فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      بعد أن انقشع الغبار ..! 4

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

       الجزء الرابع

      (5)

       أما عن صنيع الإسلاميين أنفسهم وحصاد فكرهم المُرّ، وما جنته أيديهم في الوصول بواقعنا إلى ما هو عليه، فهو حديثٌ ذو شجون.

      ذكرنا أنّ الهجمة الثقافية العلمانية الملحدة أنبتت ردة فعلٍ إسلامية تمثلت في شخصياتٍ عامة تدافع عن الإسلام، وفي ظهور جماعة الإخوان المسلمون. لكنّ الظروف العامة التي تكونت فيها الجماعة، وهي باختصارٍ قُربها عهداً بسقوط الخلافة ووجود دعوات قوية لإعادتها، ووجود الإستعمار البريطاني والملكية ودورهما، ثم بعض الإنتماءات الفكرية لمؤسسها حسن البنا رحمه الله، خاصة في الإطار الصوفيّ، كل هذا أدى إلى أن خرجت جماعة الإخوان في عَهدها تمثل اتجاهاً لا يُنَاهِض، بل يُصَالح، وبتعبير آخر خرجت في صورة جماعة إصلاح لا جماعة تبديل أوتغيير [1].

      ثم، دفعت الظروف المتبدّلة هذه الجماعة إلى تكوين جناحٍ عسكريّ وتنظيم سري بعد أن ألجأها الواقع إلى ذلك الإجراء، وقامت بجهادٍ مشرّفٍ في حرب فلسطين في 48، حتى أنهي الهالك جمال عبد الناصر دورها وأعدم عدداّ من رموزها واعتقل عشرات الآلاف من أعضائها. تم تنظير الرؤية الفقهية للجماعة، تحت تأثير الواقع السياسيّ، في الستينيات، بخروج دستورها "دعاة لا قضاة".

      وكان السمت الأساسيّ لهذه التنظير هو امتدادا للوجهة الإصلاحية في البعد سياسياً، وإرجائياً صوفياً في البعد العقديّ. انتقلت قيادة الإخوان بعد هذه الفترة إلى الجيل الثاني الذي أشرنا اليه، وأخذ الراية جيل العريان والكتاتنيّ وعبد المنعم عبد الفتاح، وتمثلت في توجهاتهم كلّ أوليّات هذين التوجّهين السياسيّ الإصلاحي والعقدي الإرجائي الصوفي. وقد فصلنا القول في هذا الأمر في العديد من كتبنا ككتاب حقيقة الإيمان" الذي أصدرناه عام 1978 كرد شرعي تأصيلي على كتاب "دعاة لا قضاة"، وفي مقالاتنا، فلا داع للإعادة.

      كان من نتيجة ذلك التوجّه أن سارت التربية الإخوانية تقوم على مبادئ عامة، وإن كانت غير مدونة:

      نبذ فكرة الجهاد المسلح بالكامل، واقصائها حتى من أدبيات وفكر هذه الجماعة. التعامل مع الحكم بغير ما أنزل الله كأنه معصية، ومن ثم الرضا به كواقعٍ نعمل على "إصلاحه" لا "تبديله".

      التعامل مع الكفار من الحكام على أنهم مسلمون عاصون باغون، فحادوا عن مفهوم التوحيد وضرورات التصور الإسلاميّ، الذي ينص في مسلماته على كفر الحاكم بغير ما أنزل الله تشريعاً وتقنيناً، واختلط عليهم الحاكم العاصي الذي يحكم تحت مظلة الشريعة وإن مارس الظلم والعدوان على الحدود، وبين الحاكم الذي يُشرّع من دون الله تحت مسمى الديموقراطية أو الحداثة أو ما شئت من تلك الأسماء.

      أنتج هذا التوجه العقدي السياسيّ جيلاً مشوهاً من الشباب، يتبع قيادات مشتتة الرؤية، منحرفة العقيدة. لكنّ الأخطر، ما استثمرته الأنظمة الكفرية التي تعاقبت على الإخوان، أو تعاقب عليها الإخوان، هما مفهوميّ "التكفير" و"الجهاد".

      أما "التكفير" فقد عاملته الإخوان وكأنه أمرٌ انتهى منذ فتح مكة، فلم ولن يكفر أحداً بقولٍ أو عملٍ ما دامت السموات والأرض! وقرنوا، بمباركة الأنظمة الكافرة العسكرية، التكفير بالخوارج. وهو انحراف عقديّ وخلل فقهيّ خطير. فالحكم بالكفر على فاعل الكفر إنما هو حكم فقهيّ شرعيّ باقٍ ما بقيت السموات والأرض، له شروطه وموانعه المعروفة في أبواب الردة في كافة كتب المذاهب.

      أمّا "الجهاد"، فقد تبرأ منه الإخوان، سيراً على هوى النظم الكفرية، ومتابعة لهجمة الغرب، الذي قَرَنَ الجهاد بالإرهاب. فخلت تربية الإخوان من أي إشارة للجهاد، بل ورفعوه حتى من شعاراتهم التي تبنوها عقوداَ عدة. وكان من جراء هذا الإنحراف في فهم وتقييم وتطبيق هذين المفهومين، ما رأيناه في أعقاب حركة 25 يناير 2011 من قيام وسقوط حكم الإخوان. فهم يتحملون، من جؤاء هذا الإنحراف، مسؤولية الدماء التي أريقت والعلمانية التي سيطرت، شراكة مع العسكرية السيسية الملحدة. ولا تزال قيادات الإخوان، حتى يومنا هذا، يصرّون على هذا النهج العقديّ المنحرف، وعلى نبذ فكرة الجهاد بالكلية، وعلى أنّ السيسي وجيشه وشعبه "إخواننا بغوا علينا!"، وهو ما يجعلهم عالة على عملية التغيير في مصر والعالم العربيّ، من حيث لا يصلحون قيادة الأمة، لا سياسياً ولا عقدياً، وإن استطاعوا اكتساب تأييد العوام لضحالة فكر العاميّ ابتداءً. وقد رأينا ما آل اليه هذا التوجه الإخوانيّ على الأرض فلا معنى للإطالة.

      (6)

      ثمّ إن ذلك التوجّه الإخوانيّ، عقب محاكمات 65، وإعدام سيد قطب ومحمد يوسف هواش وعبد الفتاح اسماعيل رحمهم الله، في قضية تنظيم 65، والتي تولي رئاسة محكمتها العسكرية اللواء الدجوي أحد أخسّ الشخصيات العسكرية في التاريخ المصريّ، ظهرت ردة فعل لذلك الإنحراف العقديّ السياسيّ، خاصة في مفهوميّ "التكفير" والجهاد".

      وإن من طبيعة ردود الأفعال عدم الإتزان والبعد عن الوسطية، وهو ما أطلقتُ عليه "نظرية البندول". فظهرت جماعة "التكفير والهجرة"، كرِدّة فعل على الخلل في مفهوم "التكفير" كما ظهرت جماعتي "الجهاد" و"الجماعة الإسلامية" كرد فعلٍ على الإنحراف في مفهوم الجهاد لدى الإخوان. وقد انتهى أثر جماعة التكفير والهجرة سريعاً بعد إعدام زعيمها مصطفى شكري في السبعينيات. أمّا جماعتيّ الجهاد والجماعة الإسلامية فقد نفّذوا بعض العمليات الصغيرة التي لم تُسْفِر عن أية نتيجة على الأرض، إلا عملية قتل السادات، التي نفّذها أربعة من تنظيم الجماعة الإسلامية. وقد أعدم بعدها المُنفذون ومعهم محمد عبد السلام فرج صاحب كتاب "الفريضة الغائبة" ومنظّر جماعة الجهاد.

      وقد كان من نتيجة "نظرية البندول" أن تراجَعَ أعضاء الجماعة عن اتجاههم، لكن بانحراف جديد عن الخطّ السنيّ الوسطيّ الصحيح. وكانت مهزلة التراجعات التي دونها سيد إمام، والتي أطلق عليها "المراجعات" أو "وثيقة ترشيد الجهاد"، ثم وَضُحَ الخَلل عملياً حين تبنّت الجماعة العملية السياسية والإنخراط في لعبة الديموقرطية والبَرلمانية العوجاء، ونبذت الفكر الجهاديّ تماماً وتبرأت منه. وظهرت بشاعات الإنحراف الجديد في أقوال وتصرّفات العديد من قادة هؤلاء ككرم زهدي والساقط ناجح إبراهيم، وعبود الزمر وعاصم عبد الماجد وعدد من قادتهم ممن أصبح ممارساً للعلمانية السياسية وتعدى في انحرافه النهج الإخواني.

      أمّا عن السلفيين المنزليين، فهم بقية المدرسة المَدخلية الإرجائية البدعية، وعبيد آل سعود، وقياداتها، مثل العاهر البُرهامي والخائن المخيون، قد تربّت في أحضان أمن الدولة وبمباركته. وقد كان ظهورهم على مسرح السياسة كارثة على الحركة الإسلامية. وهم اليوم ديكور السيسي في حكومته ولجانه ودستوره الكفريّ.

      تلك هي الحركة الإسلامية، باختصارٍ شديدٍ، في ماضيها الذي انعكس على حاضرها وحاضرنا جميعاً. ثم إنّ تقييم هذا الواقع الحاضر في يومنا هذا وإمكانية الحركة فيه، وإدراك أبعاد الحركة الإسلامية اليوم وإمكاناتها المتاحة، هو سبيل استشراف المستقبل، ورسم الخطى للسالك في طريق الهداية ومدراج النصر.

      وهو ما سنحاول تناوله في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.  

      [1]  راجع بالتفصيل في هذا الموضوع مقالنا بعنوان "الإخوان المسلمون في نصف قرن" http://tariqabdelhaleem.com/new/Artical-121