فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      رفع الشبهات في موضوع الولاء والبراء - 1

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد،

      لا شك أن العوامل التي أدت إلى هذه المرحلة المؤسفة من الاقتتال بين المجاهدين في الشام كثيرة متعددة. ويخطؤ من يرد أي تباغض وتنافر إلى عاملٍ واحد، إذ يُبسّط بذلك المسائل تبسيطاً مخلاً. بل هي عوامل متشابكة منها النفسيّ الشخصيّ، ومنها الشرعيّ ومنها الواقعي العمليّ. وقد قرأت لبعض الأفاضل تحليلات ورؤى مختلفة، أرادت تحديد موضع النزاع، فجاءت بشئ وتاهت عنها أشياء. وهذا ما أراه خطراً على أية محاولة للإصلاح أو التقريب أو الوساطة بين الطرفين.

      وإذ قررنا هذا، وجب أن يتم النظر والتحليل في هذه الجوانب المتعددة، باعتبار منشأها أولاً ثم أثرها ثانياً. وبعدها يتم التعامل مع نتائج النظر بالترتيب العكسيّ، أي مع آثاره، ثم مع أسبابه، درأً للفتنة وايقافاً للمفاسد، من حيث أن الاقتتال على الأرض مفسدة يجب وقفها قبل جلب مصلحة التصالح.

      وقد عالجنا من قبل، في مقالات متعددة، بعض تلكم العوامل، ورتبناها وقلبناها، وحاولنا أن نضعها في نقاط متسلسلة ليسهل تتبعها. وهي كلها لا تزال متاحة للقارئ الجاد الواعي، الذي يبحث عن المعرفة التي تنير له الطريق، لا عن نص هنا وهناك يقوّى به قناعاته المسبقة أو يُضعّف به وجهة نظر خصمه.

      ونتعرض هنا لأمرٍ بنى عليه طرفي النزاع في الشام أمورا عظيمة جليلة، من تكفير وقتل واستباحة دمٍ ومال، وهو موضوع الولاء والبراء.

      ونقدم بين يدي الموضوع بمقدمة عامة، كما تعودنا، ترسم حدوداً يجب اعتبارها في النظر الكليّ قبل أن ننتقل إلى المناطات الخاصة.

      المسائل العقدية بعامة، والولاء والبراء منها، لها حدان، حدّها الأعلى، هو الذي يفصل بين الإسلام والكفر، وحدها الأدنى هو الذي يفصل بين السنة والبدعة. ومن جعلها أحادية بحدٍ واحد، خرج إلى البدعة بلا بد. وهذا يكون عادة من فعل الجهلة والرويبضات، إذ يصعب على غير طالب العلم الصحيح، أو العالم أن يتتبع هذه الأوجه، ويرى هذا التفصيل، فيلجأ عقله الصغير إلى إنزال كلّ الصور والمناطات منزلاً واحداً، تبسيطا وتسهيلاً، وجهلاً وابتداعاً.

      وقبل أن نبدأ الحديث، نود أن نقرر نظراً أصولياً هنا، نردّ به عقل الناظر إلى حكمة في فهم الخطاب القرآنيّ. ذلك أن القرآن لا يأتي إلا بالغايات في الأحكام، أي يأتي بالتنبيه على أقصى الدرجات في الغايات، الكفر الأكبر والإيمان التام. يقول الشاطبيّ في بيان رائعٍ لهذه القاعدة الفذة "والضرب الثاني أن تأتي في أقصى مراتبها ولذلك تجد الوعيد مقرونا بها في الغالب وتجد المأمور به منها أوصافا لمن مدح الله من المؤمنين والمنهى عنها أوصافا لمن ذم الله من الكافرين ويعين ذلك أيضا أسباب التنزيل لمن استقراها فكان القرآن آتيا بالغايات تنصيصا عليها من حيث كان الحال والوقت يقتضي ذلك ومنبها بها على ما هو دائر بين الطرفين حتى يكون العقل ينظر فيما بينهما بحسب ما دله دليل الشرع فيميز بين المراتب بحسب القرب والبعد من أحد الطرفين كي لا يسكن إلى حالة هي مظنة الخوف لقربها من الطرف المذموم أو مظنة الرجاء لقربها من الطرف المحمود تربية حكيم خبير. وقد روى في هذا المعنى عن أبي بكر الصديق في وصيته لعمر بن الخطاب عند موته حين قال له ألم تر أنه نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغبا راهبا فلا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له ولا يرهب رهبة يلقى فيها بيده إلى التهلكة أولم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسيء أعمالهم لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن فإذا ذكرتهم قلت إني أخشى أن أكون منهم وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم عما كان لهم من سيء فإذا ذكرتهم قلت إني مقصر أين عملي من أعمالهم هذا ما نقل وهو معنى ما تقدم فإن صح فذاك وإلا فالمعنى صحيح يشهد له الاستقراء وقد روى أولم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسيء أعمالهم لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن فيقول قائل أنا خير منهم فيطمع، وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم عما كان لهم من سيء فيقول قائل من أين أدرك درجتهم فيجتهد"[1].

      ومحصلة هذا، أنّ ما يرد في القرآن من أوصاف للكافرين، فهو على حدّه الأعلى، أي يصف به الكفر الأكبر، حكما وولاء ونسكاً. أما الحدّ الأدني، أو الأصغر فيها، فتأتي به السنة المطهرة، تبياناّ للقرآن.

      فكما أنّ الكفر أكبر وأصفر، فصوره الواقعة في التوحيد هي بالتالي كبرى وصغرى. ففي التحاكم أكبر وأصغر، فالولاء أكبر وأصغر، وكذلك في النسك، شرك أكبر وأصغر. ونضرب لذلك أمثلة تعين طالب العلم على الفهم.

      ففي قضية التحاكم إلى الله، يقول المولى عز وجلّ "وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ"المائدة44، وهي هنا محمولة على مناطها المكفّر كفراً أكبر، أي من ينتزع من الله حقّ التشريع المطلق وسن القوانين الوضعية، لا من يظلم بانتزاع أرض أو اغتصاب حق من الحكام، كما كان يحدث في كثير من خلفاء في تاريخ الإسلام. أما ما جاء في السنة، مثل قول المصطفي صلى الله عليه وسلم "تكثرون اللعن وتكفرن العشير" فهذا كفرٌ دون كفر، كما ترجم له البخاري رحمه الله، كذلك لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"، لأن الله سبحانه قال "وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُوا۟ فَأَصْلِحُوا۟ بَيْنَهُمَا"الحجرات 9، فبيّن أن القتال بين المؤمنين يصح أن يقع، وهما لا زالتا على الإيمان، ويكون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة من صور الكفر الأصغر التي منها البغي، وهكذا.

      أما في الولاء، فيقول الله سبحانه "يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰٓ أَوْلِيَآءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۢ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُۥ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ"المائدة51. فالولاء هنا كفر يتحدث عن صورة ولاء أكبرٌ وكفر محضٌ يلحق فاعله بالمشركين، وهو ولاء المناصرة والمظاهرة، عداءً للدين وحقداً عليه كما يحقد عليه اليهود والنصارى. وهكذا سائر ما ورد في آيات الولاء في القرآن، كلها تنزل على صوره الكفرية. أما في السنة المطهرة، فقد يكون الولاء كفراً أكبر أو أصغر. فالأكبر كما في قوله صلى الله عليه وسلم "ومن والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل"متفق عليه. والأصغر كما قال صلى الله علي وسلم "من كنت مولاه فعليّ مولاه"[2]، فمن صوره في حدّه الأكبر عدم موالاة عليّ لإسلامه، قال الشافعي رحمه الله "يعني بذلك ولاء الإسلام"تحفة الأحوذيّ كتاب المناقب، ولا يفهم منها كل مخاصمة مع عليّ رضى الله عنه، وإلا فقد خاصمته عائشة رضى الله عنها، وغيرها من الصحابة! 

      اما في النسك، فكثير.، كما ورد في الحالف بغير الله، وتصديق الكاهن، وغير ذلك مما يتردد بين صورة الكفر الأكبر إن ظن أن ذلك معرفة بعلم الغيب، أو قدرة على ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه في السحر، أو أن يكون الحلف تعظيما كتعظيم الله، فيكون صورة كفرٍ أكبر، أو صور الأكفر الأصغر إن كان تيمناً أو جهلاً أو محبة وإجلالاً كما في محبة الولد أو الزوج.

      ثم ننتقل إلى موضوع الولاء والبراء، وصوره عامة، ومناطاته في عصرنا خاصة.

      يتبع إن شاء الله تعالى.

      د طارق عبد الحليم

      6 جمادى الثاني 1435 – 06 أبريل 2014


      [1]  الموافقات للشاطبيّ ج3ص140،باب العموم المسألة السادسة.

      [2]  رواه النسائي وأحمد والبزار، وهو صحيح على شرط مسلم صححه الحاكم والهيثمي والذهبي والألباني.