الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
آليت على نفسى أن لا أتحدث بسوءٍ عن الإخوان، طالما أصبحنا شُركاء في هذه المحنة التي تمر بها بلادنا، بل وكافة بقاع أرض المسلمين، حتى تنقشع الغمّة، وكما قال شوقي
إنّ المَصَائب يَجْمَعن المُصَابينا
لكن، عنّ ليَ أنّ الأمر، في حالتنا هذه، ليس أمر مجاملةٍ وتعاطف، بل أمر مناصحةٍ وتكاشف، فالدين النصيحة، كما قال سيد رُسل الله صلى الله عليه سلم. الأمر إذن ليس أمر جهرٍ بالسوء من القول، بل أمر بيان انحراف منهج واعوجاج طريق، لعل أحداً أن يرى في ظلماته نوراً يضيئ طريقاً إلى الله، ثم إلى الحرية.
(1)
لقد ساقنا النهج الإخوانيّ كما سبق أن بيّنا، إلى وضعٍ نحن فيه اليوم أضعف فصيلٍ، وأذل طائفة في بلادنا. فما هي المزالق والبلاءات التي حدثت، على يد الإخوان، على أرض الواقع، لا في مجال العقيدة، التي يعرف القاصى والداني أنها عقيدة إرجائية متطرفة.
أولاً: قبل عهد د محمد مرسى
التربية
كانت التربية الإخوانية هي المنزلق الأول الذي وقعت فيه الإخوان، حيث تركزت تربيتهم على أمرٍ واحدٍ، وهو تكثير سوادهم، كجماعة، دون اهتمامٍ بالتربية العقدية والعلمية، التي ينكشف بها زيف الزائفين وباطل المبطلين، من منطلق أن الناس يحتاجون لإصلاح لا لتصفية عقيدة. ونحن لا ندعى أنّ التربية الإخوانية كانت غُفلاً عن معاني إسلامية صحيحة، كمساعدة الفقراء وحبّ الجار والإحسان إلى المسئ، لكنّ لكل عصر أولوياتٍ تجب مراعاتها. وقد ترتكزت تربية الإخوان على معاني إسلامية "فرعية"، إن صحّ التعبير، ولم يلتَفتوا، نتيجة الانحراف العقدي، إلى الخلل الحقيقيّ في مجتمعاتنا المعاصرة، بل عاملوها على أنها تحتاج إلى إصلاح وترميم، لا أنها تحتاج إلى إعادة بناءٍ وتشكيل. فأغفلوا الحديث عن التوحيد، وعن أخصّ خصائصه التي ابتلى بها عصرنا، وهي الطاعة في التشريع، والولاء والبراء في التعامل.
ثم انعكس مبدأ الإرجاء على الكثير من تصرفاتهم الشرعية، فهوّنوا من أثر الفسق، وسمحوا بمنكراتٍ كثيرة منها التساهل في الاختلاط، وتعوّد الموسيقى وتشجيع "الفن" بكافة أشكاله. وهي أمور كلها تضرب في قوة أية حضارة ناشئة، كما قرر إدوارد جيبون في حديثه عن الرومان، بله، وهو الأخطر، انها استجلبت غضب الله ونقمته عليهم وعلى من سكت عليهم.
ثم، وهو الأخطر، أنّ مذهب الإرجاء قد أعمى قادتهم، وبالتالي عوامهم، عن الجهاد وأهميته. فأصبح شعار "الموت في سبيل الله أسمى أمانينا" حبرٌ على ورق، حتى ألغوه تماما من شعارهم آخر الأمر. وقد ساهمت الهجمة الغربية على ما أسموه "الإرهاب"، وما استخدمته الأساليب الحاكمة المشركة في بلادنا من تخويفٍ وترويعٍ مما أسموه "التكفير" على أن يتمسك الإخوان بهذا الإتجاه في نبذ سنة من سنن الله تعال في الأرض، وهي سنة الدفاع عن النفس، ولا نتحدث هنا على جهاد الطلب، فليس عصرنا هذا بمحلٍ له على وجه اليقين، لكن على دفع الصائل، الذي هو سمةً مشتركة بين بنى آدم، في كلّ عصر وحضارة. وكان نتيجة ذلك هو تربية جيل، هو جيل أبناء الإخوان اليوم، لا محلّ فيه لدفع صائلٍ أو دفاع عن النفس، فهذا بالنسبة لهم حرام، والقتلة المجرمون المرتدون هم إخوانهم في الدين، ودمهم حرامٌ!
الحركة
أمّا عن الحركة، فقد تعدّدت أخطاء الإخوان في مجال الحركة، وإن كانوا أصابوا في بعضها كذلك. فمِّما أصابوا فيه، المساهمة في تحسين أحوال الفقراء، والمساعدات الطبية والاجتماعية.
لكنّ الجماعة قد تقوقعت على نفسها حركياً، وعاملت من هم خارج إطارها على أنهم فصيلٌ آخر مُعادٍ، بمبدأ من لم يكن معنا فهو علينا[1]. وأبعدت الجماعة ذوى الكفاءات ممن لا ينتمى اليهم حركياً، فاعتمدت مبدأ "الولاء قبل الكفاءة". ومن ثم، رأينا الكثير من "قياداتهم" الشابة، إلى جانب ضحالة علمهم الشرعيّ، لا يصلحون لقيادة أهل بيت، بله تجمعاتٍ حركيةٍ في عصرنا هذا.
كذلك، ونتيجة ما ذكرنا في مجال التربية، فقد أهملت الجماعة تكوين أية كوادر عسكرية يمكنها الاعتماد عليها في يومٍ عاصف، كيوم 30 يونية 2013! رغم أنّ أعداءهم، وأعداء الدين، قد كانوا يَرمونهم بأنّ لهُم ميليشياتٍ عَسكرية، وكانوا يردّون ذلك وكأنه وصمة عار لا تليق بمسلمٍ! ولو انتبهوا لعرفوا أنّ تكتيك عدوهم هذا يدلّ على خبث طويته، إذ ألجؤهم إلى الإنكار والبعد عن ذلك التحرك، ولم يَثر في أنفسهم أن العدو ما كان ليركّز مثل هذا التركيز الإعلاميّ إلا لخطورة هذا التوجه على وجوده وسيطرته. فكان واجبهم أن يَعملوا على تكوين أجنحة عَسكرية، بأي شكلٍ كان، تحَسّباً لما رأيناه حَدَث بالفِعل، لا ما نتوقع حدوثه بعد.
السياسة
وهي الطّامة الكبرى التي وقعت فيها الإخوان، إذ كانوا غير مؤهلين بالمرة لسياسة دولة في وضع مصر، وما في داخلها من مَراجِل تغلي بأحقادٍ وتآمر، وما هو خارجها من تربّصات ومَكيدات من الشرق والغرب. ومن أي طريق كنا نتوقع أن يكون للإخوان خبرة سياسية، وليس منهم من تقلد منصباً سياسياً في أي عصرٍ من العصور؟
فأكبر الطوام إيمانهم بالديموقراطية السياسية، رغم وضوح معارضتها للإسلام أصالة، وما يتبع ذلك من اعتمادهم على صناديق الأوراق لحسم صراعٍ حمل فيه الأعداء صناديق السلاح ضد المسلمين. وقد رأينا، في كافة حركات التحرر في العالم على مساحة الزمان كله والمكان كله، أنّ أي تغيير في اتجاه أمة من الأمم لا يأتي بطريق الديموقراطية أبداً، أبداً. ولا نذكر منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، حتى لا يقول مراوغٌ: لم يكن على عهده ديموقراطية! بل نتحدث عن كافة حركات التحرر بلا استثناء، فما بالهم عَموا عن التاريخ عماية تامة؟
ثمّ، طريقتهم البَرجماتية المَصلحية في التعامل السياسيّ، وهي خطيئتهم الكبرى. فقد رضوا التصالح والتفاوض مع من هم أعداء حقيقيون للإسلام. وما هذا إلا لعقيدتهم الخَربة التي صورت لهم أنّ الردة لا تمكن أن تقع ممن نطق الشهادتين يوماً! وقد رأينا ما فعلوه مع المجلس العسكريّ خلال فترة الطنطاوى من تواطئ وكسرٍ لقوة المظاهرات، تصديقاً لوعود المرتدين من رجال الجيش، وما حدث في "كامب سليمان"، حيث تفاوضوا مع عمر سليمان في نهاية 2011. وقد رأينا طريقة الكتاتني، الذي حاول جهده إرضاء الغرب والعلمانيين، وتمثيل صورة البرلمان على أنه "حِياديّ"، لا إسلامي ولا علماني! على طريقة المشاركة لا الممانعة.
ولعل الإخوان اعتبروا بعدما رأوا الحق عياناً، ولعلنا لا نحتاج إلى تكرار هذا الحديث مرة عاشرة بعد المائة التاسعة! ولعلهم إن كتب الله نصراً أن يسيروا في طريق الحق، لا طريق الإخوان كما عرفناه.
ثانياً: في عهد د محمد مرسى
لا شك، وأكرر ما قلته من قبل إنصافاً وإحقاقاً للحق، وعملاً بقوله تعالى "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، إعدلوا هو أقرب للتقوى" فإن د. محمد مرسى قد خرج على مألوف النهج الإخواني ما استطاع، وما مَكّنته منه ظروف حكمه، مع استصحاب إنه كان "إخوانياً" أولاً وأخيراً. فقد حاول الخروج على السيطرة الغربية، وإعادة القرار المصريّ إلى حاكم مصر، لا إلى حاكم البيت الأبيض. ووقف وقفة شجاعة إلى يومنا هذا، لا يتراجع عمّا يراه حقاً، في وجه قتلة مجرمين، سفلة مرتدين.
لكن غلبت على فترة حكم د. مرسى خطايا الإخوان التي تراكمت قبل عهده بعقود، والتي ذكرنا طرفاً منها. كما وقع د. مرسي نفسه في أخطاءٍ قاتلة أدت بالوضع إلى ما هو عليه اليوم، ومنها
- ترك ميدان التحرير يوم تعيينه، وعدم اتخاذ قراراتٍ ثورية سريعة بالقبض على رؤوس الفتن، وتشكيل محاكم ثورية تقضى في قضايا الفساد في أيام معدودة، ثم تطبيق الحكم بالإعدام على رؤوس الفتنة، فهذا هو حكم الإسلام في أمثال مبارك والعادلي والطنطاوي وعنان والسيسي وشلة الإعلام المُرتدة وصحبهم.
- عدم تكوين كتائب حرس ثوريّ، على غِرار الحرس الثوري الرافضي في إيران، لحماية الثورة، رغم علمه بخيانة الجيش. فإن لم يكن يعلم، وهو الأغلب، فتلك هي الكارثة الكبرى التي تجعل الإخوان أسوأ من حكم مصر، جهلاً بالسياسة وغفلة بالواقع.
- عدم الحسمِ في قراراتٍ كثيرة، مثل التراجع في الإعلان الدستوري، وترك المحكمة الدستورية تعمل بخبثها لتدمير الهيئة القضائية، وترك الإعلام يثفسد في الأرض، بل ويسبّ رأس الدولة ليلاً ونهاراً، على خلفية أنّ "صبره ليس له حدود"! وكانت قمة الغفلة هي تعيينه السيسي، الذي اختار بدوره محمد ابراهيم، سفاحٌ يأتي بسفاح، تحت سمع محمد مرسى وبصره! وغير ذلك من آيات الغفلة والضعف والتراجع.
ولا نسعى هنا لحصر كل ما أخطأ فيه د مرسى، فكّ الله أسره، مع إقرارنا أنْ كانت له بعض القرارات التي كانت تسعى لإصلاح الإقتصاد ومستوى المعيشة في مصر، وموقفه المُشَرّف من غزة وجهاد سوريا، بل نقرر أنّ الأخطاء كانت في مفاصل قاتلة، بينما الصواب كان في أمورٍ تأتي في الدرجة التالية من الأهمية.
(2)
لكنّ المُنصف من دان نفسه، وسألها قبل أن يسألها الله سبحانه، فأطرح هنا سؤالاً، أين كان أهل السنة والجماعة، أصحاب المنهج السَويّ، الذي ندّعيه، إذن، طوال هذه العقود والسنين؟ لماذا يلقون بالتهمة على الإخوان، ويحمّلونهم ما ترَدّت اليه الأوضاع، وكأنهم كانوا في رحلة خارج هذا الكوكب، ثم عادوا ليروا ما نحن عليه الآن؟
هذا سؤالٌ فيه حقُّ وباطل. فاحق أنّ أهل السنة والجماعة كانوا أضعف تأثيراً وأقل عدداً من أن يكون لهم أي دورٍ في مجريات الأحداث. وغذا عجنا بالذاكرة ستة عقودٍ، لرأينا أنّ الانحراف الإخوانيّ مهّد لطهور سيد قطب رحمه الله، والذي بعث في الحركة الإسلامية روحاً افتقدتها الإخوان، مع منتصف الخمسينيات، وعبر الستينيات، ثم اختفت هذه الروح السنية تماماً في الثانينيات، أيام ظهر أمثال عصام العريان على الساحة. وكان أن صاحب التدهور السنيّ الإخواني صعودٌ تدريجيّ لإتجاه سنيّ أصيل، قاده سيد رحمه الله، حتى استشهد على يد الطاغية الملحد عبد الناصر، واعتقلت أيامها تلامذته الذين حملوا لواء السنية بعده وعلى رأسهم الشيخ عبد المجيد الشاذلي والشيخ أحمد عبد المجيد رحمهما الله، والشيخ مجدى عبد العزيز أطال الله في عمره وبقية مجموعتهم.
وكان من جرّاء ذلك أنْ وُضع الإتجاه السنيّ الوليد في المحبس قبل أن يكون له أتباع، كما كان للإخوان أتباعٌ منذ الثلاثينيات. وكان أن قامت خصومة فكرية بين الإتجاهين في السجن، مما حجّم من تأثير هذا الإتجاه، خاصة مع التوجه الإخوانيّ الذي يرفض الرأي الآخر جملة وتفصيلاً.
ثم خرجت مجموعة الشيخ عبد المجيد الشاذلي في منتصف السبعينيات، وبدأت في تكوين بعض الكوادر، وعاونها في ذلك بعض من تأثر يالشيخ سيد قطب، وبسابقه العلامة المودودي، وسار على النهج السنيّ، والتقى بمجموعة الشيخ الشاذلي، مثل كاتب هذه السطور وصاحبه الشيخ محمد عبد الهادي المصري. وكان جهداً مشتركاً في النصف الثاني من السبعينيات، أثمر عدداً من أتباع النهج السنيّ، كما أثمر عددا من الكتب المتخصصة، التي تصلح في مجال طلب لعلم الشرعي لا الدعوة العامة[2]. لكن، جاء اغتيال السادات، وضُربت الإتجاهات السنية بقوة، خاصة الجهادية منها. وخرج من مصر من خرج، واعتُقل من اعتقل، ومنهم الشيخ الشاذلي، مرة أخرى، عقب عودته من السعودية. ثم غير هؤلاء ممن كان له أثرٌ كبيرٌ في الدعوة كالشيخ رفاعي سرور رحمه الله، والشيخ هاني السباعي حفظه الله، وأقرانهما. ثم قيادات الحركة الجهادية كالشيخ الظواهريّ حفظه الله. وهؤلاء هم الجيل الذي أوشك على الفناء. وكلهم، كما يرى القارئ، قد أُخرِج من دياره، أو اعتقل سنوات كُثْرٌ، مما حدّ من أثرهم بشكلٍ كبير.
لكن الشاهد هنا، ولست مؤرخا لتلك الفترة أو لجماعة أو أخرى، أنّ الإتجاه السنيّ لم يحظَ بأي وقت يتمكن فيه من نشر الدعوة بطريقة واسعة، خاصة وأن مقاطعة الديموقراطية والانتخابات البرلمانية كانت، ولا زالت، من ثوابت هذا الإتجاه، إلا ما طرأ على فكر الشيخ الشاذلي في آخر سِنيّ عمره، غفر الله له.
ويجب أن أنبه إلى أننا لا نحسب مُحترفي السلفية وأدعيائها، مثل المرتد البرهامي وصحبه، أو دعاة الفضائيات مثل محمد حسان، على مذهب أهل السنة والجماعة، إلا على قدر ما نحسب على جمعة وخبيث الأزهر عليه. فهؤلاء كلهم محسوبون على لونٍ من النفاق الأكبر، إماً للمال، أو للشهرة، أو لمجرد الردة الصريحة كالبرهاميّ.
إذا، فإنه رغم أني لا أخلى مسؤولية دعاة السنة والجماعة تماماً عن دورهم السلبيّ في الأحداث، إلا إنني، كشاهدٍ على عصره، وكعاملٍ في مجال هذه الدعوة في الأربعة عقود السالفة، أعرف تمام المعرفة أنّ الفرصة لم تكن سانحة يوماً لنشر هذه الدعوة بكلّ تفاصيلها ومركباتها، كدعوة متكاملة الأطراف، وتجميع حشدٍ لها يكفي لترك بصمةٍ قوية على مسرح الأحداث، مع الإعتراف بالتقصير واللجوء إلى الله والتوبة مما كان.
[1] دون التصريح بذلك قطعاً، لكنّ دلالة الفعل أقوى من دلالة القول.
[2] مثل كتاب "حد الإسلام" للشيخ الشاذلي وكتابيّ "الجواب المفيد" و"حقيقة الإيمان" لطارق عبد الحليم، ثم فيما بعد كتاب معالم الإنظلاقة الكبرى لعبد الهادي المصري، وتبعهما عدد من كتب الشيخ الشاذلي وطارق عبد الحليم، كلها تقصد إلى تكوين خلفية سنيّة شرعية، تفقه في الشرع وتفهم الواقع، كما حاولنا في كتابنا "مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم، الصادر عام 1982.