الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
مصطلح "الواقع" هو أحد المصطلحات التي تتداولتها الألسنة منذ أقل من عقدٍ من الزمان، ثم استفحل، واستفحش، استعماله منذ ثورة دومة ونوارة في مصر.
والواقع كلمة تتراوح بين عُرفين. العرف اللغوي، فهي من فعل "وَقَعَ"، إذ وقوع الأمر يجعله واقعاً. لكن الواقع الذي يشير اليه الناس، وتتحدث باسمه الدعاة والقيادات اليوم ليس هذا الذي وصفنا. بل هو أبعد من ذلك خطوة حاسمة، تجعله يكاد لا يمت لهذا المعنى اللغوي بصلة. فالواقع، في عرف هؤلاء هو "ما يراه الناظر من سبب لوقوع ما وقع، وما يراه لازما عنه بطريق الضرورة"، لا "ما وقع بذاته". فهو إذن عُرف إستعماليّ لا حدّ له على الحقيقة. فإن سبب وقوع ما يقع ليس مما تتفق عليه العقول، بل تتفاوت فيه تفاوتاً شاسعا، يعتمد على عوامل ثلاثة، اثنان جبلّيان، عقليّ وطبعيّ وثالث كَسْبِيّ وهو العلميّ.
أول هذه العوامل، وأهمها، القدرة العقلية التحليلية. والعقل البشريّ يتمتع بقدرات عديدة في كثيرٍ من الجوانب، مثل الذاكرة و التحصيل والتحليل والتركيب والاستدلال والقدرة التصويرية والرقمية إلى غير ذلك من جوانب، تتفاوت فيها القدرات بين الناس أكثر مما تتفاوت أرزاقهم. وكلّ قد يُسّر له من هذا قدرٌ معلوم. فقد يكون من الناس من له القدرة على الحفظ والتحصيل، لكنه ضعيف القدرة في التحليل أو التركيب أوالإستدلال. ومنهم من يقدر على استيعاب الأرقام والتعامل معها بسهولة ويسر، لكن لا يستطيع الحفظ أو التحصيل، وهكذا.
ثم هناك القدرات الطبعية مثل الخوف والجبن والإقدام والشجاعة والكرم والبخل والحياء، ومثل تلك الصفات التي تشكلّ الدوافع الداخلية لكثيرٍ من التصرفات الإنسانية التي يُعرف بها الإنسان، وهي مفاتيح شخصيته.
ثم القدرات الكَسبيّة وهي العلمية وتعنى ما يحصّله المرء من علمٍ مكتسبٍ في شتى أنواع العلم المعروف للبشر، سواءً ما هداهم الله له بطريق الوحي والرسل، وهو العلم الشرعيّ، أو ما كشفه لهم بطريق العقل والتدبر وهو العلم التجريبيّ.
هذه القدرات الثلاثة، تتعاون فيما بينها، على تكوين شخصية المَرء وتوجيه نظره، وتخريج تصرفاته وقراراته. وهي كلها تختلط بينها بنسبٍ متفاوته بين كلّ إنسان، حتى بين الإخوة، يخرجون من رحمٍ واحدٍ، ولا تجد أحدهم فيها يستوى، بل ولا يقرب، من أخيه في بعضها.
من هنا فإن الأداة التي يستخدمها الناظر في "الواقع"، وأعنى به "ما يقع من أحداث"، ليصل إلى ما يراه "واقعا" بالمعنى الإستعماليّ، تختلف اختلافاً بيّنا عظيماً، يجعل كلّ إمرءٍ له واقعه، الذي يتناسب مع قوة أداته، وقدراته العقلية والمكتسبة، ثم تشكّل الصفات الطبعية التصرّف الذي يخرج فيه هذا التقييم.
وأضرب مثلا من تاريخنا الفقهيّ، فقد كان أصحاب أبي حنيفة رحمه الله يقولون "كان أبو حنيفة يقول في الأمر ويقول فيه أصحابه، فإن قال استحسن، لم يلحق به أحد". والإستحسان هو في أفضل تعريفاته "العدول عن قياسٍ ظاهر إلى قياسٍ خفيّ لدليل". والقدرة على كشف الدليل الذي يجب العدول اليه، عوضاً عن الدليل الظاهر، هي قدرة تتأتي لمن هو قمة في الإستدلال، والتحليل والتركيب، إلى جانب استيعابٍ شاملٍ للأدلة الشرعية، ومناسباتها ودلالاتها، وإن لم تحتج إلى قوة في الحفظ بطريق الضرورة.
ومثالٍ آخر من فقه مالكٍ رحمه الله ، حيث اعتبر المصلحة في عدم فسخ عقد الربا إذا تغيّرت العَين المُباعة، إذ اعتبر ما يسميه الفقهاء "حوالة الأسواق"، أي ارتفاع سعر العين، ومن ثم فإن الغرض من إلغاء العقد، وهو منع الربا، الذي هو سبب زيادة المال دون عملٍ، يصبح غير عامل، إذ سيزيد رأس المال للمرابيّ بالفعل. وهو من أفضل النظر في مسائل المصلحة[1]
من هنا فإنه من السذاجة والتبسيط المُخلّ أن يظنّ أحدٌ أنّ منْ حفظ أحاديث ولو كثرت، قادرٌ على أن يُستفتى في أمر "الواقع"، أو من برز قائداً أو مُلهِماً للجماهير، أن يكون واعياً بما يجرى من حوله. هذا الظن الباطل، في غالب الأحوال، هو من وراء الحيرة والتخبّط وانحراف المسيرات، في تاريخ الأمم بعامة، وفي تاريخنا وحاضرنا الإسلاميّ على السواء.
وكذلك أمرُ المصلحة التي يراها كلّ من تحدثّ في أمرها من رويبضات أيامنا هذه. فإن تقدير المصلحة يعتمد على تلك القدرات التي تحدثنا عنها، وكثيرٌ من هؤلاء المتحدثين في أمور العامة اليوم هم أحوج الناس إلى النظر فيما قدّره الله لهم منها. والأحوج منهم لهذا هم أتباعهم الذين لا يدركون أيّ خطأٍ يرتكبون في حق أمتهم وحق أنفسهم وأهليهم، حين يسلمون قيادهم لمن هم ليسوا أهلاً إلا لترديد أسانيد، أو إلقاء خطب أو وجودٌ إعلاميّ أو وجه فضائيّ، إلى غير ذلك مما لا دلاله فيه على قدرات محددة ضرورية لفهم "الواقع"، واستنباط خباياه، والإستدلال على نتائجه، ومن ثم الحكم بما هو من المصلحة، إن غاب الدليل الشرعيّ المخصوص في موضعها. فحديث هؤلاء لا دسم فيه ولا فائدة منه، إنما هو ورمٌ، إما حميدٌ فلا لزوم له ابتداءً، وإما خبيثٌ فيجب كشفه وإزالته، وصدق المتنبي
أعيذها نظرات منــك صادقـــة أن تحسب الشحمَ فيمن شَحمه ورمُ
والمناسبة هنا بين إدراك "الواقع" على ما هو عليه، وفهم أسبابه التي أدت اليه، وبين وجوه المصالح والمفاسد التي يتعلق بها من ينسبون أنفسهم للعلم زوراً، مناسبة واضحة. فإن إجتماع تلك القدرات التي أشرنا اليها، وانضمام فطرة الشجاعة وعدم الرضى بالدون، والرغبة عن الدنيا، يجعل رؤية ذلك الواقع مطابقة لما هي عليه في النظر الإسلاميّ. وهو المعنى التام لإتباع "منهج أهل السنة والجماعة". فهذا المنهاج، قد رسمه الله سبحانه وتعالى، وبيّنته سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعت له أطراف العلم ومحاسن الفطرة، ولم يبق إلا عقل الناظر المفرد، الذي جعل الله فيه من تلك القدرات ما يميّز هذه المواقف، في ضوء ذلك المنهج. وقد أعان علماءالإسلام على هداية الحيارى في هذا المِضمار، من خلال تدوينهم للقواعد العامة والكلية، لتكون مرشداً للناظرين في الوقائع المستجدة على العالمين.
لكنّ الأمر أنّ من العقول المفردة ما لا يستوعب من تلك القواعد ما وُضعت له. إنما قدّ يحصّلها تحصيلاً، بل قد يحفظها حِفظاً، إلا إنه لا يصلح أن يفتى في الإستنجاء من الخراءة، في واقع الناس هذا.
سمعنا شيوخاً يَجلس اليهم الناس، يتلقون علي أيديهم الحديث، فيعظّمونهم ويُجلونهم، ويرفعونهم فوق الأعناق، رأيناهم يفتون للناس إبان الثورة في مصر، أن الخروج حرام، لضرر الإختلاط[2]! وهو مثالٌ ليس أوضح منه في بيان أن صاحب هذا القول قد يكون ممن له قدرة على الحفظ، لكنه منعدم القدرة على فهم الأدلة وتحقيق مناطاتها بالمرة. ثم منهم من أفتى بحلّ الديموقراطية، وضرورة اتباع المذهبية السياسية[3]، وهم من خالفوا النصوص باسم المصلحة، رغم أنّ اتباع النصوص هنا هو المصلحة لا غيرها، لو كانوا يفقهون. ثم منهم من يتخبط في مواقفه، تارة يعلن أنّ شرع الله هو المُتبّع‘ لا غيره، وتارة يدعو لحزب سياسيّ ديموقراطيّ! فتراه يُقدِم كأنه بَطلٌ مقدام، وأخرى يُحجِم كأنه من جنس النعام! [4] فلا تعرف فيم كان إقدامه أو علام كان إحجامه. ومنهم من اختلط بأخبث رجال الأرض من كلاب أمن الدولة، وقال إنهم إخوة له، ثم راح يحدّث الناس في رقة القلوب، ثم يبكي على الهواء ما شاء لهم من البكاء![5]
هذه الظواهر كلها ترجع إلى ذلك النقص في مركبات تلك الخلطة التي ذكرنا، والتي لا دخل لها بشهرة أو بحفظٍ، بل هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه "قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه" صحيح رواه أبو داود في السنن. والشاهد هنا هو الجملة الأخيرة "رُبّ حامل فقه ليس بفقيه" فأنه لا يلزم أن من حمل علماً صار فقيهاً، والعوام، في غِيابِ أصحاب الفقه الصحيح، وفي خضم موجه التفاهة السائدة وانحِطاط المُستوى الفكريّ العام، لا يجدون أمامهم إلا أمثال هؤلاء ممن لا نصيب لهم في الفقه وإن حملوا بعضه، حفظاً وترديداً.
ولعل قائل أن يقول: لكنّ الإسلام يعلمنا ويرشدنا، ونحن متبعون لا مبتدعون، والأحاديث الآيات والأدلة محفوظة، فلم لا يرى الناظر وجه الحقّ في أمور واقعة، ولم لا نتابعه وهو حامل علم؟ وما ذكرت من قبل فيه شفاء العيّ[6] من هذا السؤال.
والإسلام، حين يفهمه الناظر فهماً متكاملاً، يقدم للناس ما يُكمِل هذه النواقص التي تعتري العقول، فتمنع من الوصول إلى الحق، أو أقرب ما يكون اليه، من موانع الفهم والفطرة والخُلُق، قبل موانع التحصيل والحفظ. ومن هنا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه بالفقه في الدين، ولو أنّ الأمر أمر تحصيلٍ لكان أبا هريرة رضى الله عنه أفقه الصحابة عليهم جميعا رضوان الله.
فالله الله فيمن تتبعون يا شباب الإسلام. تخيروا لعقولكم كما تتخيروا لبطونكم وفروجكم. فوالله إن العقل نعمة لم يَحرم الله منها أحداً بالكلية، وأقلّها أنْ تعينك على الإختيار، فلا تندفعوا وراء كلّ غُترة ولحية، فإن أمر الفقه أشدّ من ذلك. وها هي فتنة الثورة قد كشفت هؤلاء الذين صدّعونا بالسلفية سنين عدداً، فإذا بهم يلهثون وراء خَبَثَ الإخوان، ويغوصون في أوحال الإرجاء، بل قد فاقوا الإخوان اليوم، ضعفاً وتراخياً وتبديلاً لكلمات الله.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون إلى القول فيتبعون أحسنه.
[1] أو الإستحسان، إذ يلحق بعض الفقهاء المصلحة بالإستحسان، انظر كتابنا "مفتاح الدخول إل علم الأصول" ص145، وص157 وبعدها.
[2] الشيخ ابو اسحاق الحويني غفر الله له!
[3] محمد عبد المقصود، ون على شاكلته ممن استحلّ الديموقراطية الشركية
[4] الشيخ حازم أبو اسماعيل أعاده الله لو صوابه!
[5] محمد حسان وياسر برهامي عليهما من الله ما يستحقا.
[6] العيّ هو التائه الذي لا يهتدي بنفسه، وفي الأثر "إنما شفاء العيّ السؤال"