فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      وتوفي أخر العمالقة .. محمد قطب

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد،

      " يَـٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ ﴿٢٧﴾ ٱرْجِعِىٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةًۭ مَّرْضِيَّةًۭ ﴿٢٨﴾ فَٱدْخُلِى فِى عِبَـٰدِى ﴿٢٩﴾ وَٱدْخُلِى جَنَّتِى ﴿٣٠﴾" الفجر

      قد كنت أوثر أن تقول رثائي  يا مُنصف الموتى من الأحياء

      لست والله أجد في صدرى متسعاً لأن أتنفس الهواء، وقد خنقته عبرات الحزن والأسى .. فهذا ثالث من تودعهم دنيانا الراحلة، تستودعهم أمانة عند الله، العالم الجليل الحبر الفذ، صاحب النفس الراضية المرضية، والعقل الراحج واللسان الصدوق، الأستاذ محمد قطب رحمه الله تعالى.

      ومن أنا لأرثى أستاذنا، وأستاذ جيلنا محمد قطب! هو آخر العمالقة بلا جدال. فلم يبق في الساحة من جيله أحد. ذهب من قبله محمود شاكر، ومحمد محمد حسين، وأضرابهما، ثم من جيلنا عبد المجيد الشاذلي ومجدى عبد العزيز ورفاعي سرور وأمثالهما..

      ذَهب الذين يُعاش في أكنافِهم   وبقيت في خَلَفٍ كجلدِ الأجربِ

      وقيمة محمد قطب، وقامته بين العلماء، ليست من كونه أخا لسيد قطب، علم التوحيد في عصرنا، لكن من كونه محمد قطب، المفكر والكاتب والتربوي والمرشد والأيمن على دينه وأمته.

      وقد كان رحمه الله صديقاً وزميل دراسة لخالي عبد الحميد البشري رحمه الله، ولا زلت أحتفظ بكتاب له بتوقيعه، إهداء له. وقد قابلته مرة واحدة في مكة المكرمة، في عام 2008. وقد وجدته حاد الذكاء، محتفظاً بكامل ذاكرته، وقوة استدلاله. وقضيت معه ساعة، من العمر لا أنساها، فقد بوركت داراً وصاحباً، فصدق فيها قول شوقي:

      قد يهون العمر إلا ساعة       وتهون الأرض إلا موضعا

      فيالها من ساعة، ويا له من موضع.

      ولست بحاجة إلى أن أعدد ما كتب أستاذنا رحمه الله، فهي معروفة للجميع، لكن أردت أن أشير إلى طريقته الفذة في الكتابة، والتي كانت تتسع بالأسلوب السهل الممتنع، الذي يفهمه الجاهل ويقدّره العالم، ويتعلم منه الصغير ويستفيد من الكبير. ولم تكن لتجد في أسلوبه نقولا كثيرة، ولا شواهد عديدة إلا في مواضع الحاجة، وهو ما يدل على استيعابه للعلم، فأصبح خراجه لا يحتاج لسمادات مقوية، ليكون مزدهراً يانعاً، عكس ما نرى من أساليب المنتسبين إلى السلفية، بحق أو بدون حق، شراّح المتون، وأوعية الأصول.

      ولم ينعت الرجل نفسه، ولا نعته غيره بألقاب مثل "الشيخ"، ولا "الشرعي"، فقد كان أكبر من تلك الألقاب التي كان لها بريقٌ وصدى أيام كان العلماء معروفون، والمدعون مكشوفون. أمّا اليوم فيا حسرة على الألقاب، ويا حسرة على ذهاب مستحقيها.

      وقد ترك فقيدنا ثروة نحسبها في ميزان حسناته ثقيلة إن شاء الله، فعمله الصالح لم يذهب، بل هو باق ما دام أحد يقرأ له من علمه الواسع الماتع، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له "مسلم.

      وإذ ذهب هذا العملاق الأخير، أقول هل حلّ أوان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"البخاريّ.  اللهم لا  اجعلنا ممن لا يفتى ولا ممن يتجرأ على التقوّل عليك وعلى رسولك صلى الله عليه وسلم بغير علم، فنكون من الضالين المضلين، وما أكثرهم في هذا الحين.

      رحم الله أستاذنا وشيخنا محمد قطب، وألحقه بركب التوحيد ممن سبقه، وألحقنا به وبهم في مقعد صدق إن شاء الله تعالى.

      د طارق عبد الحليم

      4 جمادى الثاني 1435 – 4 أبريل 2014