فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      بعد أن انقشع الغبار ..! 3

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      الجزء الثالث

       قلنا فيما سبق أن "من تلك العوامل التي أودت إلى فشل الجولات المتعاقبة في مواجهة الباطل ما هو صُنيع "الإسلاميين" أنفسهم، ومنها ما هو مكر أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم". وتفصيل هذه الجملة فيما يلي.

      (4)

      أما عن مكر أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم:  فإن الهجمة على العالم العربي المسلم ليست وليدة العقود السابقة، بل بدأت منذ تدهور الدولة العثمانية، الذي أدى إلى الحملة الفرنسية، وما تبعها من تسرب العلمانية إلى التعليم والقانون وإنشاء المحاكم المختلطة، بل حتى المشايخ لم يسلموا من آثارها كرفاعة الطهطاوى وخير الدين التونسيّ. ثم أعقب ذلك زلزال الحرب العالمية الأولى ثم سقوط الخلافة، وأعقبها تحقيق معاهدة ساسكس بيكو على الأرض.

      ولم يكن أثر الإستعمار العسكريّ هو الحاسم في عملية التحول العلمانيّ، لكن كان الغزو الثقافي هو الذي حسم أمر التوجه العلمانيّ في أنحاء العالم الإسلاميّ، خاصة في مصر ولبنان، حيث فازت مصر بنصيب الأسد من تلك الهجمة الثقافية. ظهر الغزو العلمانيّ لمصر على مسرح الحياة السياسية متمثلاً في الأحزاب العلمانية كالوفد، وعلى رأسه سعد زغلول العلماني المَحض، وظهرت الأحكام الوضعية في ساحات القضاء ومراجع القانون، وعلى المسرح الإقتصاديّ متمثلاً في إنشاء بنك مصر وعلى رأسه طلعت حرب، وفي المسرح الثقافي والتعليمي الذي قاد كِبْرَه الملحد طه حسين ومن قبله أحمد لطفي السيد. بل غزا الأثر العلمانيّ المؤسسات الدينية بتأثير الشخصيات الماسونية كجمال الدين الفارسي (المعروف بالأفغانيّ)، وتلميذه محمد عبده، الذي كان رأس المحفل الماسوني الشرقيّ[1].

      ولسنا نحكي هذا التاريخ من باب السرد، فكتب التاريخ متاحة لمن شاء، لكن لبيان أنّ هذا التوجّه قد انعكس على العقلية المسلمة، بفعل التعليم، الذي تحوّل في الأوساط الراقية، والتي يتخرج منها طبقة الحكام عامة، إلى تعليماً أجنبياً في الليسيه والكليات الفرنسية والإنجليزية، وبتأثير "الفن" الذي نشأ في مصر في العشرينيات، وظهرت "نجومه" على شاشات الخيّالة، وفي كباريهات شارع محمد على أولاً ثم شارع الهرم لاحقاُ.

      تسرب الفكر العلمانيّ إذن، بشكلٍ واسعً، بين أبناء الشعب، على غفلة من أبنائه. وكان الجانب الآخر في هذه المعادلة هو غبش الفكرة الإسلامية واختلاط التصور الإسلاميّ في العقول، مما ترك الدين في قلوب الناس وسحبه من عقولهم. فتغلبت الأفكار الصوفية وكانت محضناَ ملائماً للفكرالعلمانيّ الذي يفصل بين الدين والدنيا، كما هو في المذهب الصوفي الكفريّ[2].

      لكن هذه الهجمة لم يُمَكَّن لها دون مقاومة البتة. فقد ظهرت شخصيات عامة، سياسية وأدبية تقاوم، بشكلٍ أو بآخر، هذه الإتجاه الثقافيّ المدمّر، حيث اختلطت وقتها الفكرة العربية بالفكرة الإسلامية[3]. إذ من طبائع الصراع الثقافي أن ينشأ في خِضَمّه اتجاهان، يتصارعان بين القديم والجديد، وبين موروث الماضى ومعطيات الحاضر. وقد كان، في حالتنا هذه، الجديد هو العلمانية المقيتة التي حاول تزيينها أصحابُها، فقط لأنها جديد في مقابل قديم موروث، هو الإسلام!

      ونحن هنا نرصد جيلين متعاقبين، أحدهما ممن ولد بين عشرينيات القرن الماضى، وحتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، والآخر ممن وُلد بعد الحرب إلى السبعينيات من ذاك القرن. وكلا الجيلين قد انقسم بين هذين الإتجاهين، بدرجات مختلفة وظلال متباينة.

      كان الجيل الأول هو الأكثر تأثّراً بالتغيير الثقافيّ الذي تسرّب على غفلة، فإذا بغالبية أبنائه من "الوطنيين" ينتمون لحزب الوفد العلمانيّ دون وعيٍّ أو تمييز لعلمانيته تلك. وكان هذا الإنتماء مفخرة لكثير من شباب ذلك الجيل المنكوب ثقافيا وعقدياً.

      ثم كان القسم الآخر، الذي مثّل المُضاد "الإسلاميّ" والذي تَمَثَل، كما ذكرنا، في شخصيات عامة، كما تمثّْل في حركة إسلامية وليدة آنذاك هي حركة "الإخوان المسلمون". وقد وُلِدت هذه الحركة في ظروف تاريخية فريدة، بين سقوط الخلافة والإستعمار العسكريّ والهجمة الثقافية الشرسة، مما شكّل فكرها بطريقة معينة، ورَمَتْ بخَلَفِها خاصة في يد الإرجاءالعقدي[4] كما سنبين بعد.

      ونلمح في هذا القسم من الجيل غياب شبه تام لمفهوم التوحيد الخالص، في الحياة اليومية في كافة مناحي الحياة. ثم كان الجيل التاليّ، والذي انقسم إلى كتلة سارت على خطى القسم الأول من الجيل السابق لها، فتشبّعت بالفكرة العلمانية، دون وعيّ منها، ورسخت فيها مبادئ تضاد التصور الإسلامي، وكان وجودها امتداد طبيعي للجيل السابق وموروثه النكد. وهم اليوم من يؤيدون السيسيّ ويرضون بحكمه، نفاقاً أو استسلاماً أو سكوتا وإعراضاً، وهم الذراع الحقيقي الذي تستند عليه القوة العسكرية الغاشمة.

      وكتلة استشعرت الخطر الماحق، دون أن ترى تفاصيله، فبقت على حب الله رسوله، وعرفت بفطرتها خُبث ما يراد بها، وهم أولئك الذين ملؤا رابعة والنهضة وقدموا شهداءهم فرحين مغتبطين. إذن تمخّض هذا الجيل عن قسمٍ تمرد على تلك الثوابت المُنحرفة، منه تلك الكتلة التي ذكرنا من العوام، ومنه امتداد ما سبق من حركات، فكان أن واصلت حركة الإخوان طريقها، فواجهت الطغيان الديكتاتوريّ المُتمثل في الهالك عبد الناصر لعنه الله، لكن بمفهومٍ وتصورٍ لم يناسب الواقع، كما سنبيّن،

      كما ظهر جمعٌ أدرك غياب التصور التوحيدي عن ذهن الأمة وعقلها وروحها، علماً وعملاً، فاتخذ منحى إيضاح هذا التصور بجلاء وصفاء، وكان على رأس هؤلاء الأستاذ سيد قطب، شهيد ذاك الجيل، الذي ما تحرك في هذا الإتجاه إلا عقيب الحرب العالمية الثانية، رغم انتمائه للجيل الأول الذي ذكرنا. كما ظهرت، كردود فعلٍ للتصورات الإخوانية ، تيارات ألقت بها السذاجة السياسية في اتجاه الجهاد دون رَوِيَّة أو دراسة أو استعداد، مثل الجماعة الإسلامية على وجه التحديد.

      من هذا الجيل الثاني، تكونت القيادات الحالية للمُرَكَّبْ الإسلاميّ في أيام الناس هذه، بدءأ بمحمد بديع وخيرت الشاطر ومحمد البلتاجي وحازم أبو اسماعيل، إلى الشيخ رفاعي سرور رحمه الله والشيخ عبد المجيد الشاذلي شفاه الله، ومن زاملهما.

      هذا ما أدى بنا إلى الموقف الحالي الذي تصطفّ فيه قوتان، قوة عسكرية هائلة بلا ضمير، ومعها شعبٌ كفر بالله وبرسوله، وخرج من أحضان أمته، ووقع في حجر العلمانية الشيطانية. وهؤلاء يقفون بالمرصاد لكل من تُسَوّل له نفسه الخروج على مسارهم الكفريّ. وشعبٌ أعزلٌ مُسالمٌ، يحب الله ورسوله، لكن لا يعرف جهاداً ولا يقدر عليه، يخرج في تظاهراتٍ "سلمية" وسلاسل بشرية تتخوّف[5] أعدادها كلّ يوم. نعم، ما حدث في رابعة والنهضة كان عملاً اسطورياً غير مسبوق في التاريخ الحديث، يبين بوضوح مدى محبة الأمة المسلمة لدينها واستعدادها للتضحية.

      لكن هذه الروح وهذا الإخلاص يحتاجان إلى أدواتٍ تنقلهما من عالم الضمير والمشاعر الى واقع محسوسٍ على الأرض، يكافح ويغالب، يَقْتُل ويُقْتَل. فالحق أن السلمية ليست أقوى من الرصاص. بل الرصاص أقوى وأشد أثراً. إنما الغلبة لمن يطلقه.

      إنّ الواقع الحاليّ لن يفرز نصراً إلا في حالة واحدة، أنْ ترى عناصر من الشعب أن الكفاح المسلح هو الطريق لمقاومة الإحتلال العسكريّ، فتتحرك في هذا الإتجاه بالتوازي مع المظاهرات السّلمية والسلاسل البشرية. ثم أن يستمر الضغط الشعبيّ مع العصيان المدني الكامل من قِبَل الشعب المؤمن. وهو أمرٌ لا أرى أنّ الفرصة متاحة له اليوم.

      ولابد هنا أن ندرك أنّ القوى العسكرية الغاشمة لن تتنازل ولو انهار الإقتصاد كلية. بل على العكس، فإن العسكر وأمراء الحرب تقوى قبضتهم في ظل الأزمات الإقتصادية الطاحنة، كما نرى في دول إفريقيا وأمريكا الجنوبية.

      أما عن صنيع الإسلاميين أنفسهم وحصاد فكرهم المرّ، وما جنته أيديهم في الوصول بواقعنا إلى ما هو عليه، فهو موضوع الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

       [1]  راجع في تفاصيل هذا الأمر رائعة الدكتور محمد محمد حسين "الإسلام والحضارة الغربية"

      [2]  وقد كان أبي، رحمه الله وغفر له، يصطحبني، في الخمسينيات من القرن الماضي، لحضور جلسات صوفي شاذلي عتيق اسه أحمد كامل الملطاوى، وكان وكيلاً لوزارة المالية، ويا لله من الخزعبلات التي كنا نسمعها في تلك الجلسات، مما عافتها نفسي منذ الصغر.

      [3] راجع تفصيل ذلك في كتاب "الإتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" محمد محمد حسين، خاصة الجزء الثاني منه.

      [4]  راجع مقالنا التفصيلي في هذا الصدد بعنوان "الإخوان المسلمون في نصف قرن"، http://tariqabdelhaleem.com/new/Artical-121

      [5]  أي تتناقص