءات من "الدولة" مثله، بل أكثر على حد قولهم كما حدث في مركدة. فالحوادث سجال، وكلها مخالف لما أتت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
      • إن اسم "الدولة" التي أطلقته قيادات الجماعات التي انتظمت تحت لواء هذا التنظيم الجديد في العراق، ومباركة قيادة خراسان لهذه التسمية وقتها، فيه نظر، بل هو من الأسس النفسية التي حملت القادة والأتباع على الدفاع عن هذا الاسم والمولاة والمعاداة عليه كأنه هدف في ذاته، وإن أفني العالم الإسلامي كله، رغم أنه لا يغير حقيقة واحدة على الأرض.

      فقد انطلقت "الدولة" من قناعات وتصورات، لا أقول إنها أخطأت فيها، قدر ما أقول إنها قد خُلّط عليها أمرها فيها، فاستصحبت أفكارا وأوضاعا سياسية وتركيبات اجتماعية لا تنطبق على أرض الواقع من ناحية، ولا تسير على نهج الشرع أو رواية التاريخ من جهة أخرى، حتى وإن أقر عليها الشيخان أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وهي إنها "دولة".

      وقد ساءلت في مقال سابق لي، لا بأس من نقل جزء منه هنا لأهميته، قلت "غموض مفهوم "الدولة" لدى مسؤوليها، وبالتالي لدى أتباعها ومن يتتبع الأحداث. فالدول، من حيث هي دول، لا تزال تنظيمات اجتماعية، تقوم بأدوار معينة، في مجالات الحياة، وهو ما قد تقوم به جبهات أو إمارت، أو ماشئت. وفي رأينا أن توصيف "الإمارة" أقوى من توصيف "الدولة"، إذ توصيف الدولة أمرٌ لا دلالة عليه في الشرع، بل هو تاريخي وضعي، أمّا الإمارة، فهي مما ثبت شرعاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته وتابعيهم. ومن تمسك بتعبير الدولة إنما وقع في شرك تسمية محدثة، وتعريف وضعيّ، بنكهة إسلامية! وإلا فيجب أن يتحدد معنى "الدولة" المقصودة هنا، وما تشبيهها بدولة المدينة إلا إسقاط لتسميات مؤرخين مُحدثين على وضع الجماعة المسلمة في المدينة وقت النبوة. ولم يكن معروفا أيامها "دولة" مكة في مقابل "دولة" المدينة. وما هذا التمسك إلا أثر من الآثار الخفية لسايكس بيكو[1]، التي تعطي تعبير "الدولة" احتراماً وحقوقاً أكثر من الإمارة أو الولاية أو الخلافة".

      الشاهد أنّ "الدولة" هنا، قد ألزمت نفسها، وعاملت غيرها، بمفهوم غير واضح ولا مستقر. فإن عنت بإطلاق لفظ "الدولة" ما يقصد به القانونيون في العصر الحديث، فلابد لها من عاصمة، وحدود مستقرة، لا تتغير كل فترة حسب ما تفقد من أرضٍ، أو تستولي عليها. وأظن أن "الدولة" لا تقصده، من حيث إنه اتباع لمفهوم سايكس بيكو في تقسيم أرض الله! وقد كانت الدولة الكندية عرضة للإنقسام عام 1996، من قبل الجزء الفرنسي فيها، وكانت تستعد لتغيير كلّ ما هو متعلق بكيانها إن حدث الانشقاق، إذ تغير الحدود يملى تغيرات كثيرة تتبعه، في منطق الدول الحديثة. وإن لم تكن تقصد هذا المصطلح بمعناه الوضعيّ، فلماذا تحارب دونه، وتوالى وتعادى دونه، بل وتغرس في عقول أتباعها وأنصارها كلّ هذا التحيز والتعصب للمصطلح، حتى إنهم يفاصلون عليه. ثم إن "المدينة المنورة" لم تكن دولة، ولم يُطلق عليها أحد اسم الدولة إلا المؤرخين المحدثين في القرن الماضي. ولذلك قال د أيمن الظواهري "ليس هناك شيء الآن في العراق اسمه القاعدة، ولكن تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين اندمج بفضل الله مع غيره من الجماعات الجهادية في دولة العراق الإسلامية حفظها الله، وهي إمارة شرعية تقوم على منهج شرعي صحيح وتأسست بالشورى وحازت على بيعة أغلب المجاهدين والقبائل في العراق". فكما قلنا في مقالنا السابق، إن توصيفها الحقيقي في العراق هو "الإمارة"، وهي بإذن الله مشروع دولة، إن التزمت بالسنن.

      والإصرار على هذا المفهوم هو أصلٌ في هذا الموقف الذي فيه جهاد الشام اليوم، إذ لم يراعى فيه الواقع، ولا أبعاد العدو الصائل، ولا فقه الأولويات. وإن التسمية لا تغير نية الجهاد، ولا قوته، إلا إنها تنشأ تصوراً قد يكون عائقا في بعض الأحيان، أكثر من أن يكون معيناً.

      وبعد هذا الذي ذكرت، فإني لا ألوم أحدا على آمال "الدولة"، وهو حلمٌ سبق أن قلت فيه "وأسارع بالقول كذلك إنّ الإعلان عن "الدولة الإسلامية في العراق" أولاً، ثم إعلان تمددها إلى الشام ثانياً، قد أحيا في قلوب الكثير الغالب من المسلمين أملاً كان بعيداً فقربته، وأوردتهم ظلاً في صحراء الهزيمة ومدّته. وكان هذا، ولا يزال حياً في قلب كاتب هذه السطور، يشهد الله"[2]. لكن هذا الحلم، قد تحول على الأرض إلى أخطاء في التطبيق، من الجانبين المتناحرين، تجاوزت حد السنة، وأهريقت بسببه دماءٌ مسلمة بغير حق.

      • ثم إنّ رفض "الدولة" لحكم الشيخ الظواهريّ بعد الموافقة علي تحكيمه، لا يقل خطراً عن أمر نبذ الشيخ الجولاني لبيعته. فقد ركبت الدولة رأسها ونبذت ما كانت تعهدت بالموافقة عليه. ومن ثم، تراكمت الأخطاء، وبدأت دورة الغلو، بين الأمراء المنتمين لها ثم من الأنصار، ثم تطورت إلى تسونامي تكفير اجتاح البلاد وأدى إلى قتل الكثير من المسلمين. ومن ذلك ما أعلنه أبو دجانة القزبيز، أمير في الشرقية، من كفر الجبهة واستحلال دمائهم واستحياء نسائهم وتتبع جرحاهم! وهذا إيغال في الغلو والبعد عن الشرع، بل يصل إلى حدّ الإجرام، في رأينا، ممن يعلن مثل هذا الإعلان، ويقتل مسلمين موحدين، ارتدّوا بزعمه! وقد أنكرنا على أبو الليث[3] رحمه الله، ممن ينتمى إلى النصرة، في خطبة جمعة حين تحدث عن أولوية قتال الدولة على قتال النصيرية، وعنفناه تعنيفا أليماً. فهذا تطرف شديد من الجانبين.
      • ثم إن التساءل الذي يبرز هنا أنْ: هل كان قرار التمدد إلى الشام صحيحاً؟ هل انتهت "الدولة" هناك في العراق بنصر مؤزر، واستقرت، ووطدت دعائمها ووثّقت أركانها، لتنتقل إلى الشام، فتوسع رقعة القتال، وتضعف جبهة على حساب أخرى؟ أهذا من الحكمة العسكرية أو الاستراتيجية المعتبرة؟

      فلو تحدثنا بمفهوم "الدولة"، فإن أية دولة حديثة ناشئة، تبدأ بتوطيد دعائمها على أرض محددة ورقعة ثابتة، ثم تأمّنها، ثم تتخذ عاصمة لها في مركز تلك الرقعة بعيداً عن أطرافها، ثم تقيم ثغوراً لتدفع صولة الصائلين. ثم تستقر في أرضها حيناً لتصلح من شأن ما أحرزت. ثم تبدأ في التوجه إلى الخارج، لتوسع الرقعة وتتمدد.

      لكن ما حدث من "الدولة" الإسلامية في العراق، كان مخالفاً لذلك، لسبب ما لا يعلمه إلا الله. وليس السؤال هنا: وهل التمدد حرام؟ بل السؤال: هل التمدد هو واجب الوقت الآن؟ وهل هو واجب على إمارة، أم على "خلافة"؟ وهما هنا قلنا أنّ "الدولة" هنا، كدولة" فاقدة  لعامليّ الوقت والصفة. ولهذا فإن سبب هذا الإعلان أمر محير ابتداءً، وأصل آخر في نعش هذه العملية الجهادية. كما أنّ التمدد مسلّمٌ به لإمام عامٍ له حكم الإمامة العظمي. لكنّ مراعاة ما استقرت عليه العادات من قيام الشام شاماً والعراق عراقاً لمن هم دون ذلك، إنما هو من حصافة الرأي وقواعد العدل والمروءة، وهو أحفظ للدماء وإن ظهر أنه غير ذلك للمتسرع بادي الرأي.

      ولعل هذا هو ما رآه حكماء الجهاد وعلماء العباد اليوم، ممن قال بخطأ القرار، مثل الشيخ المقدسي، والشيخ السباعي، والشيخ العلوان، والشيخ أبو قتادة وغيرهم. بينما رآه صحيحا الشيخ تركي البنعلي والشيخ أبو معاذ الشرعيّ والدكتور الجزولي وبقية شرعيّ "الدولة".

      • ثم أمر آخر، ومسمار آخر، أراه أصاب هذه الساحة الجهادية، وهو الخلل الآتي من فتاوى "شرعييها". وهو والله أصل لاستمرار البلاء، وتحكّمه في قلوب وعقول القادة والأتباع على السواء. فإن ضعف الخلفية الشرعية وعدم نضجها على موقد الزمن، قد أخرج للأتباع، في الفريقين، كلاماً شططا، نراه في تكفير بعضهم البعض، كما رأينا من أبو الحسن الكويتي ومن أبو معاذ الشرعيّ، بل وتعدى إلى قتل وحزّ رؤوس، اقترفها أمثال ذلك الأوزبكي، وأبو عبد الرحمن العراقيّ، والتمثيل بالجثث في كلا الطرفين. هذا والله لا سبب له إلا ضعف الرؤية الشرعية عند "الشرعيين"، وعند الأنصار، الذين هم وقود هذه الفتنة في الطرفين، على السواء.

      ولعل من أقوى ما رأيت من تساؤلات موجّه إلى الشيخ د أيمن الظواهري، هو ما وجهه أحد منابر الإعلام للدولة قائلاً "بما أن إمارة أفغانستان شرعية، وإمارة الدولة الإسلامية شرعية، فلماذا لا يُطلب من أهل الشام مبايعة دولة الإسلام،  كما طالب أهل أفغانستان بمبايعة "إمارة أفغانستان" الإسلامية[4]؟

      وهو تساؤل مشروع، والإجابة عنه بيد الشيخ الجليل د الظواهري. لكن علينا هنا أن نلحظ أنّ هذه الأمور المتعلقة بالتمدد والمبايعة، هي أمور اجتهادية، ليست من باب القياس الجليّ، كما أراد أن يصوّر صاحب التعليق. فليس كلّ إمارة شرعية يجب على من حولها مبايعتها في الآن واللحظة، بل يتوقف ذلك على ظروف الساحات التي نقارن بينها. فإننا نرى العلة الجامعة التي قررها بين الحالتين هي إن كلاهما إمارة شرعية، ومن ثم فإنه يجب على البلدان المجاورة بيعتها. وهي علة ناقصة. فأوجه الشبه مختلفة إختلافاً بيّنا. أولها أن إمارة أفغانستان تقوم على أساس "دولة أفغانستان الإسلامية" التي حكمت بلاد الأفغان خمسة سنوات، واقرت لها بها دول العالم اجمع، وهي لا زالت تتحكم في أماكن بعينها في أفغانستان لا سبيل للعدو عليها. بينما إمارة "دولة" العراق الإسلامية لم تسيطر على بلادها في العراق ولو ساعة واحدة، بل ولا على غالب بلادها. وهو ما يعود بنا إلى ما ذكرنا من ضرورة التمكن وتوطيد الدعائم وترسيخ الأسس قبل التمدد.

      ثم إن طبيعة الطلب مختلف بين الحالتين، فإن الشيخ د الظواهري لم يطلب من "إمارة أفغانستان الشرعية" أن توجه جيوشها للقتال في باكستان! وهذا، لو حدث، لكان خطأ كبيراً تماما كما حدث في الشام، لما ذكرنا. وإن قام الملا عمر حفظه الله "بالتمدد" إلى باكستان، وأرسل مجاهدين لحرب حكومتها هناك، لرماه الناس بالخطل عن قوس واحدة، خاصة إن قابلته جماعات قائمة هناك بحربٍ ومقاومة، لسبب أو لآخر. بل إن أراد أن يعين جماعات قائمة هناك كالقاعدة مثرً، كان من حسن الفعل وواجب النصرة لا غير.

      ثم إنّ مغزى الطلب مختلف كذلك بين الحالتين، فإن طلب مبايعة أهل باكستان للملا عمر، يراد به إسقاط نظام زرداري أولاً، من داخل بلاده، بيد هؤلاء الذين يؤمنون بأنه لا بد من توحيد الصف خلف إمارة إسلامية قائمة. ولا يعنى هذا مبايعة على الورق، وكافة بلاد الباكستان تحت السيطرة الفعلية للحكومة الملحدة هناك.

      وقل لي بالله عليك، كيف تجدي مطالبة المصريين مبايعة "إمارة" الملا عمر، أو "إمارة" الشيخ البغدادي، والسيسي ومرتديه يسيطرون بهذا الشكل على البلاد؟

      فالمثلان لا يستويان، والعلل مختلفة، وإن ظهر للنظر المتسرع أنها حجة دامغة وردّ مفحم!

      ثم والله يا أحبة، إن في أيديكم، بعون الله تعالى، أن تسطروا صفحات مجدٍ حقيقي وبطولة صادقة، إنْ وجهتم جهدكم إلى إزالة النظام الفاشي البشاريّ، بدلا من محاولة الانتصار لتنظيمات على حساب المقصد الأصلي لإقامة دولة للإسلام، وهو توحيد الصف وقهر العدو، فإن إقامة "دولة" ليس مقصداً بل هو وسيلة لقهر العدو وحماية الأرض والبيضة. فإن تحوّل إلى سبب في سفك الدم وقتل النفس وعتك العرض، فقد أصبح محرماً. ثم يكون إعلان دولة سهلاً ميسوراً في محله، لا يستغرق أكثر من ساعة زمن لا أكثر!

      إن العدو متربص بكم. ولن يفرق في قتاله وقتله بين دولة ونصرة. ولن تمنعه هذه التسميات من أن يُغِير ويقتل ويأسر ويغتصب. فهل يرضيكم أن تُغتصب حرائر مسلمات بأيدى نصيرية، لأنهن من تنظيم آخر؟ أهذه رجولة وجهاد، أم هذا إثم وفساد؟ والتصميم عليه كِبر وعناد؟ ألا تدركون أنهم سيصولون بعدها على نسائكم وبناتكم قتلا واغتصاباً؟ ولن تجدوا ساعتها بقية من مجاهدين يعينكم عليهم.

      فواحسرتاه ثم واحسرتاه.

      د طارق عبد الحليم

      16 جمادى الثاني 1435 – 16 أبريل 2014


      [1]  ولنا في مفهوم سايكس بيكو كلام في مقالٍ سابق، نعود اليه بعد إن شاء الله.

      [2]  مقالنا " مسائل في السياسة الشرعية تخص الجهاد في الشام" http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72553

       [3]  قتل أبو الليث مؤخراً في البوكمال على يد فصيل ينتمى "للدولة".

      [4]  https://www.youtube.com/watch?v=JduKUUq4ias&feature=youtu.be