الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
قبل أن نتحدث عن السرورية، أو أي اتجاه أيديولوجي آخر، باستثناء دين الإسلام، يجب أن نقرر أنه لا يمكن الفصل بين دعاة المذهب وبين تصوراته وأسسه. فمؤسسي أي مذهب أو فرقة هم من يُملون مبادئها ويؤسسون قواعَدها ويطرحون تصورَاتها. فمن هنا كانت شخصياتهم وطبائعهم أداة حاسمة في تكوين فرقتهم ومذهبهم.
ومحمد سرور زين العابدين ليس بدعاً في ذلك.
فإن السرورية، إن صحّ أن هناك مذهب متكامل يمكن أن يُطلق عليه هذا الوصف، هي صنيعة هذا الرجل، منذ الستينيات. والرجل إخوانيّ أصلاً وتصوراً وعقيدة ومنهجاً. ثم إنه، بطبيعته، يحب الخفاء والتدسس، لسابقته كضابط استخباراتي في سوريا. وقد قضيت معه ما يقرب من ثلاث سنوات لم أعرف، على وجه اليقين، أنّ لهم تنظيماً إلا بعد أن عرض الرجل عليّ بيعتهم. كما أنّ الرجل يعشق السياسة، بمعناها الوضعيّ، ويعتمد في كلّ ما يصدر عنه على ما يجمع من أنباءٍ وأخبار، وهو ما لا نراه سيئة أبداً، إن اجتمع هذا في بوتقة التحليل مع علمٍ شرعيّ مكين، وتوجه أصوليّ ركين. وهو ما افتقده سرور إلى درجة كبيرة، يلحظها القارئ لما صدر عنه من كتب، بل لحظها بعض تلامذته، وأسروا إلي بها في أحد الموتمرات بدنفر، كولورادو، في أوائل التسعينيات.
والحقّ أني لا أتفق مع من أتى بهذا الإسم، علماً على اتجاه بن سرور. فإنّه لم يأت بجديد في واقع الأمر، يغاير ما عليه الإخوان، إلا من حيث عمق الدراية بالأحداث السياسية، وتحليلها والاعتماد عليها فيما يقرر.
وقد شاع أنّ التيار السروريّ يتبنى الفكر القطبيّ ويتمحور حول فكر بن تيمية. وهذا خطأ عظيمٌ وقع فيه كثيرٌ ممن حاول تحليل هذا المذهب وفهم أصوله. فالحق أن نشأة هذا الإتجاه، كانت في العربية السعودية، بعد نزوح محمد سرور إليها عقب تفكك علاقته مع الإخوان، ثم بعد أن رفض إعلان الجهاد ضد النظام السوريّ عقب مجزرة حماة، وانفصل نهائياً عن الإخوان. ومن هنا، فإن الفكر السروريّ لم يكن ليتقدم خطوة إلى الأمام في الجزيرة، وفي نجدٍ خاصة، إن لم يتبنى نهجاً سلفياً، مسايراً لمنهج الإمام محمد بن عبد الوهاب. لكنّ التوجه الحقيقيّ كان مضاداً للسلفية السنيةّ الرشيدة، من حيث حاول بن سرور أن يمازج بين الفكرة الإخوانية التي تربى عليها، وبين الفكرة السلفية التي تتبنى فكر بن تيمية، والتي التزم بها نتيجة البيئة المحيطة. أمّا فكر سيد قطب، فقد كان، حتى ذلك العهد، فكراً نظرياً يستحوذ على فكر الشباب الذين اعتمد عليهم بن سرور في بناء حركته، واكتساب ثقتهم به، والأهم، دعمهم له.
أمّا من حيث التصور العقديّ والحركيّ للحركة، فإن هذه المدرسة هي مدرسة إخوانية صرفة، بنيت على التصور الإرجائيّ في التعامل مع الحكام، وتصور الحاكمية، ومفهوم التكفير، وما إلى ذلك من تصوراتٍ عقدية، ترى إسلام الحاكم بغير ما أنزل الله، ولا ترى بأساً في النهج الديموقراطيّ. ومن ثمّ، جاء موقف هذه الشلة الذين ينتمون، أو نسبوا، إلى السرورية، من الحركات الجهادية بشكلٍ عام. إذ وقف بن سرور وجماعته موقفاً مخزياً من الحركة الجهادية في الجزائر، وشنّعوا عليها. ولا يغرنّك ما كتب في بعض كتبه عن منهج تكفير الحكام وما إلى ذلك، فقد كان ذلك ردة فعلٍ لموقف السعودية منه، حين أخرجته من أرضها.
وقد يتساءل البعض، كيف يتأتي هذا الموقف من الحركات الجهادية، مع التوجه النظريّ للحركة السرورية، بين سلفية وقطبية وإخوانية، إن صحت التعبير؟ والجواب يكمن في الشخصية المتشابكة الأبعاد لمؤسس الحركة. إذ لم يقدم الرجل أيّ تجديد للحركة السلفية، ولا للحركة القطبية، ولا للحركة الإخوانية! بل خلط بينها جميعاً خلطة مقيتة غير متوازنة، نتجت عن عدم وجود رؤية حقيقية متكاملة لديه، بل ولا إخلاص لفكرة واحدة منها. فصارت تتشكل حسب معطيات الواقع الذي يعيشه في ذاك الوقت. وهو كذلك يفسر التضارب الشديد بين أتباع حركته، بدءً بسلمان العودة، وختاماً بناصر العمر. وقد وضح تأثير المنهج المختلط في بعض ما كتب صديقه وملازمه الشيخ محمد العبدة في بعض مقالاته، بشأن الجهاد وأهله، وما آل اليه أنس العبدة، في مسار الديموقراطية الوطنية العميلة، متحدثاً باسم الجبهه الوطنية.
والمحقق في قدرات محمد سرور، وإنتاجه العلميّ، لا يرى أثراً حقيقياً فكرياً أو فقهياً أو أصوليا، يمكن أن يكون قاعدة لمذهبٍ حديثٍ أو قديم. وما كان سبب ظهور هذه المدرسة، فيما أرى، إلا الظروف التي صاحبت نشأة تلك العصبة من الشباب في السعودية، حيث وجدوا في طرح محمد سرور جديداً يأملونه، غير ما درجوا عليه من سلفية تقليدية، فوافقت العقل المراهق الوليد لشباب الجزيرة. وقد رأيت سفر الحوالي، وهو لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره، مرافقاً لمحمد سرور، حيث أقاموا في بيتي بالقاهرة ثلاثة أيام، في عام 1979، وهو تلميذ محمد بن سرور، كما يظهر من اتجاهاته وقرنائه عائض القرني وناصر العمر، في تلقيح سلفية محمد بن عبد الوهاب بمنهج "إصلاحيّ" ديموقراطيّ، تجلّت في السنوات العشر الماضية، وإن لم يشارك فيه الحواليّ بفعالية نتيجة مرضه. ومع ذلك تجد أن ما كتب سفر الحواليّ، أعمق أثراً وأنفع مادة ألف مرة مما كتب شيخه محمد سرور.
السرورية إذن، ليست مدرسة جديدة، وليست مدرسة قديمة، بل هي خليط ممجوج من مدارس عدة، يعكس اضطراب أفراده، بل وقد يجمع تحت عباءته شخصيات متنافرة، لا يجمعها إلا دعوى إسلام إصلاحيّ، ينشط لمقاومة الجهاد، وينشر الفكرة الديموقراطية، ويعين الحكام العملاء على استبدادهم. والزعم هو أنهم يفقهون من أمور السياسة العالمية والأوضاع الدولية ما يخفى على أمثالنا ممن يرى السياسة خاضعة للدين، وليس العكس. ومن هنا قلنا بأنّ نسبة هذا أو ذاك من "المشايخ" أو من "الدعاة" للسرورية، لا يصح بإطلاق، فهم خليط ممجوج كذلك، يقتطع من كلّ بستان حطبة، ليشعل بها ناراً تحرق الحركة الجهادية، وهو الهدف الذي يجمعون عليه بلا خلاف.
د طارق عبد الحليم