بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
اتصلت منذ ساعات قليلة بأحد الأحباء، الذين آخيتهم منذ عقود تطاولت حتى كِدْت أن يغيب عني عددها، لأطمئن على حاله، وأهله وعياله. فكان أن بادرني بالعتاب الشديد على التسجيل الذي أخرجته منذ أيام بعنوان "أنتم علماء السوء"، هاجمت فيه عدداً من الدعاة هجوما شديداً شرساً لا هوادة فيه. وكان أن تبادلنا الحديث ساعة ونيّف، أظهرت فيها أن حديثى، كما قال أخي الحبيب، حديث غضب، لكنه غضبٌ لله، فلم أدّعى فيه مظهر "الحكمة" الزائفة، و"الروّية" الباطلة التي يُحب عدد من دعاة اليوم أن يظهروا بالإشتمال عليها في مواضعها وغير مواضعها.
وحتى يكون معي القارئ الحبيب، فإن موضوع هجومي على هؤلاء الدعاة، سواء منهم محمد عبد المقصود أو ياسر برهامي أو حازم أبو اسماعيل، من أصحاب الحاشية والأتباع، هو أنهم لا يقومون لله بقولة حقٍ في مظانٍ الحق الساطع، وأنهم يجمدون الشباب العامل من ورائهم، فيغلقون الباب عليهم وقت ضرورة فتحه، ويفتحونه وقت ضرورة إيصاده. هذا ملخص ما هاجمت به هؤلاء، وما عتب عليّ بسببه أخي الحبيب، رغم اتفاقنا على "موضوع" هجومي، من أن هؤلاء ليسوا على منهج الحق الذي ترسمه مَعالم السُّنة، ويهدى اليه منهاجها.
وقد أحببت أن أشارك القارئ في الرأي، وأستمع إلى تعليقاته فيه، من حيث أهميتها لي، ومن حيث أني لا أتراجع عن الحق إن تبيّن لي صحة موقفي، وإنْ كَثُر فيّ اللائمون، وأتراجع إلى الحق إن تيبّن خطئي، وإن قلّ ممن معيّ عليه المُنصفون.
وأود أولاً أن أبيّن، إحقاقا للحق، أنني ما جمعت كلّ هؤلاء معا في سلة واحدة من باب أنهم لا يتفاضلون فيما يقولون أو يفعلون، لا والله، فحازم ابو اسماعيل، على ما فيه من خلل في الرأي وانحرافٍ عن الشرع في تبنّيه وسائل الديموقراطية والقانون، وفي مواقفه المتراجعة في عدد من الحوادث، إلا إنه صاحب نية صافية ويد طاهرة وقلبٍ كبيرٍ وشهامة في عدد من المواقف، وإن تراجع عنها في مواقف أخرى، وهذه خُللٌ لا يتمتع بأي منها ياسر برهاميّ، على سبيل المثال. لكن الأمر، كما وضّحت لأخي الحبيب، ليس أمر نية وقلب، إن اتصل الموقف بالمصلحة العامة أولاً، وإن تكرّر فاتخذ سمةّ العادة والمنهجية ثانياً. وانظر يا رعاك الله آخر تلك الدواهي التي وقع فيها الشيخ حازم، حيث نكص علي عقبيه في عدم بيانه كفر الصليبيين القبط، كأنه لا يعلم أن آلافاً مؤلفة من العوام اليوم تؤمن بأن النصارى من أهل الجنة، وأنْ سيكون حديثه هذا عون لهم وللعلمانيين على إثبات هذا الكفر البيّن، فموقفه هذا موقفٌ مخزٍ مضلل بلا جدال.
وحجة أخي الحبيب أنّ حازماً تقيّ النية صحيح الطوية، لا يفعل ما يفعل إلا وهو يرى أنّ فيه للإسلام كسبٌ. قلت، سبحان الله، وهل كان أحدٌ ممن ضلّ عن الطريق، في الفرق الضالة، إلا عاملاً لله، وهل وعى البسطاميّ أو محي الدين بن عربيّ أو رابعة العدوية أنهم يعملون للشيطان ويصدون عن سبيل الله؟ هذه حجةٌ داحضة، قد يتمسك بها متمسّكّ يوم يقف بين يديّ الله، لكنها لا تصلح لمحاجّة عن الحق هنا، يا أحباب.
هذا عن تساوى من ذكرت في حديثي، فحازم ليس كمحمد عبد المقصود، وعبد المقصود ليس كياسر، وهكذا حتى تصل إلى حضيض محمد حسان.
ثم إن حازماً متراوح في حديثه، تجده أسابيع يتحدث عن القوى الثورية، وأسابيع يبيع حزبه في الفضائيات. رجل بندوليّ المنهج والطريقة. وهذا أمرٌ في غاية الخطورة على الحركة الإسلامية، إن وعي ذلك الواعون.
ثمّ إن قدر الفتنه يتعلق بقدر أتباع صاحبها، وهو أمرٌ ثابت في الشريعة، أوضحه الشاطبيّ في الإعتصام، بما لا مزيد عليه[1]، ومن هنا فإنّ خطر هؤلاء خطرٌ جمّ جامعٌ ينتظم غالب الأمة، فيجمد شبابها العامل، ويثبّط الجالس، على درجات في هذا كما بيّنا. فما يقول حازم على الهواء أخطر وأبعد أثراً آلاف المرات مما يسطر العبد الفقير على صفحات هذا الموقع، لقلة الأتباع، رغم أنني أنبّه إلى أنّ عدد الأتباع ليس معياراً للحق، فقد كان لعبد الناصر لعنة الله عليه، أتباع يعدون بعشرات الملايين في زمنه، ولحازم اليوم أتباعٌ بمئات الآلاف، فهل يعنى هذا أنّ حازماً أقل قيمة وأبعد عن الحق من ذاك اللعين؟ لا والله بلّ إنّ القُرب من الحقّ يتناسبُ تناسبا عكسياً مع عدد الأتباع، إن زادوا قلّ، وإن قلوّا زاد، هكذا عرفها السلف، وعرفها الأنبياء من قبلهم، فخذها عنى قارئ العزيز، وقد جاء في الحديث "ويأتي النبي ومعه الرجل والرجلان"[2]. فالأمر ليس أمر أتباع وأشياع، لكنه أمر منهج واقتداء.
ثمّ إنّه كان من أمر الدعاة اليوم، من المخلصين العاملين على منهاج الحقّ، أنْ قد أشاعوا مقولة أنه "دعنا نعمل في طريقنا للدعوة، ودع هؤلاء الذين يسيرون على منهج معوجّ، لا نهاجمهم ولا نبيّن عوراتهم". وهي مقولة تذكرني بمقولة حسن البنا رحمه الله، "نتوافق على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه". كلتا المقولتين فيهما حق ظاهر وباطلٌ كامن. فمن الحق أن لا ينشغل الدعاة بترّهات المخالفين، لكن، صاحب العقل السديد والرأي الرشيد يعرف أنهم يعملون في حال عملك، ويجمدون ما تريد إطلاقه، ويدفعون في طريق الديوقراطية من تريد إبعاده عنها. فهم لا يقفون ينتظرون إثمار زَهْرِك ويَنْعِه، هذا خطلٌ في الرأي. ثم إنّ هناك مسافة فراغٍ وصمتٍ بين تلك الدوائر العاملة على الساحة، تتلاقى فيها في مواضعٍ وتتفرق في مواضع، وتلك المسافة هي التي لا يُبيّن فيها أحدٌ خطأ هؤلاء، عملاً بالمقولة السابقة، فتصمت ويصمتون. مساحة الصمت هذه، وإن كان بعض "المخلصين" يسمونها "حكمة" و "وروية"، إلا إنها تعمل لغير صالح الحق بلا جدال. فهؤلاء هادمون لا يبنون، وإن ظَهر خِلاف ذلك. والفرق بين الداعية الحصيف والعامي هو إدراك مثل تلك الفروقات.
فالحاصل أنّه لمّا تكررت منهم هذه الفعلات وتوالت مثل تلك التصرفات، لم تصبح "خطأ" بالمعنى، لكنها أصبحت دلالة قطعية على منهج معوجّ وطريقٍ منحرف، فكانوا به معوجين منحرفين. وأصبح من الواجب على الدعاة أن يغطوا مساحة الصمت تلك بما هو غضبٌ لله ورسوله ومنهاجه. بم، هداك الله، تصفُ من يزور البيت الأبيض ليتفاوض على الحُكم، ويصمت عمّن يسُب حدود الله عياناً بياناً؟ أي حكمةٍ هذه وأي رويةٍ وأية دعوة؟ أية مصلحة هذه؟ وأين تقف حدود تلك المصالح المفترضة؟ ومن يحد تلك الحدود التي تقف عندها؟
لقد ضربت حول معسكري سياجاً عالياً منذ عقودٍ، لا يتخطاه ليكون معي فيه إلا من خلا من الشرك وأوزاره، قولاً وعملاً، ومن البدعة وأوحالها قولاً وعملاً. وأعرف أنني قد رفعت السياج هذا فلم يتخطاه إلا القليل النادر، بينما انخفض به الإخوان إلى تحت الأرضّ!، ومعهم السلفيون الجدد، وغيرهم، باسم المصلحة تارة، والحكمة تارة، والواقع تارة. وقد رفضت إعتبار هذه الأمور عامتها، إلا ما ثبت شرعيته بدليل قطعيّ كليّ. فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما الذي يحدد ارتفاع السياج المضروب حول معسكر الدعوة، بينها وبين معسكر المخالفين لها؟ إن حدود الولاء أمرٌ، وهذا السياج أمرٌ آخر. فالولاء بين المسلمين، ولو كانوا أصحاب بدعة، ضد الكفار، ولكن الدعوة تختلف إختلافاً تاماً بيّناً، فسياجها أعلى، إذ نوالي حازم أبو اسماعيل ضد البرادعيّ الملحد، لكن لا نجعله يرتقي سياج معسكرنا، وينتمى إلى دعوتنا. هكذا أعمل، وهكذا أرى الأمور المتعلقة بالدعوة تعمل.
وعلى أصحاب الدعوة المخلصين أن يراجعوا أنفسهم في مسألة مساحة الصمت، فالحكمة في غير موضعها ضعف في الرأي والروية جبن وتراجع.
ولعلنا نتلقي تعليقات قرائنا الأحباء، فوالله لا أريد إلا أن يتم أمرُ الله على منهج الله وبوسيلة يرضاها الله.
[1] الإعتصام ج1
[2] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ:خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ عُرِضَتْ عَلَىَّ الأُمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِىُّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِىُّ مَعَهُ الرَّجُلاَنِ ، وَالنَّبِىُّ مَعَهُ الرَّهْطُ ، وَالنَّبِىُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ" البخارى ومسلم وأحمد والترمذي.