فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      السّاحة الشامية .. أين حَدث الخلل؟ 1

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      أعلم أنّي أطرق اليوم موضوعاً من أكثر المواضيع التي تهم العالم الإسلامي اليوم ضبابية وخطورة، وأنّ السائر فيه سائر في طريق شائكٍ خطرٍ ملئ بالحفر والمنحدرات. لكن، أليس هذا دورنا في ظلّ ما نحن فيه من وهدات قاتلات، نترنح منها تحت ضربات المرتدين من كل لون ونوع، في كل أرض قام بها الإسلام يوماً؟

      والموضوع بإختصار هو، ماذا حدث في الشام؟ وماذا يحدث اليوم، ثم الأهم، لماذا يحدث؟

      وأحسب أن غالب هذه المقال سيكون عبارة عن سردّ شبه تاريخيّ، سمه إن شئت تتبعاً للأحداث، يحتاج أكثره إجابات، لكنه سردٌ ستضع القارئ، إن شاء الله، على بينة من أمره فيما يجب أن يكون علي بينة منه. فتحديد السؤال نصف الجواب، وتحديد موطن الخلاف نصف الطريق إلى حلّه.

      وجوهر المُشكلة اليوم في تلك الساحة، يرجع إلى أمرين، علميّ شرعي وآخر عمليّ تطبيقيّ.

      وسنتتبع في هذا المقال تسلسلا شبه تاريخيّ للأحداث، باختصار غير مخلٍ إن شاء الله، قدر ما وصل إلى علمنا، لنرى كيف تنتهى بنا الصورة.

      وكعادتا، نودّ أن نشير إلى أمور معينة قبل أن نبدأ في تناول لبّ الموضوع، يجب أن يلاحظها الباحث في أمر الساحة الشامية اليوم، ليكون واعياً بمعطياتها قدر الإمكان، قبل أن نشرع في وضع تسلسل تاريخي للأحداث الهامة علي تلك الساحة، ومن ثم طرح التساؤلات الي هي، في حقيقتها، إشكلات، علمية أو عملية، تمنع الوصول لحلٍ في رأينا. فنقول:

      1. يجب التمييز بين الواقعة وتفسيرها، فالواقعة هي ما نراه على الأرض واقعاً لا يختلف عليه اثنان، كأن يقال أن المجاهدين اليوم يقتل بعضهم بعضاً. هذا واقع لا يحتاج تفسير ولا تعليق. أمّا سببه فهذا أمرٌ آخر.
      2. أن تفسير الوقائع يختلف عادة باختلاف الناظر فيها، والعوامل المُسّببة لهذا الاختلاف متعددة، منها، أنه قد يصل للبعض جزء من الحدث لا كلّه، ومنها دقة تحليل الناظر وسعة أفقه وخبرته وسابق علمه، ومنها الانحياز والتعصب المُسبق، مما يمنع المرء من النظر في الرأي المخالف، بله اعتباره، إذ يكون الناظر قد استقر مسبقاً على تحليل لكل حدث يأتى في المستقبل قبل وقوعه، بناء على تنظير تبناه مسبقاً، وهكذا.
      3. أن الساحة اليوم فيها جبهتان، المقاتلون على الأرض، والمناصرون على النت، وهو ما يجعل أمر تمييز الحقائق وتفسير الوقائع من أصعب الأمور. إذ يتلقف جيش النت واقعة، فيخرج من فوره بتحليل، ينصر وجهة نظر من يتعصب له، قبل أن يدرى أحدٌ فيم وقعت الواقعة، أو كيف وقعت، فتنشر الآراء المتعارضة، ويبدأ كلّ جانبٍ في السبّ والقذف والتحريض على الآخر، وكأنه ملك الحق كله بوحي من الله يوحى اليه، شخصياً، وكأن الآخر شيطانٌ مريدٌ، لم يكن له اخاً بالأمس القريب! ثم كثيرٌ منهم صالحون واعون هم فخر الأمة وأملها.
      4. ثم إن جيش المقاتلين على الأرض عادة ما يتبع قواعد الجيوش في عمومها، ومبدؤها السمع والطاعة، وهي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم. لكنها، في هذه الحالة، التي ليس فيها راية واحدة مجتمعة، ليست على إطلاقها، بل تدخل تحت نصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" كلّ مخلوقٍ، جنديّ أو غير جنديّ، مُبايع أو غير مُبايع.  لهذا يجب على المقاتل أن يتحرى الحق قدر إمكانه، وأن لا ينزع يداً من طاعة إلا إن أمر بمعصية واضحة جلية، كأن يؤمر بقتل مسلمين. وهنا تقع مشكلة، أن من القيادات، بل ممن هم دون القيادات، من يبرّر "شرعييهم" لجندهم قتل المسلمين بدعاوى قد أنزل أدلتها عنده على غير محلها لقصور علم أو لهوى نفس، أو لكليهما، فترى الجند يستحلون قتل المسلم المجاهد، ثم يأتونك بأدلة ألقيت إلى أسماعهم ما أنزل الله بها من سلطان. وهذا يعود بنا إلى التساؤل، هل الجندي من العامة له أن يجتهد فيطيع أو لا يطيع؟ فنقول، نعم، في أمور عُلمت من الدين بالضرورة ومن العقل باللزوم، فإنّ قَتْل المسلم ظاهراً أمرٌ واضح جليّ، فإن دخلت عليه شبهات من قياداته، فالدم في أعناقهم، ويلزمهم كفلٌ منها. فإن قيل: فلم نحرم على العاميّ إذن واجب أن يُكفّر من لاح له منه عمل مكفّر، قلنا لا يستويان، فمعلوم أنّ رتبة إتيان المحرمات بتكفير مسلم أعلى من رتبة إقامة الواجبات بتكفير كافر، فإن التكفير يلزم عنه سفك الدماء، والكفّ عنه يلزم عنه حقنها. ثم عدم الطاعة هنا هي بكفٍ لا بفعل، فلا يستويان أصلاً. ثم قد دلّت السنة على التصرف في كلا الحالين، فحذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من تكفير المسلم، كما في حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنه "من قال لأخيه يا كافر ، فقد باء بها أحدهما"رواه مالك، بينما قال في حديث مسلم في شأن أسامة بن زيد، ".. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" أقال: لا اله الا الله وقتلته؟" قال قلت: يارسول الله! انما قالها خوفا من السلاح. قال" أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها ام لا". فما زال يكررها على حتى تمنيت اني اسلمت يومئذ". كذلك ما رواه بن حجر في المطالب العالية "عَنْ سعيد بن جبير، قَالَ : "خَرَجَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فِي سَرِيَّةٍ ، فَمَرُّوا بِقَوْمٍ مُشْرِكِينَ فَفَرُّوا وَأَقَامَ رَجُلٌ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ ، فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَقَتَلَهُ الْمِقْدَادُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقِيلَ لَهُ : أَقَتَلْتَهُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟ فَقَالَ : وَدَّ لَوْ أَنَّهُ فَرَّ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ . فَقَالُوا : هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْأَلُوهُ ، فَأَتَوْهُ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَقَتَلْتَهُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟ " ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَدَّ لَوْ أَنَّهُ فَرَّ بِمَالِهِ ، وَأَهْلِهِ ، قَالَ : فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : "يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا" إِلَى قَوْلِهِ "كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ" سورة النساء آية 94 يَعْنِي : تُخْفُونَ إِيمَانَكُمْ، وَأَنْتُمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، فَمَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ ، وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فَتَبَيَّنُوا"، فدلّ على أنه قد يكون مانع يمنع من القتل. وكلها تشهد أنّ المقامين لا يستويان عند من له عقل، أو في قلبه تقوى. ثم إنّ هذا المقام ليس بموضع تفصيل، فليرجع من شاء إلى ما كتبنا، في مواضع أخرى، عن معنى التوحيد والشرك والطاغوت، ولا إله إلا الله ومقتضياتها، قبل أن يرمينا بإرجاء أو غيره، فهذا داء المتسرع المثتصيد للأقوال. إنما أردنا هنا أن نبيّن الفرق بين السمع والطاعة في المعصية، وبين إطلاق الحق للعاميّ في الاجتهاد بالتكفير، لما علمنا من انتشار هذه البدعة في أوساط الجهاد، لا غير.
      5. ثم أنّ جيش النت، على حسن مقصد غالبه، فيه الكثير من قصر النظر وقلة العلم والجهل في الشرع، مع الهوى وإرادة الانتصار لما يراه حقاً، مما زاد الطين بلّه. وهي طبيعة العوام، ونتيجة مباشرة لما جرّتنا اليه النت باعتبار وجهها المفسد الضار. فترى صغيرا لم يتجاوز الحلم إلا منذ شهور، أو كبيرا لم يتحدث في دين قط ولا فتح كتاباً إلا منذ أن بدأ جهاد الشام، يقرر تقريرات، ويُخطّأ من هم من شيوخ العلم والجهاد، الذين شابت فيهما لحاهم واستنفذوا فيها أعمارهم. فترى هذا الصغير أو ذاك الكبير، يكتب تقريرات كأنما أفنى عمره في تحقيقها، بدلاً من أن يسأل عنها ليعرف ردّها ممن عنده العلم. وللإنصاف، فإن هذه الظاهرة لا تختص بالشام، بل هي مصيبة في أرض الاسلام بعامة، ولكن أحداث الشام هذه قد جسّدتها كأبشع ما تكون أثراً ونتيجة على مسار الأحداث، وعلى تكوين العقليات التي كنا نرجو أن تكون قيادات مستقبلية، فإذا هي بقدرة شيطان، مستقطبة متعصبة متعالمة مغرورة، فيها كلّ داءٍ، يعلم الله وحده كيف علاجه.
      6. ثم، إنّ هناك ظاهرة "الشرعيين" التي هي في أصلها صحيحة، لكنها، نتيجة عوامل كثيرة، أصبحت أداة للتناحر بدلاً من الاجتماع. والرجوع إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بالمنهج السديد، يوجب عدم التفرق بالضرورة، فإن وجدنا تفرقاً، فإنه إما إنه لم يُرجع إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو رُجع اليهما بشكلٍ باطلٍ ومنهج منحرف. والكل يدّعى الكتاب والسنة والمنهج، والكلّ يبدأ تسجيلاته بآيات قرآنية، ثم الكلّ ينتهى إلى نهاية متخالفة تمام التخالف! هناك خللٌ إذن. ولكن الكلّ يدعى العصمة، والكلّ يدعى عدم التقليد، وأنّ الخلل في الآخر! دائرة مفرغة لا تصل بها إلى نتيجة. وأساسها، فيما نحسب، أن كثيرا من هؤلاء الشرعيين، هم طلاب علم لا زالوا، زجّت بهم الأحداث إلى مواقع إفتاءٍ في دماء وأعراض وأموال فغلبت علي فطنتهم وتجاوزت قدراتهم، وصار منهم من يضرب ضربات عشوائية، ويستدل بأدلة في غير موضعها.
      7. ثم الطامة هنا أن من أصحاب العلم، من أفتى فتاوى، دون النظر إلى مآلاتها اليوم، جرّت خراباً كثيراً وأثراً مدمراً على الساحة، كفتوى أنّ العامي له أن يُفتى في التكفير، ومن ثم في الدماء والأعراض. فتلقفتها أيدى بعض الشرعيين، وكثيرٌ من الأتباع المقلدين، من قيادات ألوية أو رؤوس كتائب، فصار الدم لديهم كالماء، لا نقول دم النصيريّ، بل دم المسلم الموحّد المخالف لهم، وإذا هذا المسلم أصبح كافرا مرتدا بتأصيلات ما أنزل الله بها من سلطان، تعتمد على عمومات وإطلاقات ومبهمات ومشكلات، يبسّطونها كأنهم أحمد زمانهم أو مالك عصرهم، بلا تردّد فيما يقررون! نقول في العامية المصرية "خيبة أمل راكبة جمل". والله المستعان. وهؤلاء "العلماء" كان من المفترض أن يراعوا المآلات كما فعل بن عباس رضي الله عنه حين أتاه من يسأله "هل للقاتل توبة"، قال لا. فانطلق الرجل، فسأله أصحابه: كنت تفتى لنا بغير ذلك، قال رأيت في عيني الرجل شر فأردت أن يرعوى عنه، أو أن لا أعينه عليه، أو كما جاءت الرواية. هذا فقيه الأمة وعالمها، يعتبر مآلات أقواله، ولا يلقى بفتاوى دون اعتبار مآلاتها.
      8. ثم نعود إلى ما أردنا من المقال إن شاء الله تعالى

      يتبع إن شاء الله تعالى.

      د طارق عبد الحليم

      17 جمادى الأولى 1435 – 18 مارس 2014