الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
الجزء الأول أستأذن القارئ الكريم في أن أتحول بمقالاتي إلى وجهة أخرى غير التي أمَمْتها منذ حركة 25 يناير 2011، ثم خلال تولى الإخوان الحكم، صورياً، ثم عَبْرَ الأحداث الأخيرة التي أودت بالإخوان، وبالحركة الإسلامية عامة، في مصر.
وهذه الوجهة ليست غير الإسلام بالطبع، لكنها تستشرف القادم، وتدع الحاضر من ورائها، إذ أصبح هذا الحاضر غُباراً من آثار ما حدث، لا نظن أن سيكون له أثر على تغيير مسار الوجهة التي تتوجه اليها مصر في هذا العصر. فهي وجهة من منظور يَعرِف واقع الحال، دون غبشٍ أو ضبابية أو خداعٍ للنفس، ويعترف بهذا الواقع، ليقوم في تحركاته المستقبلية على أسس حقيقة، لا أوهام وأمانيّ، تتبخّر بمرور الأيام، فلا يُمسك صاحبها منها إلا ما يُمسك الغربال من الماء.
(1)
إنّ ّمن الخطأ المَعيب، خاصة من المُفكر والمُنَظّر، الذي ينبغي أن يرسم طريق العمل ويوضح بنياته، بما يضمن صحة الخطة وسلامة الخطوة، أن ينشغل، أطول مما ينبغي، بالجزئيات عن كلياتها، وبالأحداث عن إطارها.
وتفصيل هذه الجملة، أنّ الأحداث تترى من حولنا، القبض على فلان، وضرب فلان، وخروج مظاهرة هنا وإعتصام هناك، كلها أحداث جزئية تعمل في إطار عامٍ يسير بها، وبنا، في طريقٍ مرسوم المعالم، لا يتغير إلا بإرادة إلهية، وقوة تغيير إنسانية قوية هائلة صحيحة التوجه، تَحْرِفُ هذا التيار الجارف في طريقٍ آخر، ووجهة مخالفة. وقد تخالف أحد الجزئيات كلياتها، أو يظهر الحدث أنه مضادٌ لإطاره العام، لكن هذه هي مهمة المُفكر المُنَظِّر، أن يَرُدّ تلك الشوارد إلى قواعدها، وينسقُ تلك الحوادث وإن بدت نابية عن إطارها.
قدمت هذه التقدمة، لأمهد للقول بأنّ الأمر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قد استقر للباطل في هذه الجولة على أرض مصر،. وما كل تلك الحوادث الجزئية، من سلاسل بشرية أو مظاهرات أسبوعية، إلا الزبدُ الذي يُخلّفه المُوجُ العاتي حين انحساره. وإن لم يكسب الباطل الحرب بيقين، إنما هي جولة وإن طال أمدها، فإن الباطلَ زهوقٌ لا محالة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
نقول هذا القول، والقلب يتمزق ألماً ولوعة على جولةٍ أضعناها، أو أضاعها حكم الإخوان، ولم يستحق الشعب، بعامة، الفوز بها، بلا شك "وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون". من العبث اليوم، والذهول عن الحقيقة، أن يُقال أنّ هذه الجولة لم تُحسم لصالح الباطل، لمجرد التفاؤل وإراحة النفس والضمير. هذا هو الأمر الواقع، رغم ما تبقى من محاولات تتحرك على استحياء هنا وهناك.
والواجبُ يحتمُ أن نتجاوز هذه المرحلة على عجل، لنرى ما نحن فاعلون فيما يأتي من بعدها. وقد حُسم هذا التصور في نفسي بُعَيد انقلاب الكفر في 30 يونيو، فكتبت مقالاً، يتوارى فيه هذا المعنى، تحت عنوان "معالمٌ استراتيجية على طريق الدعوة ومسار الحركة" بتاريخ 18 يوليو 2013، قلت فيه" فإنه يجب أن تتحدد معالم الدعوة واستراتيجياتها في مواجهة الواقع الذي كنا نستشعر قدومه، بعد أن أصبح حاضراً، وحقيقة لا توقعاً"[1].
فشل المسلمون من قبل حين تفتّت وحدتهم وقامت الجامعة العربية على رفات وحدتهم. وكان فشلهم الأكبر في إعلان الكيان الصهيونيّ في قلب بلادهم، ولم تستطع جيوشهم مجتمعة أن تحرز نصراً ضده. ثم فشلوا في مواجهة الباطل في الجزائر وليبيا واليمن، ثم اليوم في مصر، وهم يعانون في سوريا والعراق.
ولسنا بصدد درس في التاريخ، فإن السرد التاريخيّ تعج به الكتب والمواقع، لكننا نقصد إلى رسم الإطار العام الذي يجب أن ننظر من خلاله إلى خارطة الطريق ونعبر من خلال سياقته إلى استشراف المستقبل. الذي يجب أن يكون محلّ نظرٍ وبحث اليوم هو إجابة السؤال الذي يلحّ على ذهن المُفكر والمُنَظّر، وهو لماذا لم ينجح المسلمون في شرقنا العربيّ، في كلّ مواجهة وقعت بينهم وبين الباطل منذ سقوط الخلافة؟
والجواب على هذا السؤال فيه، بعون الله، معالم الطريق في المراحل القادمة، وفي المواجهات المرتقبة.
(2)
وما نحسب هذا الفشل إلا بسبب انحراف المنهج التربويّ العقديّ الذي أدّى إلى الخراب العقديّ، وإنحراف التصور الإسلاميّ المتفشي بين زرارى المسلمين في بلادنا، في مقابل قوة التأثير العلماني وشراسة الهجمة الثقافية الإلحادية التي تغلغلت في أوساط الشعوب "الإسلامية"، فنخرتها حتى النخاع.
وهذا الحديث ليس بحديث نظريّ أو أكاديميّ، بل هو في صميم الواقع العمليّ الذي تعيشه الدول "الإسلامية" اليوم، وخاصة تلك التي مرت بما أسموه "الربيع العربيّ". لقد جاءت الضربة الكبرى للحاضر الإسلاميّ، بعد سقوط الخلافة والتقسيم بموجب سايكس بيكو، بحكامٍ خونة ملاحدة، كانوا نتاج زرع محمد على في مصر، ثم من تبعه على نهجه في يقية البلاد "الإسلامية" حتى سقطت الخلافة على يد أتاتورك، وخيانة الشريف حسين وأبنائه، وعمالة ملوك آل سعود، وفساد الملك فؤاد وابنه فاروق، وتبعية أمراء دويلات الخليج للإنجليز، وفسق ملوك المغرب العربيّ. ثم جاءت طامة الكيان الصهيونيّ، وجاء عبد الناصر فأورد العالم العربي كله موارد التهلكة.
ثم كان ما كان من محاولات "إسلامية" في الجزائر ومصر واليمن وغيرهم، على يد جماعات تراوح انحرافها بين اليمين الإرجائي واليسار الخارجيّ.
كلّ هذه الأنظمة الكافرة، التي تربى ساداتها وكبراؤها في أحضان العلمانية الماسونية الغربية، قد استقبلت المناهج العلمانية وتصوراتها في بلادنا، ومهدت لها سبل الإنتشار، كما حدث في مصر ولبنان وغيرها، وظهرت كليات الفرنسسكان والجامعة الأمريكية، وساهم الإستعمار العسكريّ على ذلك حتى جاء الوقت الذي لم يعد فيه للإستعمار العسكريّ لزوم، وعادت تلك الحكام، والنظم الثقافية بل والجيوش المدجّنة تقوم مقام جنود الإحتلال لحساب تلك العلمانية الملحدة.
وهل هناك أدلّ على صحة ما نقول مما يفعله جيش الخسيس السيسيّ اليوم من قتل وإبادة للمسلمين، وتدمير لمعالم الإسلام، وحصار لغزة لحساب الجيش الصهيونيّ؟
تزاحمت على عقول زرارى المسلمين في بلادنا تلك الغواشى كلها، فصارت أجيالهم، جيلاً بعد جيل، تنشأ في ظلماتٍ شرعية لا تمت للإسلام وتصوراته ومفاهيمه إلا ببقايا شكلية وقشور خارجية. لا تمنع عنهم عدوانا فكرياً أو اغتصاباً ثقافياً.
وما نَصِفُ هنا هو عين ما تحققت نتاجه وترعرع نبته فيما رأينا من تتالي الأحداثٍ في دول الربيع العربيّ عامة، وفي الشهرين الماضيين في مصر خاصة وبأبشع صور التجسد. يتبع أن شاء الله
[1] http://tariqabdelhaleem.com/new/Artical-68438