الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أودّ، قبل أن أنشأ في هذا المَقال، أنْ أُبَسِّط أمراً، في دائرة أصول الفقه، أراه لازماً ليستفيد القارئ ما أمكن مما يأتي، وهو يتعلق بأصناف الأحكام التي يخضع لها المسلم في حياته. فالأحكام صنفان، أولها الأحكام الشرعية، ولها شقّان، التكليفية، وهي خمسة، الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام، ثم الوضعية، وهي خمسة، السبب والشرط والمانع، والرخصة والعزيمة، والصحة والبطلان. ثم الصنف الثاني وهو الأحكام العقلية، ويعنى بها الأصوليون ما هو ثابتٌ في العَقل الإنسانيّ من ضروراتٍ لا تتخَلّف، كقولنا أنّ الكلّ أكبر من الجزء، وأنه يستحيل اجتماع الضدين. وتتكون في العقل البشريّ أحكام "عادية"[1]، تربط بين هذين الصنفين وتصبح لازمة من لوازم العقل المنطقيّ.
المُمكن، والمُحتمل، والمقدور عليه
ثلاثة أصنافٍ، تشترك فيها الضرورات العقلية مع الأحكام الشرعية الوضعية، يجب أن يتفهمها الناظر في شؤون الاجتماع وحركة التاريخ، حيث تتشابك معانيها عند الكثير من الناس، مما ينعكس على أحكامهم على الأحداث والأفكار والناس.
فالممكن، هو قسيمُ المستحيل. وذلك يعنى أنّ كلّ ما هو ليس مستحيلاً، فهو ممكن بالطبع. والمُمكنات أكثر من أن تُحصى، إذ هي كلّ ما يَتصور العقل وقوعه، بلا استحالة. ومثيل ذلك أن يطرق باب بيتٍ رجلٌ يقول أنّ قريباً لهم مات وترك لهم وللعائلة مئات الملايين من الجنيهات! وممكنٌ آخر أن أن تشرق شمس الغد على عبد الفتاح السيسيّ، فإذا به يشهد أن لا إله إلا الله حقاً وصدقاً، وأنّ شرع الله لابد أن يسود في بلاد المسلمين، وأنّه قرّر الإفراج عن كافة المعتقلين، وتسليم نفسه للمحاكمة حسب قواعد الشريعة وأحكامها. هذه كلّها من المُمكنات، إذ لا يُتصَور فيه استحالة عقلية. ومثل هذه المُمكنات أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة.
أمّا المحتمل، فهو تخصيص من الممكن بإحتمال الوقوع. فالمُحتمل هو الممكن الذي يتعلق به سببٌ ظاهر. إذ إنّ من تلك الممكنات ما يصاحبه أحوالٌ وأسبابٌ تَرْجُح بها ملابسات تجعلها أقرب للتحقق، وأسهل في تصور الوقوع من غيرها من الممكنات. من ذلك أن ُيقال لمن يطلب وظيفة ويسعى لها أنّ هناك من سيطرق بابه في الأيام القادمة بخبرٍ سارٍ، أو أنْ يقال أنّ استمرار التظاهرات سَيَسْهُم في إسقاط النظام السيسيّ الكفريّ. هذه المُحتملات لها شواهد تجعلها مقبولة في العقل، وقريبة من المنطق. فالساعي للعَمل بجِدّية، سيجد بغيته على الأرجح، والتظاهرات هي بلا شك قلاقل تسهم في زعزعة النظام تجعل سقوط النظام باستمرارها سبب محتمل من بقية الأسباب التي تؤدى لتلك النتيجة.
أمّا المقدور عليه، فهو تخصيص من المُحتمل بما يمكن أن يقوم به المُكَلّف[2]، سواءً كان فرداً أو جماعة. وليس كلّ مُحتملٍ مقدور عليه. بل تتحدّد القدرة على المحتملات بقدرة المُكلّفين، كما تُحْكَم بالأحكام التكليفية، طلباً ونهياً وإباحةً. فمثال ذلك أن يُطالبَ فردٌ بعينه بالإلتحاق بالجهاد، وهو غير قادرٌ عليه ابتداءً. وعدم القدرة هنا إمّا أن يكون عن عجزٍ جسدي طبيعي، وهو المرخّص فيه شرعاً، أو تأهيلي كانعدام الدُرْبَة، فيطالب الفرد بالتدريب، لكن لا يحاسب على عدم الجهاد لعدم القدرة عليه. أو يكون عجزاً نفسياً كالجبن والخوف، وهو ما يوقع في الإثم والحرج[3]. أمّا عن الجماعة، فإنها تأثم كلها إن لم يوجد فيها من يقدر على فعلٍ مطلوبٍ كالجهاد وغيره، إلا إن كان عدم القدرة هنا يختصّ بطبيعة عامة تجعل أفرادها لا يحسنون هذا العمل ابتداءً، كما نحسب أنّ المصريين لا يُحسنون الصراعات المسلحة، أسميه جهاداً أو غير جهاد، إلا المحترفين منهم كأفراد الجيش مثلاً. فهذا الطلب يُعتبر محتملاً لكنه من غير المقدور عليه بالنسبة لهم.
ثم من المقدور عليه ما هو مفعولٌ، وهو ما يثاب عليه الفرد، أو متروك وهو ما يحاسب عليه، فمثال ما هو متروك مع القدرة عليه الدفاع عن النفس ضد العدو الصائل، كما يحدث في مصر من تصدى للرصاص بالصدر المكشوف مع القدرة على الدفاع عن النفس، فهذا واجبٌ مقدورٌ عليه متروك معاقب علي تركه.
والأصل، هو أن يقوم الفرد بكلّ واجبٍ شرعيّ عينيّ كلَّفه به الله سبحانه. ثم يأتي من بعد ذلك أصناف الناس ودرجاتهم في اختلاف القدرات، ومن ثمّ اختلاف طبقاتهم في حساب الآخرة، بين ظالمٌ لنفسه، ومقتصدٌ ومُسارعٌ للخيرات.
وفائدة هذا التصنيف الذي ذكرنا هو تنمية قدرة القارئ المهتم بالشأن الإجتماعيّ والسياسي في بلاد المسلمين على أن يرى الأوجه المتعددة التي ينظر بها الفقيه عادة إلى الأحداث، سواءً على مستوى الفرد أو الجماعة، ومن ثمّ يحكم على أدائه أو أدائها بما يوافق حكم الشرع.
ولعلي لا أكون أعْسَرْتُ على القارئ أمرَه، فليسامحنا، ولنجتهد سوياً في التعرف على أصول النظر، ليكون حديثنا على بصيرة(4).
[1] أي تصبح من قبيل العاديّ المقبول عقلاً ومنطقاً.
[2] المُكَلَّف، يعنى المسلم الذي هو تحت تكليف الله سبحانه.
[3] وهو ما يقع هنا بين أمرين "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"، وتحقق الوجوب العينيّ عليه. والفقيه يحكم حسب الحالات الخاصة، ويكون المطلوب بما هو مقدور عليه، لا بترك الأمر كلية، كأن يجاهد بالكلمة، أو بالمال، أو بكليهما.
(4) كتبت مقالا في 7 يناير 2012 بعوان "الممكن والمحتمل في 25 يناير القادم" فليرجع اليه من شاء
http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-33408