الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
الجزء السادس
قبل أنْ ينصرف بنا الحديث عن مفهوم "الجهاد"، وهو النقطة الثانية التي انحرف فيه الفكر الإخوانيّ، وأدت لظهور حركات خرجت عن النهج السُنيّ الوسطيّ كما ذكرنا، أود أن أؤكد على ما ذكرته من أنّ مناط الحركة الصحيحة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتكييف الشرعي للقوى المغالبة، وهي النقطة التي فشل الإخوان، بل جبنوا، عن أن يتصدوا لها، فكان أن أودوا بنا إلى ما نحن فيه اليوم.
ما أريد أن أبيّنه هنا أنّ الفئة العسكرية السيسية، وداعميها ومفوضيها، ليست فئة باغية كما يروّج جاهلي الإخوان، فالفئة الباغية هي التي تحارب خصومها على السلطة السياسية والإستيلاء على الحكم في إطار الحكم بالشريعة بعد الإستيلاء عليها، لا بالخروج عليها، لكن هذه الفئة العسكرية السيسية وداعميها ومفوضيها يحاربون على السلطة السياسية والإستيلاء على الحكم بهدف إقصاء الشريعة وتدمير الإسلام والخروج على الإطار الإسلاميّ بالكلية. وقد يظهر للمتعجل أنّ الإشتراك بين الشكلين من الصراع على السلطة السياسية والإستلاء على الحكم، يجعل حكمهما واحدا وهو البغي، وهو خطأ لا يقع فيه إلا العوام. فالشكلين من الصراع على السلطة يختلفان كلية من الوجهة الشرعية والعقدية، سبباً ونتيجة.
(8)
أما الحديث عن "الجهاد" فأود أن أشير إلى أنني اتناول هنا الجهاد الذي يندرج تحت حكم "دفع الصائل" في بلادنا العربية والإسلامية، لا الجهاد بمفهومه العام كجهاد الطلب، إذ الحديث عن هذا اللون من الجهاد في أيامنا هذه عبثٌ لا طائل تحته.
وقد يتوهم البعض أنّ الصائل لا يكون إلا غريباً محتلاً. والحق أن الصائل هو كل من صال على الآمنين في ديارهم، فروَّعَهم وسلب مالهم وقتل أنفسهم وخرب ديارهم. وأفحش الصائلين هو من أضاف إلى ذلك منعهم من أداء دينهم وإقامة شرائعهم، سواء كان معتدٍ خارجيّ أو مقيمٌ داخليّ.
وهذا التعريف، الذي لا يفرق بين المقيم والغريب، يمكن استنباطه بطريق تنقيح المناط [1]، إذ الوصف الذي جعل الصائل صائلاُ، إن حررنا مناطه كما في أصول الفقه، لم يكن لوصف الإقامة وكونه من أهل الديار أو غريب عنها أثرٌ في علة هذا الحكم.
إذن فنحن نتحدث عن صائلٍ عسكريِّ كافرٍ بضباطه وجنوده، مدعوم بفصيل شعبيّ مرتد. وهذا الصائل يجب قتاله وقتله، قيادة وضباطاً وجنوداً محاربين، بلا خلاف، وجهاده واجبٌ على القادر بلا خلاف.
الأمر اليوم هو التمكن من القتال، وإعداد العدة له أفراداً وعتاداً. فإن أي وسيلة أخرى لن تجدى نفعا. القوة المشركة هائلة بالنسبة للشعب المسلم "المسالم". وآلة الحرب التي تستوقى بها شديدة البطش. والشخصية العسكرية، سواء في الأمن أو الجيش، شخصية معقدة، جاء غالبها من أحطّ الأوساط الإجتماعية، ثم نُشِّأَت على الإجرام وعدم الضمير والبعد عن الدين، وكراهية الغير عامة. فهي شخصية لا خير فيها ولا مجال للتفاهم معها، فهم جند فرعون بكل ما تحمله الجملة من معنى.
ويسأل سائل "إذن لماذا اعتبرت أنّ جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية كانا على خطئ بيّن فيما فعلوه من قبل"؟ ونقول، الفرق جدُّ كبير. فإن مناط الحالين مختلف إختلافاً بيّنا. إن من اعتبر الجهاد فرض عين على كل مسلم آنذاك إنما اعتبر الحكم الشرعي، أو المناط العام النظريّ. فالقول بأن الجهاد فرض عين على كل مسلمٍ لا ينشأ عنه أن كل مسلم سيقوم بالجهاد بالفعل، بل فرض هذا هو فرضٌ نظريّ لا مراعاة فيه للمناط الحقيقيّ الواقع، وهو أن غالب المكلفين بالجهاد لم يحرجوا له. وقد كان الشعب وقتها غيرَ مؤهلٍ لأن يدعم جهاداً، ولم يخرج منه أحد لدعم العملية الجهادية لأسبابٍ عدة.
ولا شك أن الإحجام عن الجهاد في وقت طلبه إثم كبيرٌ، إلا إنّ ذلك كان هو الحال والمناط وقتها في الثمانينيات. وإنما يجب على الفقيه أن يعتبر المناط الخاص أو الفتوى. فحين خرجت جماعة الجهاد أو الجماعة الإسلامية، خرجتا دون دعمٍ ولا استعداد لمواجهة حقيقية، خلاف الحالة في أفغانستان على سبيل المثال. والجهاد كالصلوات الخمس والزكاة والحج، له شروط وموانع، إلا إنه يختلف عنهما في أنه عمل جماعي مثل صلاة الجمعة، إن لم يصل العدد إلى حدٍ معينٍ لم تجب على الفرد. أمّا اليوم، فإن جمع غفيرٌ من الشعب، وهو ذلك القطاع من الشعب الذي بقي على إسلامه، قد أدرك، بوقائع الإحداث على الأرض، ما لم يكن ممكنا أن يدرك في قرونٍ من التعلم النظريّ، وصار مستعداً لدعم حركات جهادية داخل أرض مصر لإستراداد حقه المغتصب. وإنه لا شك أن الخراب الفكريّ الإخوانيّ لا يزال يعمل عَمله في عقول الناس بحديث "السلمية" ومنهج "سلميتنا أقوى من الرصاص"، وأن طريقنا هو الديموقراطية، إلا أنّ الأحداث ستتجاوز هذا الفكر العفن سريعاً إن شاء الله.
لكن هذا لا يعنى استعداد الشعب المسلم اليوم للقتال. فإن كثيرا من هذا الشعب لا يزال لا يعي معنى الخلل الديموقراطيّ، ولا يعي معنى النهج السلميّ كمنهج دعوة، إن صلح كتكتيك قريب المدى، فإنه لا يصلح كمنهجٍ للتغيير.
ومن هنا فإننا نسعى في هذه السلسلة لأن نجد الطريق لتعديل المسار الحاليّ، الذي خَطّه الإخوان، بما شَاب دعوتهم من انحراف في إدراك واقع الإسلام والكفر من ناحية، ودعوة السلمية والتخلى عن جهاد نظام السيسي الكافر العلماني كطريقٍ يُنتهج.
(9)
الواقع المصريّ إذن، إذا اعتبرنا كلّ المعطيات التي تحدثنا عنها، لا ينبؤ بتغيير مرتقبٍ سريعٍ على الأرض. فقوة التظاهرات الحالية تتضاءل يوماً بعد يومٍ، والعنف والبطش العسكريّ السيسي ترتفع وتيرته. ومظاهر الكفر تعلو كلّ يوم في كافة أنحاء البلاد من إغلاق مساجد وطرد أئمة واعتقالات وقتل وتخريب. وما نراه مؤخراً من محاولة لطرد أهل سيناء من أراضيهم لتصبح حزام أمانٍ لإسرائيل بطولها وعرضها، وهو ما يعيد سيناريو الإجلاء الصهيوني للفلسطينيين إلى الأذهان.
إن الدعوة إلى التظاهرات دعوة مشروعة لا غبار عليها، بل إن استمرارها بكثافة ضرورة لعرقلة جهود الكافرين، إلا انها لن توصل لحل الأزمة التي وضعنا فيها الإخوان، بتقاعسهم عن الخروج مرات، قبل استلامهم السلطة، وتواطئهم مع العسكر مرات، وانتهاجهم الديموقراطية التي كفر بها أولياؤها، إذ صنعوا منها إلها من العجوة، ركع له الجميع، بمباركة الإخوان، ثم من صنعها أكلها حين لم تفي بحاجاته، وظل الإخوان، ومن تابعهم يعبدونها إلى يومنا هذا!
هذه الديموقراطية التي رفضها مؤسس الإخوان حسن البنا رحمه الله، في رسالته "مشكلاتنا في ظل النظام الإسلامي"[2] في حديثه عن النفاق العالمي وأنهم يتحدثون "...باسم الشيوعية أو الديموقراطية، وليس وراء هاتين اللفظتين إلا المطامح الإستعمارية والمصالح المادية في كل مكان"، ويقول "ولو أخذنا بالحزم وأعلناها صريحة واضحة: أننا معشر أمم الإسلام لا شيوعيون ولا ديمقراطيون ولا شئ من هذا الذي يزعمون، ولكننا بحمد الله مسلمون"
وهذا الكلام حجة على إخوان اليوم الذين خانوا إمامهم وعهدهم وساروا وراء الزيف الديموقراطي، وشوّهوا عقول الكثير من الشباب، وتسببوا في قتلهم وضياع ثورتهم. نصل إذا إلى السؤال الذي يحيّرنا جميعا، وهو ماذا نحن إذا فاعلون؟
[1] وتحقيق مناط هو صورة من مسالك العلة بنفي الفارق، انظر إرشاد الفحول للشوكاني ج2 باب مسالك العلة، المسلك العاشر.
[2] وهو كتاب جدير بالقراءة والنظر، ففيه الكثير من الفائدة.