فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      كلمة عن د. محمد مرسى

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      يتداول عدد من الإخوة سؤالا مُلِحا، لا أدرى له سبباً مباشراً، وهو الحكم على محمد مرسى، أمُسلمٌ هو أو كافرٌ!

      ووالله إننى أكره الحديث حول التكفير إن لم يكن له سبب حقيقيّ عمليّ تظهر آثاره على الأرض. لكن جاءني هذا السؤال من عديد من الإخوة، منهم من توجه بالسؤال بأدب، رغبة في العلم، ومنهم من تجاوز وأساء الأدب، وظهرت رويبضته في تعليقه. لكن الحاصل أنه سؤال يظهر أنّ له وقعا عند عدد من الناس، فلابد من الردّ عليه.

      بادءاً ذا بدأ، أن أحذّر من التهجم على التكفير، من غير ذوى العلم والإختصاص، إذ إنها من الكبائر التي حذّر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث بن عمر رضي الله عنهما الصحيح "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أيما رجل قال لأخيه : كافر باء بها أحدهما"رواه مالك. ذلك أنّ الحكم بالكفر يستدعى مخالفة الكافر فيما يعتقد على الإطلاق والكمال. فإن لم يكن المرميّ بالكفر كافراً حقاً، أصبح الرامي مخالفاً لمسلم فيما يرى، فكفر بذلك. وهذا الفعل من أفعال الشرك العمليّ كما هو معروفٌ في مباحث الإيمان.

      على أنّ هذا التقرير لا يعنى أنّ المُسلم لا يكفّر أحدا بقولٍ أو بِفعل، بل الحقّ أنه يقع في الكفر الكثير الكثير، بعلم أو بجهلٍ، ومنهم من تلتصق به النسبة ومنهم من ترتفع عنه لمانع من الموانع. لكن المقصود أن يُتركَ هذا الأمر، أمر التكفير، لأهل العلم والإختصاص، كما أشرنا سابقاً.

      وقد يتطرق إلى عقل البعض أن ليس هذا الحديث بما يُشبه ما عرفنا عن حديث الكاتب، الذي عُرف بالتشدّد وتكفير الحاكم من قبل، والذي أصدر في السبعينيات كتاب الجواب المفيد في حكم جاهل التوحيد، فما باله يتحدث بهذه الصيغة التي تذكّر بقول بعض من لا فقه له من مَشايخ السوء؟

      أقول وبالله التوفيق، إنّ الكاتب ما كفّر أحداً إلا بعد دراسة واعية عميقة متأنية للفقه وأصوله وفروعه، ولقواعده العامة والكلية، وقرأ الكثير من كتب العلماء في العقائد والأصول وشروح الحديث ومصطلحه. وهو أمرٌ بين العبد وبين الله تعالى، يعرفه كلُّ امرءٍ من نفسه، وحسابه بينه وبين الله.

      هذه واحدة، والثانية، أنه من قواعد الفقه، أنّ الفتوى تتوقف على مناط الواقعة، فمن أجرى حكماً شرعياً في مقام فتوى فقد ضلّ وأضلّ. وهو ما يحدث من كثير من رويبضات العلم وأدعيائه في زماننا، بل في كلّ زمان. فمن حكم على أمثال مباركٍ بالكفر لتوفر شروطه وانتفاء موانعه.، لا يلزم أن يُكفّر كل إنسانٍ عنّ لأحد تكفيره. بل يجب أن يُعامل كلّ فردٍ بما يحيط بظروفه وملابسات أقواله وأفعاله قبل أنْ يُنزِل عليهم حكماً.

      والثالثة هي أنّ آفة الفتوى التعميم. فإن الزلل والخلل يأتي من الحديث بإجمال وعموم في أمور الفتوى، دون تخصيص وإيضاح. واستعمال الأدلة العامة المجملة، من الجزئيات، دون اعتبار مخصصاتها وتفصيلها، ودون ردها إلى القواعد الكلية العامة[1]، هو باب الزلل في الإفتاء، وهو الأمر الذي نراه في أقوال مُدّعى العلم وطفيلياته بعامة، إلا من اجتهد فأخطأ ممن لديه القدرة علي الإجتهاد.

      ثم نعود إلى الإخوان، وإلى محمد مرسى.

      إن الخلاف بيننا وبين الإخوان كان، وسيظل، خلافاً بين الإرجاء المتطرف وبين السُنّة الخالصة، كما بيّنا من قبل ثلاثين عاماً في كلّ ما كتبنا. فالمرجئة يهوّنون من أمر المعاصى، ويجعلون الإيمان محله القلب ولا أثر للعمل فيه إلا كمالاً، وأن التوحيد قولٌ باللسان. وواجهت مرجئة عصرنا ذلك الوضع الفريد في تاريخنا من سقوط الخلافة بالكامل، وسيطرة العلمانية المستترة، وإقصاء شرع الله عن الحكم، فذهبوا في تطبيق أصل مذهبهم هذا، ومن هنا لم يروا مفرا من عدم تكفير من حكم بغير ما أنزل الله، وأعتبروا أنه كفرٌ أصغر، وأن فاعله عاصٍ وليس بكافر.

      لكن هؤلاء لم يتخطوا أصل بدعتهم، فهم لم يصرحوا بجواز الحكم بغير الشريعة، ولكن صرحوا بأنه إن أرادت الأغلبية هذا الأمر فلا يمكن معاندتها، حسب قواعد الديموقراطية التي ارتضوها كشكل يفصل بينهم وبين دعاة الكفر الصريح العلمانيّ. والإسلام يأمر بالجهاد والمقاومة وتحكيم السيف بين الكفر والإسلام لا تحكيم الصناديق، ولا يرضى بالدنية، لكن هؤلاء رأوا أن واقع الشعب المصري يؤمّنهم في السيطرة على الحكم، من خلال آليات الديموقراطية، ويمكنهم من "تسريب" الأحكام الإسلامية شيئاً فشيئاً من خلال هذا النظام. وساعد هؤلاء الإخوان على باطلهم هذا أصول بدعتهم الإرجائية، والتي شابتها الصوفية والأشعرية، وخالطتها عوامل كثيرة انحرفت بها عن السُنّية أكثر من انحراف أسلافهم. وكان من جرائها قبولهم بما تأتي لهم به الديموقراطية، ورضاهم بدستورٍ لا ينص صراحة علي تحكيم الشريعة، تحسباً من الغرب، ومن العدو الداخليّ، فكانوا ممن قال الله تعالى فيهم "أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" التوبة 13، أو قوله تعالي "يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةًۭ" النساء 77.

      وكانت هذه الطامة الأخيرة هي الدافع والدليل الذي استند عليه من قال بكفرهم، وبكفر محمد مرسي تبعاً، عملاً بعموم آيات التحاكم كقوله تعالى "ومن لم يحكم بما أنزل الله فاؤلئك هم الكافرون"، وغيرها كثير مما يكرّس قاعدة وجوب الطاعة لله سبحانه وعدم الخروج على حكمه، بله ردّه.

      لكن كاتب هذه السطور لا يرى هذا الأمر بتلك الطريقة المباشرة، والنظرة الأولى. فإنّ من اعتبر في تحليله جوانب أكثر تعدداً للوصول إلى الحكم الأصح في أمرٍ من أمور الله، أفقه ممن اعتبر وجهاً وتاهت عنه أوجهاً.

      الإخوان "تأولوا" في "وسيلة" الوصول إلى تطبيق الشرع، ولم يرفضوه أصالة. ومربط الفرس هو كلمتا التأويل والوسيلة. ولنتناول هذين الأمرين بتحليل أدق ونظرة أعمق.

      فمن معاني التأويل إخراج الأمر عن ظاهره بدليل، إلى معنى آخر غير ظاهر. ومن التأويل ما هو مقبول إن احتمله اللفظ وقبله المعنى، ومنه ما هو مرفوض ، ثم المرفوض منه ما هو بدعيّ كأقوال المعتزلة والأشاعرة، ومنه ما هو كفر كما قالت الحشوية المجسمة. كما أنّ التأويل قد يكون في النظريات كما فعلت المعتزلة في صفات الله جلّ وعلا، ومنه ما هو في العمليات كما فعلت الصوفية في أمور الأوراد والأدعية البدعية.

      من هذا التقسيم نرى أنّ الإخوان، إلى جانب بدعتهم الأصلية في الإرجاء التقليديّ، الذي أدى بهم أساساً إلى الرؤية البدعية في حكم الإيمان وحد التوحيد، قد أوّلوا تأويلاً عملياً، في قبولهم "وسيلة" غير مشروعة، وإسباغهم عليها صفة الشرعية بتجريدها من البعد العقديّ، وخلطها بالشورى الإسلامية، ففعلوا فيها ما فعلت الصوفية في أدعيته وأورادهم، من حيث اشتبهت بالأدعية والأوراد السنية، من غير دليلٍ، وكونها في العبادات. وهؤلاء الإخوان ظنوا أنّ الديمقراطية ليست من باب العقائد بل من باب العمليات التي يمكن أن يتجاوز فيها المسلم ويدخلعا تحت باب المصالح وطرق الممارسات المتاحة له.

      وحين نتحدث عن الوسيلة هنا، فإننا نقصد أنّ القول الإرجائي الإخوانيّ لم يقع على أصل عقديّ بشكلٍ مباشر، كقول من قال بأنّ الشريعة لا تصلح للحكم بها، أو أن طاعة الله ليست بواجبة، وهو صريح قول أمثال البرادعي والصباحي وأبو حامد وحمزاوى وأمثالهم كثير من كفار مصر. بل جاء قولهم في وسيلة لا في مقصدٍ. وقد سأل سائل وما الفرق بين شرك المقاصد وشرك الوسائل؟ بل كله شرك! قلنا، نعم قول صحيح إن لم يختلط بتأويل. وقد فرقت الشريعة بين حكم المقاصد وحكم الوسائل بشكل قطعيّ، فجعلت المقاصد كالصلاة والزكاة على سبيل المثال، محرّمة لذاتها، فلا تحلّ إلا لضرورة، ثم جعلت الوسائل مثل النظر لأجنبية محرّمة لغيرها، لأنها وسيلة إلى المحرم، فأحلتها للحاجة. ومثال آخر أنّ الشريعة قد جعلت مبدأ المصالح المرسلة يَسْرى في العمليات لا في النظريات، وفي الوسائل لا في المقاصد. وهذه أمثلة على الإتجاه السنيّ في الفقه الأصوليّ والذي يضع فرقاً بين حكم الوسائل والمقاصد ويوجه الفقيه إلى ضرورة التفرقه بينهما، لكي لا تأتي فتواه عرجاء عوراء، لا يجمعها بالصحة إلا الشّبه.

      فالإخوان إذن، قد أخرجت الشكل الديموقراطيّ إلى باب العمليات بالتأويل، ثم جعلته من باب الوسائل، فوضعته في باب المصالح. وهما خطآن متراكبان، لكنهما لا يخرجان القائل بهما، بمجردهما من حظيرة الإسلام، بداعي التأويل، كما لم يكفر العلماء الصوفية من أصحاب البدع العملية والتأويل المرجوح جملة، إلا من قال منهم بأقوالٍ كفرية لا تجتمع عليها الفرقة، كالحلاج وابن عربيّ القائلين بوحدة الوجود والحلول والإتحاد. وكما لم يكفّروا الإثني عشرية الرافضة جملة إلا من قال بأقوال كفرية كالطوسي الذي قال بتحريف القرآن ومن تابعه على ذلك.

      ثم أمر آخر شديد الأهمية، وهو يتعلق بأسلوب الإستدلال السنيّ، ونقصد به قاعدة الجمع بين المتماثلين والتفرقة بين المختلفين[2]. فهل يستوى عند عاقل، ولا نقول عالم، محمد مرسى مع محمد أبو حامد أو البرادعي أو البدوي أو الصباحي أو عمرو أديب وأخيه؟ من قال بذلك فقد قال شططاً ونطق باطلاً. فإن افترق محمد مرسي عن هؤلاء الكفار، فقد ثبت له حكمٌ آخر غير حكمهم بالضرورة. وهذه التفرقة لها حكمها في الشريعة، ولا يتجاوزها إلا عقل بسيط رُويبضيّ لا يفقه ما يقول.

      ونحن نعلم أن كثيراً من أصحاب تلك العقول الرويبضية لن يفقه كثيراً مما نقول، لكن هذا لا يمنعنا من قول الحق، والصدع به. فكما هاجمنا، ولا نزال نهاجم الإخوان، بما لم يكتب مثله أحد من كتاب المسلمين على مدى ثلاثة عقود، فإنه لا يسعنا إلا الإنصاف والعدل، الذي أمرنا الله تعالى به ولو مع شنآن القوم.

      محمد مرسى، وجماعة الإخوان جملة، حكمه في الشريعة، كما يراه الكاتب، أنه مُبتدعٌ بدعاً غليظة في أصولٍ كلية، تخرج به من دائرة أهل السنة، وتجعله وجماعته أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان. ومن تفرّد منهم بأقوال كفرية مثل تساوى الصليبيين والمسلمين في أن عقيدتهم حق، أو أنّ الحكم للشعب أصالة لا تبعاً، فالحق في حكم الشعب وإن خالف حكم الله[3]، فقد كفر كفراً أكبر يخرج به من الملة.

      ثم إن الواجب على الإسلاميين اليوم، ليس اللهاث وراء حكم محمد مرسى، بل الدعوة إلى التوحيد، والوقوف في وجه الكفر أولاً، ثم البدعة ثانياً. فإنه يجب تقديم ما قدمه الله سبحانه. إ لا يصح أن يهدد كافرٌ ملحد المسلمين، بل ويقتلهم كما نرى كلّ يوم في مصر الآن، ثم ننحرف عنه لنواجه بدعاً مهما كَبُر حجمها. هذا ليس من منهج أهل السنة ولا طريقها.

      [1]  ارجع إلى الموافقات ج1، وج3 لمزيد الإيضاح في هذا الصدد.

      [2]  وهي من قواعد منهج الإستدلال عند أهل السنة والجماعة، والتي يعكف الكاتب على تدوين كتاب فيه، يجمع شتات المنهج ويرص قواعده العقلية والشرعية، وبالله التوفيق.

      [3]  وهؤلاء يقولون أنهم يرضخون لحكم الشعب عملياً، وإن لم يوافقوا عليه، كما هي نظرتهم في الدخول للبرلمانات للإصلاح، فإن خرج من البرلمان خلاف الشريعة قبلوا به من باب الرضوخ لا من باب الموافقة. وكلّ هذا تأويلٌ باطلٌ وانحرافٌ عن الإسلام السنيّ، وإنْ ردّ الكفر الأكبر عن قائله كما ذكرنا.