فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      المشيئة والعلم والعدل في ميزان الله

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      قد يرى البعض في هذا البحث ترفاً عقلياً، أو خروجاً عن سياق الواقع ومجرياته والبعد عن تفاعلاته. إلا إننا نوجه النظر إلى أمرين هامين في هذا الموضع، أولهما أنّ إرادة الباحث كثيراً ما تُحدد نظرية البحث من عمليته. والثاني أنّ استعمال البحث ووضعه موضع التطبيق هو معيارٌ آخر من معايير تقييم جدية البحث وقيمته على أرض الواقع. وقد ظلت أبحاث "النسبية العامة والخاصة" التي تتعلق بالعلاقة بين الكتلة والسرعة والطاقة، سنوات على رفوف الكتب، بعد أن أصدرها آينيشتين، حتى وُضعت موضع الاستعمال في مجال الطاقة النووية، بالخير أو بالشر.

      والمشيئات التي وردت في أقوال السلف، والتي يستدل عليها العقل في هذا السياق، ثلاث، المشيئة الكونية، والمشيئة الشرعية، والمشيئة الإنسانية. ومحصلة هذا ثلاث ثنائيات، يظهر للعين العَجلة أن قد يقع بينها تعارض يُسقط أحداهما، المشيئة الكونية في مقابل الشرعية، والمشيئة الشرعية في مقابل الإنسانية، والمشيئة الكونية في مقابل الإنسانية.

      أما المشيئة الكونية فهي التي بمقتضاها تقع الأحداث في العالمين، وبدونها لا يقع أمرٌ في السماء ولا في الأرض. فكلّ ما يقع من حوادث إنما هو خاضع لهذه المشيئة إن أرادت إنفاذه نفذ وإن أرادت إيقافه لن ينفذ، فلا مهرب منها ولا معدل عنها. وهذه المشيئة مقدرة حسب قانون الأسباب والمسببات، إلا إنها لا تتقيد بها حين تريد إنفاذ أمر صاحبها سبحانه وتعالى، كما يحدث في المعجزات، كنار إبراهيم وشق البحر لموسى عليهما السلام. وهذه المشيئة لا يخرج عن مقتضاها مسلم ولا كافر، تقيّ ولا فاجر، إنسٌ ولا جان، شجر ولا وبرٌ ولا نباتٌ ولا حيوان. قال تعالى "وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ" التكوير 29. وهذه المشيئة الكونية تقوم على العلم المطلق والحكمة المطلقة وسائر الأسماء الحسنى والصفات العلية. فإن الله سبحانه حين خلق الخلق، علِم ما سيكون منهم "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ" الملك14، علماً مطابقاً للحقيقة بلا انحراف. ثم أثبته في الكتاب كما سيكون، ولو شاء لغيّر فيه وبدّل، لكنه تركه كما ثبت في علمه المطلق، ليكون حجة على الناس "وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا"يونس99. وقد ربط الله العلم بالقضاء في الكثير من آياته، ومن ثم، فإن كلّ ما يحدث من بنى آدم هو بحسب مشيئة الله الكونية، التي لو أراد سبحانه لبدلها، لكنه تركها وأثبتها في الكتاب، واستحال أن يكون غيرها، لمطابقة علمه ما يقع. وهو سبحانه إنما ترك ما عَلِمَ على ما هو عليه لحكمة سابقة هو أعلم بها، وهي تستلزم الخير والصلاح والحق المطلق. كما أنها تستلزم الرحمة بعباده، وتستلزم النقمة على من كفر به، فهو الجزاء الأوفي لمشيئتهم. وهذا مدار العدل المطلق بلا خلاف.

      أما المشيئة الشرعية، فهي ما أراده الله سبحانه لعباده، وما وصّاهم به وكتبه عليهم وارتضاه لهم، مبيناً لعباده الطريق الصحيح في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وهذه المشيئة، أو الإرادة هي توجيه من الله سبحانه لمن أراد النجاة في الدارين، لكنها ليست حتماً مُلزماً لهم، بل لهم اختيار أن يُسلموا أو أن يكفروا "وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ". ومن هنا فإن من خالف هذه الارادة الشرعية، فقد خالف أمر الله تعالى واستحق العذاب، ومن أطاع هذه الارادة فقد استحق الثواب في الدارين. ولكن الاختيار في الحالتين هو للمكلّف ذاته، لا دخل لمشيئة الله الشرعية فيه، من حيث هي توجيه وهداية. ومن هنا كذلك، فإنه يمكن أن يكون من المكلّف ما لا يرضاه الله ولا يريده شرعاً، وإن كان موافقاً لما يريده الله ويشاءُه كوناً.

      وأما المشيئة الإنسانية فهي إرادة الإنسان الحرة في اختيار أفعاله التي تتماشى مع مشيئة الله الكونية، إذ علمها الله في علمه السابق، ودوّنها كما اختارها بنى آدم، وهو معنى كتبها عليهم، لا إملاءً بل تقييداً، والتي بموجبها هو حرّ مُكلّفٌ، مثابٌ أو معاقبٌ، لا جبر عليه في أفعاله.

      وفي التداخل بين هذه المشيئات، سقطت فرق وزلّت أقدام علماء على مدى تاريخنا الإسلامي، بين جهمية جرّدوا الانسان من كلّ مشيئة وجعلوه مسّيراً في كلّ أفعاله فأسقطوا حكمة الثواب والعقاب، وقَدَريّة أطلقوا للإنسان إرادته ومنعوا الله سبحانه – حاشاه - من أن يكون له مشيئة مع العبد ليبرّروا الثواب والعقاب، وأشعرية وقفوا بين الفئتين بما أنتج فرقة ثالثة تقول بمستحيل وهو ما أسموه "الكسب". فالتداخل بين هذه المشيئات إذن هو الذي يولّد الحيرة وسوء الفهم والتصور، ليس فقط من الناحية النظرية، بل كذلك من الناحية العملية التطبيقية في حياة المسلم كما سنبيّن.

      ثنائية المشيئتين الكونية والشرعية:

      وكلتاهما لله سبحانه، ولا تعارض بينهما، إذ بموجب الأولى هو ربّ العالمين، ربّ السموات والأرض، خالق كلّ شئ، والعالم بكلِّ شئ، له الأسماء الحسنى والصفات العلى. وهو سبحانه، بموجب الثانية، إله الناس الذي يجب أن يَخضع له الكلُّ بقلوبهم وأعمالهم، واليه يتوجهون بالدعاء في الشراء والضراء، يتقبلون هداه، ويعملون بشرعه، فيما يخصهم أفراداً وجماعات.

      ثناية المشيئتين الشرعية والإنسانية:

      وقد تتعارض هاتين المشيئتين، فالله سبحانه يريد للإنسان أن يهتدى، وأن يتّبع الشرع، وأن يكون مسلما له طائعا لأمره، لكن الإنسان هو صاحب القرار فيما يفعل وبما يقتدى، إما شاكراً وإما كفورا. فما يفعل هو حسب قراره وحده، وهو محصيٌّ عليه محاسبٌ عليه، لا فرار له منه. فالأولى إتباع المشيئة الشرعية لأنها الهدى والحق، وغيرها الضلال والفُجْر. ومن لم يفعل فأولئك هم الخاسرون.

      ثناية المشيئتين الكونية والإنسانية:

      وهنا مربط الفرس الذي يجب أن يعيه كلّ مسلم، يريد أن تصح تصوراته وتستقيم عقيدته على النهج السنيّ. فإن الناس كثيراً ما يتساءلون "إن كانت هذه إرادة الله فما نفعل نحن إزاءها؟" كما أن كثيراً منهم ينسب خطأه وسوء تقديره للمشيئة الكونية "هذه إرادة الله وهي نافذة" فيرفع عن نفسه اللوم، بنسبة الفشل إلى مشيئة الله سبحانه لا إلى سوء تقديره هو وتدبيره.

      والحق أن المصائب التي تصيب الناس تنقسم إلى أنواعٍ ثلاثة، أولها ما ليس للمشيئة الإنسانية أي دخلٍ فيها على الإطلاق، مثل أن يصيب الإنسان مرضٌ دون إهمالٍ منه في صحته، كالسرطان أو فيروس سي، أو ما شابه، أو فقد أحد الأبناء بقتل أو حبس أو خلافه، أو حتى الشوكة يشاكها لا يقصد أن يُشاكها. وثانيها ما يكون الفعل الإنسانيّ هو السبب في البلوى، كأن يأخذ الإنسان راتبه فينفقه كله في يومين، سواء في حرام أو مباح، ثم يجلس يندب عسرة حظِه وعجزه. أو أنْ يستهين بعمله فلا يؤديه على الوجه المطلوب، فيكون مصيره الفصل. ثم الثالثة، وهي ما يختلط فيها النوعان، فيكون فيها تصرّف للإنسان، لكنه لا يستدعى حجم المصيبة التي استتبعته، مما يكشف فيها يد المشيئة الكونية بدرجة من الدرجات.

      أمّا النوع الأول، وهو ما ليس للمشيئة الإنسانية أيّ دخلٍ فيها على الإطلاق، فهذا محضُ الابتلاء ومعناه على الحقيقة، وهو ما يستدعى الصبر والشكر، وإلا كانت الخسارة مضاعفة، لأن الأمر فيها لله وحده، إذ علم سبحانه بوقوعها، وكتبها عليه، ولو شاء لمنعها، فلا مجال لتلافيها، وشاء أن تنزل على العبد لتبتليه. وهنا محض الاستسلام للمشيئة الكونية والرضا بالقضاء، يتميز فيه العبد بإيمانه، أو بكفره.

      أما النوع الثاني، فهو يقع بمحض اختيار العبد[1]، فلا محلّ للإبتلاء فيه. بل هو عقاب يقع على العبد، بسبب سوء فعله وانحراف قصده وعدم أخذه بالأسباب التي وضعها الله سبحانه لتسير عليها أمور الدنيا. فتَصَرُف العبد بما لا يتمشى مع السّنن هو في حقيقته مخالفة لأمر الله ومشيئته الشرعية، إذ الشرع قد بنيَ على تسلسل الأسباب والنتائج[2]، إلا ما كان في حال المعجزات. فإن خرج قومٌ مثلاً يواجهون قوة مسلحة بلا عدة ولا عتاد، بصدورهم العارية، لم يكن هذا ابتلاءٌ من الله، بل سوء تقدير من العبد، إذ لم يأمر الله سبحانه في مشيئته الشرعية بمثل هذا الأمر. لكنّ الناس يحبون أن يَنسُبوا فشلهم وبلواهم للإرادة الإلهية ليرتاحوا وتطمئن نفوسهم، وما هي بذاك. ولكن يجب التنويه هنا إلى أنه إن أساء العبد التصرف، ثم أصابته المصيبة، فصحح النية في استقبال الحدث والمصيبة، ورضى بعواقب ما جنت يداه، صارت له منها حسنات، بدلاً من أن تضيع عليه هباء منثوراً. وهذا من رحمة الله بعباده، أن فتح لهم باب تصحيح النية وتعديل القصد، فيا لها من رحمة ويا له من عدل.

      أما النوع الثالث، والذي يكون فيه للعبد نوعُ اختيار، لكنه محدود، فإذا بنتائجه تتجاوز حجم فعله واختياره، فهذا الذي فيه ابتلاء من ناحية، وعقاب من ناحية. وهو الذي يجب على المرء أن يدركه وأن يرى ما أساء فيه الاختيار، ليُصحح اختياره فيما يأتي من أفعال، ثم يُسلم لله ويتقبل قضاءَه فيما تراكمت به المصائب على رأسه مما لم يقصد اليه. وهذا الأمر يحتاج إلى بصيرة ثاقبة، وتحليل دقيق، وشجاعة في مواجهة النفس، والاعتراف بالخطأ.

      في هذا الإطار من التصور يجب أن يتحرك المسلم في الحياة، يؤمن بقدر الله الذي سينفذ لا محالة، لكنه يؤمن كذلك بأنه هو نفسه شريك في هذا القَدَرْ بالقَدْرِ الذي سمح له الله سبحانه به، وأطلق فيه اختياره. وهو مجال الأخذ بالسبب على تمامه، ثم التسليم لله سبحانه.

      ولا بد، ونحن نمرّ بمرحلة في تاريخنا الحديث تمتلئ بالنكبات والمصائب والفشل، أن نصحح تصوراتنا عما مسؤليتنا فيما يحدث للأمة، أفراداً وجماعات، حتى لا نغضى الطرف عن قصورنا، وننسبه لمشيئة الله، وكأننا لا علاقة لنا بما يحدث ولا يد لنا فيه، وهو مقتضى قول الجهمية، الذي يجرّد الإنسان من اختياره بالكلية، فلا يكون له حافز على تصحيح عملٍ أو مراجعة نفسٍ.

      وينطبق هذا على ما نرى من أحوالنا في مصر، حيث أدخل الإخوان في روع الناس أن واجبهم يقف عند رفع أصابع أربعة، واتلاف الحناجر بالهتاف، وكفى الله المؤمنين القتال! كما ينكبق على ما يحدث في الشام من تناحرٍ بين المجاهدين، بسبب من أنفسهم لا من الله سبحانه.

      هذا ليس أخذا بالأسباب، كما أنّ نتيجته ليست محض قدر الله المكتوب علينا، ولا هو ابتلاء لنا، بل هو نتيجة عملنا الفاسد القاصر، ونتيجة نظرنا لحظوظ أنفسنا وسوء اختيارنا، ومن عملنا سُلّط علينا.

      اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.                                  


      [1]  وإن كان في نهاية الأمر موافقاً للمشيئة الكونية التي لا يحدث في الكون أمر إلا حسبها ووفقها لعلم الله سبحانه المسبق بوقوعها وإقراره سبحانه لها، ومشيئته أن تنفذ حسب علمه بها.

      [2]  راجع سلسلة "مفهوم السببية" التي دوناها في عام 1986، http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-75، http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-76، http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-77، في أجزاء ثلاثة.