الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
آثر القلم أن يبتعد اليوم عمّا يُرهِق الضمير ويُعيّ العقل ويُحزن النفس، ولو سويعاتٍ قليلة، فأنشأ في حديثٌ يختلف عن متابعة مُجريات الأحداث التي تشهدها مصرنا، من قتل وحرقٍ وتضييع لحدود الله سبحانه. لكنه حديثٌ، مع ذلك البعد، قريبٌ مناسبٌ، تشهده بيوتنا وأسرنا كلّ يوم، بل كلّ ساعة. حديث العلاقة السويّة بين الرجل والمرأة.
(1)
وقد طرقتُ هذا الموضوع من قبل في عدة مقالات سابقة، لكنى اليوم لن أتناوله تناولاً فقهياً، أسرد فيه الأحاديث والآيات، وآتي بالأدلة الشرعية على وجوب طاعة الزوجة لزوجها، أو احتفاء الزوج بأهله. فأحسب أن قرائي الأعزاء، يعرفون ما أتي في شرعنا الحنيف من أسس راسخة يقوم عليها البيت المسلم، في كلّ آن ومكان. بل آثرت اليوم أن أتحدث إلى شبابنا، رجالاً ونساءً، حديث القلب للقلب، والنفس للنفس. حديث من خبرته الأيام وعركته التجارب، حتى بانت له خفيّات العلاقة بين الجنسين، ما يصلحها وما يهدمها، وما يفتقده الرجل في المرأة الصالحة، وما تفتقده المرأة في الرجل الصالح.
وحين نتحدث عن الصلاح هنا، فإننا نتحدث عن نوع من الصلاح، أبعد ما ذهبت اليه الفقهاء في تفسير حديث المعصوم صلى الله عليه سلم عن عبد الله بن عمرو "الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة" مسلم. الصلاح هنا، كما نراه، هو صلاح المرأة للرجل المسلم، وصلاح الرجل للمراة المسلمة. وهو أعم من صلاحهما كمُسلميْن، يؤديان الصلاة والصوم ويحفظا الفرج ويصونا العرض. فالعلاقة بين الرجل وامرأته هي علاقة نفسية، صلاً، تقوم على أسس كثيرة منها القبول الشخصيّ، ثم الجاذبية الإنسانية التي وضعها الله بين الرجل والمرأة، ثم الإحترام المتبادل بينهما، ثم أبعد من الإحترام ذلك الحسّ في الرغبة في التواصل والإجتماع والقرب، وهو ما وصفه الله سبحانه بالمودة، وهي كلمة تحمل في طيّاتها كلّ ما ذكرنا، وتعبر عنه أوفى تعبيرٍ، وأعمق مما تذهب اليه كلمة "الحب"، الذي تعارف عليها أهل الزمان.
حين تُفتقد إحدى هذه الأسس، تهتز هذه العلاقة اهتزازاً، قد يودى بها في كثيرٍ من الأحيان، سواء تمّ الطلاق أو لم يتم، فقد تُفقد المودة والحب في علاقة زوجية، لكن يبقى الإستمرار فيها وليد عدة أسباب منها الخوف من المجهول، خاصة من جانب المرأة، أو الحرص على الشكل الإجتماعيّ، أو الحرص على الأولاد، وكم من بيت أُغلقت أبوابه على زوجين أقرب للعداوة منهما لأي شئ آخر.
والمقصود هنا أن أبيّن أنّ أساس الإختيار، إختيار الرجل للمرأة، وموافقة المرأة على الرجل، يجب أن يكون، قدر الإمكان البشريّ، متقصياً للصلاح من هذه الوجهة العامة، لا من وجهة أنها تصلى أو أنه صاحب لحية، لا غير. صحيح أن ذلك هامٌ أصيل، لكنّ السيكلوجية الإنسانية المغروزة في الفطرة، تريد تآلفاً وتواداً وانجذاباً لا غنى عنه لصحتها وتوافق مزاجها.
على الرجل والمرأة أن يلمح كلاهما في الآخر ما يصلح له فيها، وما يصلح لها فيه، من مزاجٍ وهوايات وتوجهاتٍ، وتوددٍ وكرم خلق ورحابة صدر، وانبساط يدٍ قدر السعة، وفوق كلّ ذلك توافقٌ فطريّ طبعيّ يجعلهما راغبين في القرب. وهي كلها صفاتٌ يجب أن تتوافر في الرجل أكثر مما تتوافر في المرأة، إذ إن الفضل الذي أعطاه الرجل عليها، يملى عليه أن يكون أكثر تودداً، يلقاها بالبسمة، ويحنو عليها بالكلمة الحلوة المؤثرة، يعينها على واجبات البيت ما استطاع، ويقوم بها كلها إن أصابها مرض أو أوجاع، ويُقلّ لومها على ما قد يقع منها على سبيل الخطأ والسهو، وما أسهل على الرجل أن يكسب قلب إمرأة، لو كانوا يعلمون! فالدور أولاً ملقى على عاتق الرجل، إن كان صالحاً لزوجته، والقوامة ليست بإصدار الأوامر والنواهي، لكنها بالقدرة على حفظ استقامة البيت وقيام كلٌّ بدوره المرسوم، برضى وسعادة، لا بتجبّرٍ وتعنّت، وبالتوافق والتشاور لا بالفرض والقهر. هي إذن، والشئ بالشئ يُذكر، سياسة "المشاركة لا المغالبة" التي يجب أن تسود بين الزوجين، لا كما استعملها الإخوان مع كفار هذا الزمان!
ثم المرأة الصالحة "كزوجة"، عليها واجبت كثيرة. وما صلاتها وصيامها إلا طاعة لربها، لا دخل لزوجها بها، إلا أن يحثها عليها، ويأمرها بها إن تخلفت. لكن صلاتها وصيامها لا يجعلها، بأي حالٍ زوجة صالحة إلا إن أحسنت اخيار زوجها أولاً، ثم رعته ثانياً، ثم أطاعته بودٍ ورغبة، من حيث تريد أن ترى ابتسامته، وتحسّ حنوّ كفه على كتفيها، يطمئنها بوده، ويُشعل فيها الرغبة أن تكون في حماه، دائماً، دائماً.
والحكمة في أن الله سبحانه قد جعل الطلاق في يد الرجل، هي ذات المعنى الذي أشرنا اليه، وهو أنه الأقدر على حفظ قوام الأسرة بالتودد والكلمة الحلوة، يلقيها في أذنيّ امراته، فتميل له ميلة واحدة، ولا ترضى به بديلاً.، ومن هذا حاله كان هو صاحب الهيمنة والقدرة الحقيقية في الحفاظ على الكيان الأسريّ، لا من باب الأفضلية المطلقة، فالبشر سواء، رجالٌ ونساء، ولكن من باب أفضلية القدرة الممنوحة وال.
(2)
لكن الأمور، في كثيرٍ من الأحوال، لا تسير على هذا المنوال. وتصل الأوضاع بين الزوجين إلى حدٍ يتجاوز دائرة الحكمين، ويفقد كلّ منهما اهتمامه بالآخر، أو يفقد احترامه للآخر، ثم يصبح كلّ منهما عدوٌ في ثياب شريك. وعندها تستحيل الحياة، وتظهر حكمة الله سبحانه في حِلّ الطلاق أو الخُلع، وجعلهما مخرجاً للرجل وللمرأة على السواء.
والزواج في الإسلام مبنيّ على أساس "إن رضى أقام وإن كره فارق"، وليس زواجا كاثوليكياً، كما يقول شيخ الإسلام بن تيمية. فإن نية التأبيد في الزواج تفسد العقد أساساً، من حيث أنها تقصد إلى تحريم ما أحلّ الله وتبديل أمرٍ غير مشروعٍ وهو التأبيد، بأمرٍ مشروعٍ وهو الطلاق والإفتراق.
فالكيان الأسريّ مرتبطٌ في التصور الإسلاميّ بما ربطه به الله سبحانه وهو شرط استمراره "المودة والرحمة"، فإن انعدما، فقد الكيان أساسه الذي بناه الله عليه، وأصبح استمراره لعوامل ثانوية، لا علاقة لها بالسكن بين الزوجين، إذ ينعدم السكن حالتها.
ومن هنا، فإن الطلاق إن وقع من الرجل، فلا غبار عليه، إن كان يتقى الله فيه، ولا يحلّ له أن يمسك بالمرأة غصباً وضراراً، ظلماً منه وعدوناً. وإن رفض الطلاق، وتعدى حدود الله، والزم المرأة بالبقاء كالأمة تحت يد سيدها، فلا غبار عليها أن تطلب الخُلع، إن كانت تتقي الله في طلبها، ولا تريد إلا إطلاق سراحها، إن وجدت أنها لن تحفظ الله في زوجها، سواءً بكراهة أو عدم طاعة، أو غير ذلك مما يجلب غضب الله عليها. وهذا الذي ذكرنا ثابتٌ موثّق في أيات الله واحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما وقع تفسيره في بعض القرون بما يناسب الزمان، ويراعي العادات والتقاليد.
التقوى إذن، هي ملاك الأمر في طلب الطلاق أو الخلع. فإن كان الرجل تقياً، لكن ظهر عدم صلاحهما معا، وأرادت المرأة الطلاق، فعليه أن يحاول إرضاءها أولاً، وما أسهل ذلك لمن عرف النساء. فإن كان الأمر أعمق من مجرد خلاف، بل وصل إلى فقد المودة والرحمة، فعليه أن لا يضرّها بالإمساك، وأن يكون رجلاً حين يمسك بالمعروف، ورجلاً حين يسرّح بالإحسان. كذلك، المرأة، إن رأت من زوجها نشوزاً أو إعراضاً، لجأت إلى كلّ حيلة في كتاب النساء لإسترضائه، فما نشز الرجل وما أعرَضَ إلا لسبب، ثم تلجأ إلى من هو قريب منهما، من الصحب أو الأقارب، لتجد علة النشوز والإعراض. فإن عجزت، ولم تتمكن من مسايرة هذا الوضع الأسيف، فلها أن تطلب التسريح بإحسانٍ، فإن سرّحها فأمرها لله، وإن لم، فلها أن تخلعه، إن رأت استحالة العشرة.
الشرع يراعي أول ما يراعي، رفع الضَرر عن البشر، رجالاً ونساءً. وليس أضرّ على الكيان الإسريّ، بل وعلى الأولاد الذين هم مقصد الشريعة من النسل، من أن يتعاشر الزوجان كرهاً، وأنْ يكون محضن الذرية محضن شجارٍ دائمٍ وعراكٍ مستمر.
أما وقد وصلنا إلى هذه النقطة من حديثنا، فإننا نعرف ما قد تلاقيه المرأة المسلمة، التي وجدت نفسها بين خيارين، أحلاهما مرُّ، أن ترضى بما "قسم الله لها"، كما يزين لها "أولاد الحلال" من معارفها، فتصمت على كَرْه، وترضى بالحياة الكريهة البائسة، أو أن تطلب الطلاق، أو الخلع، وتصبح سيرتها على كلّ لسانٍ، أنها "طليقة"، وكأنها وصمة عار!
هذا العرف هو من أسوأ التقاليد التي يعاني منها مجتمعنا الأسريّ، وهو ما يجعل المجتمع بئيساً حزيناً غاضباً، فلا تكاد ترى ابتسامة مرسومة على شفة رجل أو امرأة في أي مكان. الطليقة هي إمرأة، إن كانت ممن يتقين الله، من العفيفات الصالحات، إمرأة مطلوبة مرغوب فيها، لا يجب أن يلتفت عنها الرجال، ولا أن تشمت فيها النساء. بل الأصل أنها امرأة، إن كانت ممن يتقين الله من العفيفات الصالحات، لم ترضى بحياة ذليلة مهينة، أو إنها رضيت قرار زوجٍ لم يستطع عشرتها بالمعروف، ولم يكونا "صالحين بعضهما لبعض"، وإن كانا صالحين كلاهما، لا أكثر ولا أقل.
(3)
هذا الحديث بذاته يدفعنا إلى أن ننتقل إلى التعدد، الذي جعله الله سبحانه أمر مستحبٌ، مندوبٌ اليه، وليس مباحاً كما يعتقد البعض، إذ إن تكابق فعل الصحابة والتابعين وتابعيهم عليه يرفعه إلى رتبة الندب لا الإباحة، إن استوفى شروطه وانتفت موانعه.
وشرع التعدد، هو العلاج الأمثل لمثل تلك المُعْوَجات الإجتماعية التي نعاني منها، كالنظرة إلى الطليقة. والله سبحانه ما شرع حكماً إلا وقيده بشروط وحدّه بموانع، ليضمن أن يقع على وفاق قصده سبحانه في التشريع، لا على مزاج المرء، الذي قد يتلاعب به، كما يتلاعب الناس في قضية المُحلل مثلاً.
والتعدد هو من الأمور التي أصبحت في مجتمعاتنا "الحديثة" مرفوضة، بل ملعونة. وساعد على ذلك تأثّر المسلمين في شرقنا بالبيئة النصرانية التي يجاورونها في الأرض، بحكم المواطنة. كما ساعد على تلك النظرة الرافضة، تسرب العلمانية إلى العقلية المسلمة خلال القرن الماضى، وشيوع ما شَاع من قضية "تحرير المرأة"، التي لا ناقة للمسلمين فيها ولا جمل. كما تعاونت عليها الفطرة النسائية التي تتأصل فيها الغيرة وكراهة "الضُرّة"، مع ضعف الإيمان، واستمراء التحلل من الشرع.
من الواجب على المسلم والمسلمة أن يعيا قضية أساسية في التصور الإسلاميّ، وهي أنّ الله سبحانه ما طلب أمراً، طلب إيجاب أو ندب، إلا وفيه صالح للناس يربو على مفسدته، وما نهى عن أمرٍ، نهي كراهة أو تحريم، إلا وفيه ضررٌ للناس يربو على مصلحته. وهو تعريفٌ للوجوب والتحريم بيّناه في مقال لنا، وشرحناه في كتابنا "المصلحة في الشريعة الإسلامية"[1]. من هنا، فإنّ حِلّ التعدد، فيه نفع أكبر من ضرّه، بلا شك. إنما الأمر في إدراك مناحى المصلحة فيه، ثم التسليم بما شرع الله إيماناً بمطلق حكمته، وإن لم ندركها، كلها أو بعضها. فالنفع والضرّ نسبيان، وقد يكون ضرراً من جهةٍ هو نفع عميمٌ من جهة أخرى. والله سبحانه لا يبنى سننه الكونية على أساس مزاج هذه المرأة أو تلك، أو رغبة هذا الرجل أو ذاك، بل يبنيها على النفع العام، وإن وقع في طريقِه ضَررٌ محدود، كمّاً وكيفاً.
الحديث هنا لشبابنا، فتياناً وفتيات، رجالاً ونساءً، أنْ تَمَعّنوا في حكمة الله الشرعية والكونية. واعلموا أن الحياة بينكما أساسها المودة والتراحم، فإن فُقِدا، فُقِدَ مقصد الشارع في إقامة العلاقة بينكما. فحافوا على تلك المودة والتراحم والحب. وإلا فإنّ لكم في المعروف والإحسان سعة، وسيغنى الله كلا من سعته.
[1] http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-70583 ص 43.