فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      تعليق على لقاء د أكرم حجازى في العمق

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      اضطررت أن أقطع ما اتصلت به في كتابة مقالٍ أخير بعنوان " قول الحق في تعيين الفريق الأحق"، كنت قد وعدت بنشره، حين طالبني بعض الإخوة بالتعليق على ما جاء في برنامج "في العمق" على قناة الجزيرة، المعروفة بتوجها في هذا الأمر، من معاداة للدولة الإسلامية في العراق والشام، كما يظهر في تقريرها الميداني المنحاز الذي قدمته خلال البرنامج، والذي لا أعلق عليه إذ جاء من خصمٍ مُتَهمٍ لا من مخالفٍ في رأي. وكان الضيف الرئيس هو أخي الحبيب د أكرم حجازي.

      والدكتور أكرم حجازى شخصية راقية ناضجة محترمة بإجماع من عرفت من الإسلاميين. وهو باحث إجتماعيّ يتمتع بأصالة ونفسٍ إسلاميّ يوجه أطروحاته في سياق إسلاميّ بشكلٍ عام.

      وقد كانت الأحداث الأخيرة في سوريا، وما أدت اليه العمالة والاختراق في فصائل عدة تنتمى "للجهاد" ثم ما تطوّر من قتالٍ بين إخوة الجهاد في الدولة والنصرة، محكٌ لقياس عمق النظرة التحليلية، والعمق الشرعيّ لكثيرٍ ممن تصدى للحديث في أمر هذا الشقاق.

      وقد أعرضت عن التعليق علي ما قاله ضيف الحلقة الآخر، د إياد قنيبي، إذ اعتبره غير ناضجٍ، شرعياً ولا سياسياً، ليكون له رأي معتبر في هذه الأمور، بل قد ألبس غير حجمه إعلامياً، كما حدث مع كثيرين غيره، ممن هم في طور التكوين لا الطرح. وما أيسر اليوم أن يلمع متكلمٌ إعلامياً وليس له بضاعة إلا لسان ألحن من غيره.

      أختلف مع الدكتور حجازى فيما عرضه في الحلقة، في كثيرٍ من  التفصيلات التي قدمها لأسباب سأبينها إن شاء الله.

      أولا، أقرر أن حديث  د حجازى قد غلب عليه الطابع السياسيّ والاجتماعي، وغاب عنه البعد الشرعيّ، ولا غرابة في هذا فلكلٍ تخصّصه الذي يُملي على حديثه توجهاً معينة لا يمكن الخروج عنها فطرة.

      وقد انتهى د حجازى إلى أن جبهة النصرة هي الجبهة الأقرب للحق، والأقوى والأمثل لتمثيل الإسلام في الشام، لأسباب ذكرها، منها أنها الأقرب لفئات الشعب، وأنها قد ألهمت الشعب وأشعلت فيه الفكرة الجهادية، وأن أداءها العسكريّ كان متميزاً للغاية، وأنها حضنت كافة طوائف الشعب في "حاضنة شعبية" جعلتها أقرب لقلوب العوام.

      ثم انتهى إلى نقد سياسة الدولة، ولا أقول معاداتها، وقدم لذلك أسباباً منها أنّ الدولة اختارت طريقاً عقدياً "مُكلفاً!" مما جعل جهادها جهاد النخبة، وطريقها لا رجعة فيه! ثم قرر أنّ الدولة تريد الأمة أن تلحق بها بينما النصرة تريد أن تلحق بالأمة، وهو فرع على ما سبق فيما أظن. كما عبر د حجازى عن رأيه في أنه لا يرى أن تقوم دولة الآن حيث أن الدولة من شروطها التمكين وحماية أماكن تواجدها، وهو ما لم يتحقق للدولة الإسلامية في العراق والشام، حيث وزعت أفرادها على كثير من الأماكن لتقديم الخدمات ففقدت قدراتها القتالية وخسرت غالب تواجدها إلا في الرقّة، وشرق الريف الحلبيّ.

      ونحن كما قلنا، نخالف د حجازى في كثيرٍ مما ذهب اليه سواءً في نصرة جبهة النصرة أو في نقد الدولة، وسنبين سبب ذلك بإذن الله.

      أما عن تفصيل د حجازى لجبهة النصرة، فقد بناه على أنها "الأقرب للحق، والأقوى والأمثل لتمثيل الإسلام في الشام، وأنها الأقرب لفئات الشعب، وأنها قد قد ألهمت الشعب وأشعلت فيه الفكرة الجهادية، وأن أداءها العسكريّ كان متميزاً للغاية" كما قلنا. لكنّ د حجازي، كباحث اجتماعيّ غفل عن أن يتحدث في بعد السياسة الشرعية، الذي يقرر أنّ جبهة النصرة إنما أدت ما أدت وهي جزء من دولة العراق الإسلامية وقتها، وبتوكيلٍ من البغداديّ، وبتمويل وجند من عنده! فجبهة النصرة لها بيعة تربطها بالدولة، وكلّ ما حققت إنما حققته بإمكانات الدولة وبجنودها وبأموالها، وبمستشاريها. ثم كانت خيانة، كما أراها، حين نزع الجولاني يداً من طاعة. وهذا البعد الشرعيّ قد تجاوزه  د حجازي تماما، وتحدث بعمق سياسي دنيوي براجماتي بحت. فأن ننسب فضل ما حققته النصرة على الأرض "لقيادتها الحكيمة" و"لرؤية الجولاني" الملهمة"، لهو تعدٍ على الحق، وعدوان على الواقع.

      ثم إنه كان على د حجازى، حين انتقد السياسات، أن يبيّن أن الانهيار في العملية الجهادية كلها لم يأت نتيجة إعلان البغدادي تمدد الدولة للشام، بل حين رفض الجولاني هذا التمدد! إذ هذا المنطق يضع الحصان وراء العربة كما يُقال. فماذا كان على الجولانيّ لو قبل التمدد، وهو أفضل شرعاً من أي وجهة نظرت، إلا من وجهة جبانة مصلحية تتحدث عن استعداء الغرب، وهم أصلاً أعداء صرحاء في عدائهم، وماذ عليه لو أصبح جندياً من جنود الكيان الجديد، أو أميراً من أمرائه؟ أهو أفضل من خالد بن الوليد حين عزله عمر لصالح أبي عبيدة؟ لا والله بل هو حبّ الرئاسة لا شكّ فيه، مهما حلل الدكتور حجازي.

      ثم قول د حجازى أنه يرى النصرة تعتمد الجهاد الشعبي، الذي يضم و"يحضن" كل الشعب، يقترب بنا من النهج الإخواني، وهو الحاضنة الشعبية التي تضم "الكلّ" والتودد اليها واحتواءها، لتكون الثورة ثورة "شعب"، وإن أرادت أخيراً أن تصل إلى الإسلام! هذا حديث وهمٍ أثبتت تجربة مصر، وتجربة الجزائر فشله الحاد التام من قبل. الطريق الذي اتخذته جبهة النصرة إنما توجه اليه الجولاني ليتميّز عن الدولة، وليجد أنصاراً خارجها، إذ لم يبدأ بمثل هذا التوجه إلا بعد إعلان الدولة تمددها. وهذا النهج شبه الإخواني مصيره إلى فشلٍ لا محاله. وأعجب كيف فات على مثل دكتورنا حجازي هذا الأمر، وهو الشاهد على فشل النهج الإخوانيّ الحاضن لكافة التيارات. أمّا الدولة فهي لا تتعامل مع الأقليات من منطلق "الحاضنة"، بل من منطلق الأقليات التي لها حقوقها في الشرع، وشتان بين المنطلقين.

      أمّا عن نقد د حجازي للدولة وسياساتها، فلا أختلف معه في أن السياسات قد تكون خاطئة في بعض الأمور، وهذه أرض جهاد تتبدل فيها المعطيات كلّ ساعة. لكن أن لا نرى لها ميزة تّذكر في حيث دام قرابة الساعة، فهذا أمرٌ ألوم فيه أخي د حجازى لوماً شديداً.

      وقد نقد د حجازي إعلان الدولة مدّ سلطانها إلى الشام، وقال إنها لم تستشر أحدا على وجه الأرض، وهذا تقرير يجافي الصواب. فأولاً حقيقة إرساله الجولاني بمالها ورجالها ومستشاريها إلى الشام هو "التمدد" في حدّ ذاته، إلا عند من تمسك بالشكليات، ولا نحسب د حجازى منهم. ثم إنّ البغدادي قد استشار من حوله ممن تيسر له، وليس هناك في الشرع ما يُلزم أن يستشير كلّ من على وجه الأرض! ولعله أحس برغبة الجولانيّ في الانفصال، وهي رغبة تخالف أمر الله الذي حث على الاجتماع، فسارع بهذا الإعلان، والله أعلم، ولكنه كان ضمن صلاحياته المشروعة، شرعا، بل وسياسة.

      ثم اعترض د حجازي على أنّ الدولة اختارت جهاداً مُكلفاً! ولا أدرى والله ماذا يعنى هذا بالتحديد. فإن الجهاد، أيّا كان مُكلفاً، وأي جهادٍ غير مكلفٍ فسيقع في دائرة جهاد "السلمية" الإخواني في مصر، وهذا ما لا يريده أحد في الشام على وجه القطع. وبينهما، يقع منهج الجولاني المُحدث. لكن الحق أنّ الجهاد المثمر لا يكون إلا بطريقٍ واحدٍ، وهو الذي عبر عنه د حجازي أنه "لا رجعة فيه". ولا أدرى أقال هذا مدحاً أم ذماً، فعدم الرجوع عن اتخاذ الجهاد منهجاً والانطلاق من قاعدة شرعية ثابتة لا جدال حولها، مع مراعاة السياسة "الشرعية" لا الإخوانية البراجماتية المصلحية، هو أمر جيد، وهوالتجديد الذي جاء به البغداديّ، والذي أثار عليه حنق الدنيا كلها. فهل يقول د حجازي أنه يجب "التراجع قليلاً" لتكون السياسة ناجحة؟ وفي أي مجال يجب فتح باب التراجغ؟ ولأي حد؟ أسئلة لعل دكتورنا الحبيب أن يجيبنا عنها.

      ثم تحدث د حجازى عن أنّ شروط الدولة غير متحققة في الدولة الإسلامية في العراق والشام، إذ شرطها التمكين، والتمكين غير حاصل. وإن لي وجهة نظر في هذا الأمر أعرضها في حينها، ولكن التمكين أمر يحكم عليه من هم على الأرض لا غيرهم. ثمّ إن اسم الدولة لا مشاحة فيه فالمصطلح واردٌ، وهو شوكة في حلوق الصهيوصليبية والسلولية، كما أنه حلم كلّ مسلم، فما العيب في أن تطلقه على نفسها. ولا علينا من بعض جهال أنصارها ممن تأولوا وزايَدوا وبالغوا وهوّلوا، فهذا يقع في كل جماعة وجبهة، وقد رأينا من أنصار النصرة من يكفر مشايخاً، تماماً مثل بعض من نسب نفسه للدولة أو أكثر، فلم نَلُم النصرة في هذا. وقد طالبناهم بتأديب مثل هؤلاء كما طلبنا وشددنا على الدولة، فاستجاب أنصارها حفظهم الله، إذ كيف يسيطر أيهما على أنصاره؟ وقد أعلنت الدولة مراراً أنها لا تؤثم من لم يبايعها، فما معنى أن نقول أن الدولة "تريد أن تتبعها الأمة" بينما النصرة "تريد أن تتبع الأمة"؟ بل إن في تعميم هذا التقرير خطرٌ كبير، إذ نعم الأصح أن تتبع الأمة الدولة، فالأمة هي مجموع المسلمين فيمن يسمونهم العلمانيون "المواطنين"، ومن ثم يجب أن تتبعها الأمة في إرادة قيام دولة حقيقية على الأرض، وأن يطبق شرع الله بلا اعتبار "للتكلفة" إلا في حدود ما يسمح به الشرع وأحكامه. وتقرير أن النصرة تريد أن تتبع الأمة، فهذا والله عيبٌ كبيرٌ في منهجها، فأين ستأخذها الأمة؟ إلى حيث أخذت الإخوان؟

      كما أن الدكتور حجازي قد تجاوز بالكلية عن حقيقة لا أظنه ينكرها، وهي تغلغل العمالة في صفوف بعض الجبهات، واختراق بعضها، وراح يعمم أحكاماً لو رددْنا نتائجها لأسبابها الحقيقة وتفاصيلها المعروفة لاختلف التقييم اختلافاً جوهرياً.

      هذا ويبقى أمثال د حجازي من أفضل من نستمع لنقدهم ونعتبر توجيهاتهم، فإنما نعلمه مريداً للحق إن شاء الله، وإن جانبه الصواب في بعض الأحيان كما يجانب الكلّ، فهو عزيزٌ.