الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
كنت قد استيأست من أن أجد موضوعاً جديداً أطرُقه على هذا الموقع، بعد أن كدت استنفذ كل ما يقع على الساحة الإسلامية. إذ يظهر أن تسارع الأحداث في العامين السابقين، بعد ثورة دومة ونوارة قد جعلني لا أكاد أترك موضوعاً إلا طرقته. والكاتب، من يحترم فكره وقلمه، لا يحب ترديد ما قال مراراً، فإن هذا لا يدل إلا على قلة البضاعة، إلا ما يكون من محترفي الكتابة ممن يعيش على عائدها، وقانا لله شرّ ذلك الأمر. ثم إنّ تعليقا من قارئ يتتبع ما نكتب، أخرجني من هذا المأزق، وجعلني أعود إلى هذا الأمر الذي تعرضت له من قبل، وهو تلك "الفتاوى" التي تتطاير من حولنا، متلبسة بهيئة "الآراء"، وكأن قائلها لا يفتي، لكن، يبدى رأياً..!
الأمر هنا، أن الفوضى التي تعم الساحة الإسلامية اليوم، تعود بشكلٍ كبير، إلى هذه الظاهرة الخطيرة، التي تسببت فيها ظواهر أخرى عديدة، نتناول بعضها بالذكر في هذه العجالة.
العلم، أيّ علمٍ كان، هو مجموعة من المعلومات عن موضوع العلم، قد حنّكتها الخبرة بمناهج ذاك العلم، وقواعده، ومصادره وموارده، ثم صقلها التجول بين مدونات العلم، والتعرف على مناحيه المختلفة، ومعرفة آراء السابقين فيه، ثم أنضجته التجربة التي تأتي مع العمر الذي ينصرف في النظر والتأمل ومقارنة الأشباه، ومماثلة النظائر، والتمييز بين ما هو من العلم، وما هو من إضافياته، وما هو ليس منه ابتداءً.
والحسرة هنا أن كثيراً من المنتمين إلى الإسلام، قد خُدعوا في أنفسهم، فظنوا أنّ اطلاعهم على بعضٍ من كتب السلف يؤهلهم لأن يقولوا في دين الله. وساعدهم على ذلك خلو الساحة من علماء الحق من ناحية، وانتشار علماء السوء والباطل من ناحية أخرى. فكان هذا الرهط الذي وإن ارتفع عن طبقة العوام، لم يصل إلي طبقة طلبة العلم. الفارق الرئيس هو أن طالب العلم "يطلب العلم" أصالة، لكنّ هؤلاء الرهط، لا يطلبون علماً، بل يوافقون حين يكون القول على هواهم، ويخالفون حين لا يكون مخافا لما يرونه حقاً بما لديهم من علم محدود مبتسر. فالأمر بالنسبة لهؤلاء ليس طلب العلم، بل الوصاية على أصحابه، بكدهم إن وافقوهم، والعيب عليهم إن خالفوهم. وكيف لا وهم يرون أنفسهم أصحاب العلم المطلق والفهم الرشيد، بينما غالبهم مغمور لا نتاج له في دنيا العلم أو العمل. تراهم يلقون اليك بالقول كأنه خارج من مشكاة النبوة، أو أنه، على أقل تقدير، ما تلقوه سمعاً عن مالكٍ أو أحمد!
راح هذا الرهط من "الإسلاميين"[1] يضرب بقوس أعوج، يريد أن يصيب بسهامه حقاً، فلا يعود إلا بخيبة على نفسه، وإضلالاً وتشتيتاً لغيره. ثم إنّ هؤلاء، تجدهم يأتون لك بكل دليلٍ أعوجٍ، وفهمٍ منحرف، وتحليلٍ ناقص، ورؤيةٍ منحرفة، يحسبونها العلم الذي تنزّل عليهم بلا عملٍ ولا جهدٍ ولا يحزنون، إلا بعض المطالعات الناقصة، كما ذكرنا.
والأمر أّن هؤلاء الرهط، ممن ابتليّ بهم الواقع الإسلاميّ منذ أن وعينا عليه في منتصف الستينيات، يتعاملون مع الفتوى، أو قل، مع القول في دين الله، كأنهم يتعاملون مع مسألة رياضية، تخضع لنظرياتٍ هندسية، يمكن حسابها والخروج بالنتيجة بناء على مقدماتها الظاهرة، دون شكٍ فيها ولا تلجلجٍ حولها. وقد أخطأوا في هذا أيما خطأ! وما نظن أنّ هذا الرهط قد ضلّ سبيله إلا من باب الغرور أولاً، والخيبة والجهل ثانياً، ثم إنعدام المَثل وفقدان الثقة في الواقع ثالثاً .. ثم إرادة الله سبحانه تأتي من وراء ذلك كله.
الفتوى لا تُحسب بحسابات الرياضة. القواعد الشرعية ليست كالقواعد الرياضية. الرياضة لا تتبدّل بتبدّل الأحوال ولا تتغير ثوابتها بأحكام الزمان والمكان، إذ هي مبنية على منطقٍ خالصٍ لا يتسرب اليه احتمال أياً كان، وتتساوى العقول في تحصيل نتائجها، مهما تفاوتت في قدراتها. أما العلم الشرعيّ ومن ثمّ الإجتهاد الشرعيّ، ، فهو على العكس من ذلك تماماً. فالقواعد الشرعية[2]، بطبيعتها، مبنية على الإستقراء. والإستقراء له قواعده وضوابطه، إلا إنه في آخر الأمر، تبقي كثيراً من الأحوال خارجة عن مقتضى تلك القواعد، لإستحالة شموله على كافة الأحوال والأزمان والأمكنة، إلا فيما هو من أصول الدين وثوابت الشريعة من أمثال المتواتر وما علم من الدين بالضرورة ومواضع الإجماع ومواطن النصّ[3] بشروطه، وغير ذلك. ولذلك وضع العلماء ضوابط لمراعاة ما يخرج عن تلك القواعد، فيرتد بها إلى الحقّ، بطرقٍ أخرى، مثل قياسٍ صحيح، أو استحسانٍ أو مصلحة مرسلة بضوابطها. وهم بهذا لا يتعدون القواعد الشرعية الكلية، لكن يعدلون بالفتوى إلى قاعدة أليق بالمناط المستفتي فيه، أو يلحقونها بدليل أوجب في موضعها من مجرد تطبيق قاعدة شرعية بلا نظرٍ أو تفكر في مناطها أو ما حولها من ملابسات. كذلك اعتبر العلماء مراعاة محلّ الحكم الشرعيّ في منظومة المقاصد، ثم اعتبروا مكملاته ومتمماته، ثم اعتبروا أصول الشريعة، التي تقَعّدت من مجمل فهم قواعدها، فصارت أصولاً لأصولها، كما بيّن الشاطبيّ والقرافيّ من القدماء، وبن عاشور من المحدثين، في هذا المستوى من التأصيل.
لكن رهطنا هؤلاء، هداهم الله، وأرشدهم إلى من يُعلمهم أمر دينهم، ويبعدهم عن القول في دين الله بغير علم، لا يكادون يفقهون مما نقول حرفاً، إما أخذا بالإثم اعتزازاً، أو غير ذلك من موانع رؤية الحق. فتجد الظاهرية غالبة على أكثرهم، ثم تجدهم يتردّدون بين أفكار الغلو الخارجيّ تارة، وبين الإرجاء الإخوانيّ أخرى. وما هذا إلا لإنعدام الدليل المرشد، والمعلم الخرّيت، يخرج بهم من ظلمات الهوى والعُجْب بالنفس، إلى تواضع طالب العلم. فهؤلاء والله لم يبلغوا مرتبة طلبة العلم، وعليك بما دوّن بن عبد البرّ، أو السيوطي في معرفة أوصاف طالب العلم، لتعرف أن هؤلاء لا يزالوا على شاطئه، ينظرون اليه نظر الواله إلى من لا أمل له في محبوبه.
ونحن، إذ نلفت النظر إلى هؤلاء الرهط، فإننا ننبّه الشباب الواعي إلى أن يكون على بينة منهم، إذ هم ليسوا بطلبة علم إبتداء، بله أن يكونوا ممن يُستمع لهم في دين الله. وليتحرّ الشباب من عُرفوا بالعلم والعمل، ولم يعرف عنهم تراجع أو تخاذل، فيأخذون عن أمثال هؤلاء، لا عمن لا يزال في العلم رضيع، ويحسب أنه فيه ضليع.
والله الموفق إلى ما فيه رضاه.
[1] وأقصد بالإسلاميين هنا المهتيمن بالإسلام، بعلم أو بغير علم، بعملٍ أو بغير عمل.
[2] من العلماء من اعتبر القواعد قطعية، إلا إنّ لهذا مجال آخر في الحديث، فالقاعدة قد تكون قطعية في ذاتها، لكن يأتي الخلل في تطبيقها على ما لا يدخل تحتها ابتداءً.
[3] يرجع من شاء إلى ضوابط اعتبار النصّ، والفرق بينه وبين الظاهر، في كتب الأصول