فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      مسائل في السياسة الشرعية تخص الجهاد في الشام - 1&2

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد،

      أود هنا أن أتناول مسألتين من المسائل التي شغلت الساحة الجهادية عامة، الشامية خاصة في الآونة الأخيرة، وكانتا سبباً في اعتراك المجاهدين بين أنفسهم، ومن ثم استشهاد الكثير من المسلمين، من كافة جبهاتهم.

      ولا يظنن أحدٌ إنني أقرر ما سأقرره نصرة لأحدٍ، فوالله لا أحيد عن موقفي الداعم للصلح بين المسلمين. وإن كنت بيني وبين الله سبحانه أرى طائفة أقرب من الأخرى إلى الحق، وأبعد من الباطل، فهذا شأني مع الله لا يسألني فيه أحد.

      ثم إني مُسَّلِمٌ لكلّ طائفة بما تستدل به من آياتٍ كريمة، وأحاديث صحيحة، لكن الغرض هنا هو رسم طريقة النظر في هذه الآيات، لا نقل نصوصها.

      المسألة الأولى: هل أخذ بيعة من رجلٍ انتمى إلى الجيش الحر كفرٌ؟

      المسألة الثانية: هل قتال مسلمين لمسلمين آخرين بالاشتراك مع مرتدين، كفرٌ؟

      وأعلم أنّ الكثير من إخوة التواصل الإجتماعي عنهد قوالب جاهزة للإجابة، ومنهم من سيكفّرني ابتداءً لمجرد التساؤل! ولكن هذا والله لا يثنينا عن غرضنا في إبانة ما نراه حقاً، بعد أن قاربنا العقد الثامن من العمر.

      ثم أقرر أمراً، وهو أنّ كافة من أخطأ فيمن انتسب لعلم، أو سبح في جهل، هو من باب التعميمات والاظلاقات، كما ذكرنا من قبل. فقصر النظر، تجعل المرء لا يرى للمسألة إلا وجهاً واحدا، وليس هذا لأنّه ليس لها إلا وجه واحد حقيقة، بل لأن عقلية الناظر وعلمه لا يسمحان له بتحليل المركب إلى مفرداته، ومن ثم تخصيص أو تقييد أو استثناء.

      المسألة الأولى: هل أخذ بيعة من رجلٍ انتمى إلى الجيش الحرّ كفرٌ بإطلاق؟

      فنقول في هذه المسألة، أنّ تكفير كلّ من أخذ بيعة من رجل انتمى إلى الجيش الحرّ، هو باطل وحرامٌ شرعاً، فإن الأمر يعتمد على عوامل عدة، يجب على الفقيه اعتبارها، وهي:

      • ما هو دين المُبَايِع إبتداءً؟

      فإنه يجب أنْ يُعرف دين المُبَايِع. فعلى سبيل المثال، فإن الجيش الحرً، بما أعلن عن نفسه وعقيدته، ليس مسلماً، بل قوميّ كافر مرتدٌ، يوالى كفاراً، ويقاتل كفاراً، ولا يرضى بحكم الله حكماً. لكن، هذا لا يعنى أنّ كلّ معينٍ في صف هذا الجيش كافرٌ مرتد. هذا من جُرم التعميمات والاطلاقات. بل منهم من يحارب دفعاً لضرر النصيرية، وممن يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويرضى دينه، ولا يصله عن الجماعات الإسلامية إلا تناحرها وتقاتلها، فهو في حيرة من أمره، فيظل يحارب النصيرية مع من بدأ معهم المقاومة أولاً. فمثل هذا مسلمٌ على التعيين بلا شكّ. فإن جاءت جماعة تدعوه إلى بيعتها للجهاد، فوافق وترك الجيش الحرّ، فمن أي باب يكفّر هذا الرجل، وهو لم يخرج من الإسلام أصلاً؟ بل هذا حسنة لمن أدخله في طائفة من طوائف المسلمين. أمّا من حارب مع الجيش الحرّ، مؤمنا بعقيدته الشركية القومية الديموقراطية، فهذا أمره يأتي في النقطة التالية.

      • هل ظلّ المُبَايِع على عقيدته بعد البيعة؟

      فنقول، إن كانت عقيدة المُبَايِع هي عقيدة الجيش الحرّ، فعلى المُبَايَع أن يقيم عليه الحجة، وأن يفهمه دينه، فإن أبى إلا أن يكون الحكم الوضعي الديموقراطيّ هو دينه، فهو مرتدٌ عيناً. ويبقى موضوع إقامة الحدّ عليه واقع تحت مسألة أخرى تختص بالسياسة الشرعية، ولا محل لتفصيلها هنا.

      • هل المُبَايِع فرداً أو جماعة لها شوكة؟

      فإن كان مُعيناً، فحكمه ما ذكرنا. وإن كانت جماعة ذات شوكة، فهي المسألة الثانية.

      المسألة الثانية: هل قتال طائفة من مسلمين لمسلمين آخرين، بالتعاون مع مرتدين، كفرٌ بإطلاق؟

      لا شكّ أنّ التعاون بين طائفة مسلمة وأخرى مرتدة، لقتال طائفة مسلمة أخرى، عملٌ باطلٌ وحرامٌ شرعاً. ومن الحرام ما هو كفرٌ ومنه ما هو دون ذلك. والنظر في هذا ينقسم إلى نقاط عدة:

      • هل ثبتت ردّة تلك الجماعة، التي قيل أن المسلمين تعاونوا معها، بيقين أم لا؟

      وهذا أمرٌ جللٌ يجب ألا يتصدى له إلا العلماء بحق، إذ يترتب عليه استباحة أموال وأعراض وأموال، لا يجب استحلالها إلا بالحق. وتحديد اسلام طائفة من عدمه، يتوقف على أمرين، عقيدتها المعلنة، وتصرفاتها على الأرض.

      •  
        • فإن كانت عقيدتها المُعلنة هي الرضا بتحكيم الشرع، ورفض الكفريات الظاهرة والبدع المكفرة كلها، فهي مسلمة، سواء كانت باغية أو غير باغية، مرتكبة لمحرمات أم لا.
        • ومفهوم المخالفة هنا لا يعمل، بمعنى أنه لو قالت: نرضى بحكم الإسلام ونسعى له بطريق ديموقراطيّ، فهنا تقع الشبهة التي يجب التحرى عنها، وعن مقصودها، فإن كان ذلك منها إيماناً بمبادئ الديموقراطية التي هي رفض حكم الله للشعب، وقبول حكم الشعب للشعب، فهذه ردة بيقين. وإن كانت ممن يقول هي وسيلة إلى حكم الله الذى هو الغاية، لا غيره، فهي طائفة بدعية، ثمّ يبين لها أن حكم الوسائل هو حكم المقاصد، وأن من اخترع الديموقراطية قصد بها حكم الشعب للشعب، فتحريف المُصطلح عن أصله فيه تشابه وتشويش وتعمية. ثم يّنظر في تصرفاتها التفصيلية، إذ وقوعها في شركيات تشريعية غالبٌ في معظم الأحيان، ويعامل كلّ تصرف بقدره.
        • وإن شاب عقيدتها المُعلنة شرك واضح جليّ كأن ذكرت أنها لا تتحاكم إلى الشرع، بل إلى القوانين الوضعية وتتبنى العلمانية، فهذا نقض لعقيدة الإسلام، وردة صريحة بيقين.
      • وهل حكم الردة ينسحب على كافة أفرادها أم لا؟

      ثم ياتي هنا وقوع الحكم على المعيّن، فكما ذكرنا، المعيّن لا ينسحب عليه حكم الجماعة تلقائياً، إلا عند بعض الغلاة. لكن يجب استصحاب أصل الاسلام عليه، إلا إن كان كافراً أصلياً، ثم تقام عليه الحجة الرسالية، ويبيّن له الأمر بتفصيله، فإن استمر على عقيدة الكفر، كفر بذلك، وإن لم يفهم الحجة، فإن إقامة الحجة هي الواجب لا إفهامها، وإلا لم يكفر أحد على وجه البسيطة. وإن ظلّ على فهم البدعة ظلّ مبتدعاً، ويعامل على هذا الأساس.

      • هل يعتبر هذا التعاون بين المسلمين ولاءً مكفراً، أم له صور متعددة؟

      ثم نأتي لقضية التعاون، فنقول:

      •  
        • القتال بين طوائف المسلمين حرامٌ ابتداءً ويجب وقفه وعدم تبريره وتمريره.
        • إن تعاونت طائفة مسلمة مع طائفة مرتدة بيقين، فهذا حرام شرعاً، بل يكون ولاءً في بعض صوره:
      1.         i.      فإن كان لقتال إخوة في العقيدة، سواءً طائفة سنية أو فيها بدعة غير مكفرة، فإن كان لدحر بغي رأوه واقع عليهم، فهذا حرام، وإن كان نصرة للمرتدين على المسلمين فهذا ولاءٌ مكفّر.
      2.        ii.      وإن كان لقتال عدو كافر مشترك، ففيه صور متعددة، إذ لا يجب أن يكون للكفار غلبة في القوة داخل ساحة القتال، وألا يعلو على المسلمين في القيادة، بل تظل القيادة في يد المسلمين، حتى لا يوجهوا مسار القتال ويحرفوه ضد المسلمين والاسلام، وأن لا يتمكنوا من إقامة قواعد تظل شوكة في حلق المسلمين تهددهم، فهذه كلها صور ولاء مكفّر، إذ إن الكفار أو المرتدين غرضهم من قتال الكفار ليس مَحضاً، وليس لنصرة الإسلام، بل فيه بغضٌ للإسلام وتربُص به وبأهله. وقد رأينا كيف أنّ الله قد أعلن فرح المؤمنين بنصر الله الذي هو نصر الروم على الفرس، لأنهم، وإن كانوا كفاراً، إلا أنهم أقرب للمسلمين من عبّاد النار. فالحكم هنا من ذلك النوع ويرجع إلى أصل الاعتقاد من ناحية وإلى السياسة الشرعية من ناحية أخرى.

      هذا بيانٌ لما رأيناه في هاتين المسألتين، لعل الله أن يوفقنا فيما نسعى اليه من خير، وأن يكون قولنا وعملنا كله خالصاً لوجهه الكريم صواباً سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

      17 جمادى الأولى 1435 – 18 مارس2014

      د.طارق عبد الحليم    

      مسائل في السياسة الشرعية تخص الجهاد في الشام - 2

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد،

      للعقلاء فقط .. أكتب

      أعود هنا لأتناول مسألتين أخريين من المسائل التي شغلت الساحة الجِهادية عامة، والشامية خاصة في الآونة الأخيرة، وكانتا سبباً في اعتراك المجاهدين بين أنفسهم، ومن ثم استشهاد الكثير من المسلمين، من كافة جبهاتهم.

      وأكرر هنا حرفاً بحرف ما قلته سابقاً "ولا يظنّن أحدٌ إنني أقرر ما سأقرره نصرة لأحدٍ، فوالله لا أحيد عن موقفي الداعم للصلح بين المسلمين. وإن كنت بيني وبين الله سبحانه أرى طائفة أقرب من الأخرى إلى الحق، وأبعد من الباطل، فهذا شأني مع الله لا يسألني فيه أحد. ثم إني مُسَّلِمٌ لكلّ طائفة بما تستدل به من آياتٍ كريمة، وأحاديث صحيحة، لكن الغرض هنا هو رسم طريقة النظر في هذه الآيات، لا نقل نصوصها".

      والفارق بين هذا المقال وسابقه، أن المقال السابق[1] قد تناول مسألتين من أهم المسائل، من الناحية الفقهية الشرعية، أولهما مسألة "هل أخذ بيعة من رجلٍ انتمى إلى الجيش الحرّ كفرٌ بإطلاق؟". فبينت بالتفصيل صوراً من حكم أخذ بيعة من معينٍ ينتمى لجبهة مخلّطة ولو أعلنت قيادتها العلمانية، وإن رفع قادتها شعارات القومية والديموقراطية. وأوضحت أنّ منها ما هو مباحٌ بل طاعة لله، ومنا ما هو مُحرّم، ومنها ما هو كفرٌ بواح. كما تحدثت عن مسألة "هل قتال طائفة من مسلمين لمسلمين آخرين، بالتعاون مع مرتدين كفرٌ بإطلاق؟". وأوصحت كذلك أن هناك صورا نختلفة لهذا التعاون، تختلف حكماً ومناطاً.

      وهذا المقال، أتناول فيه، بإذن الله، مسألتين، قد تناولت أولهما بتفصيل دقيق من الناحية الفقهية، وهي مسألة "حكم العاذر بالجهل، إعذاراً أو تكفيراً"[2]. ولكنى لم أتحدث في المسألة الثانية من قبل وهي تختص بالتسميات في جماعات المجاهدين بالساحات. وسأتناول إن شاء الله كلا المسألتين هنا من ناحية السياسة الشرعية.

      المسألة الأولى: الخوض في الإعذار بالجهل وحكم العاذر به، إعذاراً أو تكفيراً.

      المسألة الثانية: مسألة تسميات جماعات المجاهدين، بين الشرع والتطبيق، حكماً وإفتاءً.

      المسألة الأولى: "هل الخوض في الإعذار بالجهل و حكم العاذر به، إعذاراً أو تكفيراً، مطلوب حالاً أم مآلاً؟"

      والإجابة على هذا التساؤل هي أنه من الواجب فقهاً على المسلم الذي يعيش بين مسلمين أصلاً، ويُستصحب لهم حكم الإسلام، أن يتعرف على حكم من لزم التعرف على حكمه، لسبب من الأسباب المشروعة، كالنكاح والميراث وولاية الأطفال والجنازات والدفن، وإقامة الحدود، وغيرها من المسائل المنتشرة في أبواب الردة في كتب الفقه.

      وذلك ينطبق على التعرف على حكم المنافق، وصور النفاق، وحكم الزنديق وتعريفه، وحكم الجاهل بأصل الدين ممن يستصحب الاسلام أصلاً، وهكذا. ثم التعرف على كلِّ معيّن، في كلّ منها، يتوقف على الحاجة لكشف حاله، وضرره على المجتمع المسلم، وتأثير هذا الأمر على قدر الفتنة التي يمكن أن يسببها تعميم هذا الأمر، دون النظر إلى مآلاته ونتائجه. وقد كان في المدينة منافقون كثر، و كان كشفهم على التعيين سهلٌ ميسور، بل دقيق مضمون الصحة في عصر الوحي "وَلَوْ نَشَآءُ لَأَرَيْنَـٰكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـٰهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ ٱلْقَوْلِ ۚ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَـٰلَكُمْ"محمد 30. قال بن كثير في تفسير الآية "يقول عز وجل ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم فعرفتهم عيانا ولكن لم يفعل تعالى ذلك في جميع المنافقين سترا منه على خلقه وحملا للأمور على ظاهر السلامة وردّا للسرائر إلى عالمها". فظهر أنّ ذلك لا يكون إلا فيمن ثبت ضرره، من رؤوس كعبد الله بن أبيّ بن سلول لا في الجميع، بل تركهم الله سبحانه ولم يكشف أمرهم، إلا بعضا منهم عرّفهم حذيفة رضى الله عنه. فهذا التوجيه الإلهي يدلنا على باب عظيم في فقه السياسة الشرعية، خاصة إنْ اعتبرنا أنّ دولة المدينة كانت وليدة لا زالت، تحمى حدودها التي حدّتها فيما عرف أيامها بيثرب. هذا في المنافقين العاملين على تخريب المجتمع الإسلاميّ وتقويض أركانه القائمة وهدم دولته المستقرة، فما بالك بمن هم يدعون القبور، أو يدعون عند القبور، أو يستغيثون بالله بأوليائه أو يستغيثون بأوليائه، وهم يستصحبون الإسلام أصلاً، منهم من خرج منه ومنهم من لا يزال، حسب النظر الفقهي والعقديّ، هل من باب السياسة الشرعية الانشغال بتكفير هؤلاء، والنكش وراء أحوالهم واختبار عقائدهم، ثم قتلهم بناءً على ذلك، في وقت يُهاجم فيه الإسلام من النصيرية والعلمانية والصهيو-صليبية، عسكرياً وإعلامياً، هجوماً شرساً، لا يعرف إلّا ولا ذمة؟

      فإن قيل إنّ هذا يصدق فيمن ظاهره الإسلام، وبباطنه، ونحن نتحدث فيمن ظاهره الكفر ويزعم أن باطنه إسلام؟ قلنا: فاتتك حكمة الحديث وفقهه كلّه، فأولاً، إن الأصل في النوعين الإسلام ظاهراً لاستصحاب الأصل، لكن ظهر من أحدهما أقوالٌ وتصرفات تدل على ما في باطنه من كفرٍ، "وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ ٱلْقَوْلِ لحن القول"، فأثبت المعرفة، ولم يكشفهم الله سبحانه، في هذا الموضع تعييناً، والآخر ظهرت منهم أقوالٌ وتصرفات ظاهرها كفرٌ وشرك نعرفه، لكنه عارضٌ لا نعرف تمكّنه من الباطن على التعيين، من ثم وجبت إقامة الحجة الرسالية عند جمهور العلماء. لكن الأمر الأهم، هو ما هي حكمة هذا الحديث اليوم؟ ما هو الغرض منه وتعيين أفراده، والجماعات كلها في قتالٍ مع عدو محاربٍ؟ ألا يسع الناس في هذا الواقع، ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم في واقع المدينة، التي كانت أكثر تميزاً وتحيزاً مما عليه أي تنظيم اليوم في الساحة الشامية؟ وهل من العقل الفقهي أن يثير "مشايخ" أو "شرعيون" هذا الأمر اليوم، في ساحة قتالٍ، اختلط فيها الحابل بالنابل، وعمّ فيها الجهل بالشرع وأحكانه وحدود تطبيقاته؟

      إذن، فليس من السياسة الشرعية الحكيمة، تقليب النظر في هذه المسائل اليوم، وترك مثل هذه الموضوعات في نطاق الأكاديمية، حى يمكن أن تتفرغ العقول وتجتمع القلوب وتتوحد الجهود في سبيل دحر العدو الصائل. ثم يكون بعدها البيان، والحجة، ثم الحدّ على من أصر وعاند.

      المسألة الثانية: مسألة تسميات جماعات المجاهدين، بين الشرع والتطبيق، حُكماً وإفتاءً.

      وتتعلق هذه المسألة، بموضوع، بنيت عليه آثار مدمرة بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، رغم أنه يتعلق بشكلية، في حالتنا التي نبحثها اليوم في الشام.

      نجزم بداية، أنّ الأصل هو أن تقوم للإسلام دولة تحكم بما أنزل الله، وتقيم شرعه، وتنفذّ حدوده، وترعى حقوقه، وأن تقوم بعدها دولة خلافة عامة، تتحد فيها كلّ الدول الأصغر، والتي تسمت باسم الدولة في حين من الأحيان، لتكون دولة الخلافة المرجوة. هذا مما لا يشك فيه ضرورته مسلمٌ ولا ينكر عليه إلا كافر ملحد.

      كذلك أودّ أن أقرر، دون تصحيح أو إبطال، حسب الترتيب التاريخيّ، إنّ الشرارة التي أدت لإندلاع هذا القتال، إنما سببها ما يلى:

      • إعلان الدولة الإسلامية في العراق تمدّدها إلى الشام.
      • نقض أبو محمد الجولانيّ لبيعة الدولة في العراق.
      • قبول الشيخ الظواهريّ بيعة أبو محمد الجولانيّ الجديدة.

      ثم كلّ ما حدث بعد ذلك من قتال واستهداف مقراتٍ وإبرام اتفاقات واغتيال مجاهدين وسفك دماء، وبقر بطون، وحزّ رؤوس، وشقّ صدور، فإنما ترتب على هذه الأمور الثلاثة، والله المستعان. وقد كُتبت بحوث وقُدّمت تبريرات وأسباب ومسببات وصَدرت بيانات وباهَل شرعيّون شرعيين، من كلّ ّطرفٍ، لكن، لم تُحلّ المسألة بعد، ولا أظنها تُحلّ بهذا المنطق في النظر، ومن هذا المنطلق في التعامل مع الأحداث. أقول، وأجرى علي الله، إن ضيق الأفق كان ولا يزال هو المتحكم في هذا المنطق وذاك المنطلق.

      والدولة، أساساً، هي مسمى لم يطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة، بل لم يطلقه الصحابة رضى الله عنهم بصفته الاستعمالية التي نعرفها اليوم، وإنما كانت أيامها خلافة راشدة ثم خلافة في شكل ملكٍ عضود، ثم تبنّى مؤرخو العصر الحديث هذا الإطلاق اللفظيّ على الدولة الأموية، والعباسية الأولى والثانية، وهلمّ جرا. ولهذا أشرنا في بعض ما كتبنا تعليقاً على ما كتبه د حاكم المطيرى من وجوب الوعي والتمييز في المصطلحات، وإدراك الفروق الجوهرية بين تعبير "الدولة" في الإسلام، ومصطلحها في النظم الوضعية الحالية. لكن هذا أمر سيخرج بنا عن مسار ما قصدنا. إنما أردنا أن نبين أن مسمى "الدولة" في الإسلام، ليس مسمى "دينيا" أو "مصطلحا شرعياً"، بل هو أقرب للحداثة منه للسلفية، ويدلّ على منظومة معينة يكون على رأسها "أمير" اتفق عليه أهل حلّ وعقد في المحلة المحددة، وتقوم بشؤون رعاياها الذين يعيشون في حدودها المميزة المحددة المَحميّة.

      فإذا أنزلنا هذا الحديث على التنظيمات التي قامت في العراق والشام في الآونة الأخيرة، وجدنا أنها تنقسم إلى أقسام، منها ما تسمى باسم "الدولة" وهي الدولة الإسلامية في العراق والشام، ومنها ما تسمى باسم "الجبهة"، كجبهة النصرة، والجبهة الإسلامية، أو "حركة" كحركة أحرار الشام، ومنها ما اقتصر على اسم "الكتائب". فاتفق بعضها في بعض مهامٍ واختلف في أخرى.

      وأسارع بالقول هنا أنّ إقامة دولة الإسلام، أو الخلافة الراشدة هي "وسيلة" إلى تحقيق مقصد الشرع، وهو مصالح العباد في الدارين من ثم، هي ليست مقصداً في حدّ ذاته، بل هي من باب المصلحةالشرعية، أو باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فإن ذهبنا نقيمها فوجدنا طريقنا اليها مسدوداً، فنتخذ طرقاً أخرى لإصلاح الوسيلة وإقامتها بطريق آخر. فإقامتها واجبة، ولكن طرق إقامتها غير واجبة، بل متعددة، يصلح بعضها في بعض الأوقات وفي بعض الأحوال، ويبطل ويفشل بعضها في بعض الأةقات وبعض الأحوال، خلاف الصلاة مثلا، فلا يقال أنه يمكن أن نصل إلى إقامة الصلاة بخمس ركعاتٍ لا بأربع. بل إن الله سبحانه استثنى في السفر والمرض حتى في هذا المقصد، فجعلها ركعتان لا أربعا، ليؤكد على مرونة هذا الدين، ولو في المقاصد، ما بالك بالوسائل؟

      وأسارع بالقول كذلك إنّ الإعلان عن الدولة الإسلامية في العراق أولاً، ثم إعلان تمددها إلى الشام ثانياً، قد أحيا في قلوب الكثير الغالب من المسلمين أملاً كان بعيداً فقربته، وأوردتهم ظلاً في صحراء الهزيمة ومدّته. وكان هذا، ولا يزال حياً في قلب كاتب هذه السطور، يشهد الله. لكن الأمور التي تختص بالدماء والأموال والأعراض أعقد من أن تتقاذفها العواطف وتتداولها المصطلحات، وأكبر من أن تحيا على الأرض بمحلول الأمل ودواء الرجاء، فالحديث ليس عن شرعية إقامة دولة، بل عن وضعها الحاليّ، في ظل هذه الانقسامات التي تهدد وجودها ووجودهم، بل ووجود السنة كلها في الشام.

      وشرعية قيام "الدولة الإسلامية في العراق والشام" قد نالت من مباحث " شرعية عديدة، سواءً بالإثبات أو النفيّ ما يملأ كراساتٍ كثيرة. لكنها تقيدت كلها بالناحية الفقهية من زاوية الأحكام الشرعية المَحضة، ولم تتناول الأمر من ناحيتين أخريين، أولهما، أداء ما يقع تحت يسمى "الدولة"، والسياسة الشرعية التي تحكم قيامها أو تمددها.

      سنغض الطرف إذا، في رؤيتنا هذه، عن البعد الفقهي في الأمر، وعن قضية من بايع من، ومتى بايع، وأي نوع من البيعة كانت، ومثل هذه الأمور التي قتلتها أبحاث "الشرعيين" من الأطراف المتنازعة بحثاً. وسنولى الإهتمام إذا لما يخصّ الناحية العملية، أو السياسة الشرعية، لا تقليلاً من شأن التناول الفقهي البحت، بل إضافة اليه، بحثاًعن مخرج شرعيّ فقهيّ حكيمٍ، يتناول كافة زوايا الأمر، بعد أن عجز التناول الفقهي الناظر من زاوية الحكم الشرعي وحده، دون النظر إلى "الفتوى" المطلوبة لحلّه.

      فإذا نظرنا إلى الدور الذي تقوم به كلا "الدولة الإسلامية" "وجبهة النصرة"، بل وحتى "الجبهة الإسلامية" على عمالة فيها وخيانة، لمواطنيهم، سواءَ من الناحية العسكرية أو التعليمية أو الاجتماعية، كلّهم سواء. فكلهم لديه أجهزة عسكرية، وشرعيون، ومدارس يديرونها، وبيوت أموالٍ، ومحاكم وقضاة شرعيون، وما إلى ذلك. وكلهم يسيطر على بقاع من الأرض، بعضها له عليه يد التمكّن والغلبة، وبعضها يدخلها يوما ويخرج منها يوماً آخر، بلا حدود ثابتة محدودة متميزة، قائمة، لا تتحرك على خريطة الشام كل أسبوعين من الزمان.

      وهذا، وإن لم يكن يدلّ على حقٍ أو باطلٍ، إلا إنه، في نهاية الأمر، واقع لا ريب فيه.

      الدولة تصرّ على أنها "دولة" بالمعنى الذي أشرنا اليه، والذي هو في حقيقته، ليس ديناً. إنما هو ترتيب أوضاع وإطلاق مسمياتٍ، على أحوال. و"الجبهة" تصرّ على أن ليس للدولة من فضل فيما تفعل على أرض الشام لأهلها أكثر مما تفعله بنفسها، تحت اسم الجبهة.

      فإذا نظرنا، وعكسنا الأمر، على سبيل المثال، فأسمينا الجبهة "دولة النصرة الإسلامية في الشام"، وأسمينا الدولة "الجبهة الإسلامية في العراق والشام"، فهل سيغيّر هذا التعاكس أي شئ على أرض الواقع على الإطلاق؟

      الجواب، نعم ولا، نعم إن كان الأمر أمر سيطرة على حكم الشام بعامة لا حرب الروافض والنصيرية، وإقامة شرع الله تعالى. ولا، إن فهم الفريقان أنها، في الوقت الحاليّ، مسألة شكلية، تتحمّس لها قيادات مدفوعة بحماس أنصارها، أو أنصار تتحمس بحماس قياداتها، أيهما شئت.

      السؤال كذلك، هل سيحصل أهل الشام على حرية أوسع ويتخلصون من النصيرية أسرع، ويتوفر لهم خدمات إجتماعية وشرعية وعسكرية أفضل؟ وهنا الإجابة بلا على وجه القطع، إذ قد التفتت الدولة والجبهة لقتال بعضهما البعض، وتدمير منشآتهما، وقتل مجاهديهما، وصرفوا في ذلك نصف إمكاناتهم على الأقل.

      المشكلة إذن ليس في تسمية دولة أوجبهة أو حركة، إنما في التوحد على نصرة الحق، وإزهاق الباطل. ثم يكون موضوع التفاوض على طاولة مفاوضات، من يستحق ماذا.

      والله وليّ التوفيق

      د طارق عبد الحليم

      21 مارس 2104 – 20 جمادى الأولى 1435


      [1]  http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72553

      [2]  http://www.tariqabdelhaleem.net/new/ArticalList-133