الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله صلى الله عليه وسلم
شغفت في مرحلة من مراحل العمر بتناول ما هو من المسائل النظرية، وتقليب وجوه النظر فيها، بغرض الإحاطة بقواعد التصرفات ومرتكزات الأفعال، إذ العمليّ لا يصح إلا إن بُني على نظري صحيح. لكن الأمر أنّ من هذه المسائل النظريّة ما لا يُحتاج اليه في أمر عمليّ مفيدٌ، ومن تلك بالطبع ما يتعلق بعلم الكلام الذي لا فائدة منه. فالقاعدة إذن أن الحديث في النظريات يجب أن يكون مؤدياً لعمل يَنبني عليه، وإلا فلا حاجة لتناوله ابتداءً. ومن هنا ورد قول مالكٍ رحمه الله "لا يصح الحديث إلا فيما تحته عمل".
وقد نَمى في طبعي، في السنوات الأخيرة، ذلك التحسّس من الحديث في النظريّ. لكنّ بعض هذه الأمور ترتبط بواقع عمليّ يجب بيان أحكامه. ومن تلك الأمور ما تناولناه في مقالتَينا السابقتين، وهذا المقال الذي نتناول فيه أمر "إقامة الحُجّة".
دأب الكثير من مشركي هذا الزمان، ومن عتاة المرجئة، أن يتذرعوا بقول أنّ الحُجّة ليست قائمة على الناس، ولا على حكامهم وأمرائهم. ومن ثم، يحاولون التفلت من مقتضى الأحكام الشرعية المُسلطة على رقاب تاركي الشريعة ومنكريها، وكلّ من يقول أو يفعل الكفر، دون تأويل أو اشتباه في دليل.
وهذا المَنحى، هو من أخبث ما حاولته المرجئة والمنافقون والكفار، لضمان استمرار الوضع على ما هو عليه، فإن رَفَعْتَ شبهة الدليل، أو الإشتباه فيه، أو بيّنت أركان التوحيد وأذعتها، جابَهوك بإقامة الحُجّة، يستعملونها في مقام المَحجة، لا للوصول إلى حقٍ، بل للبقاء على باطل. وهكذا هم!
هناك ثلاثة نقاط معتبرة في هذا الحديث، إقامة الحُجّة وإبلاغها، ثم إمكانية توفر وصولها، ثم إفهام الحُجّة للمستمع.
فعن الأولى، يجب أن يعي المسلمُ أن الله سبحانه قد أقام الحُجّة كاملة على البشر قاطبة دون استثناء، ثلاثة مرات. أولها حين ذرأهم أول مرة وأشهدهم على أنفسهم، قالوا شهدنا، وهي حُجّة الفِطرة، قال تعالى في سورة الأعراف "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِىٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا۟ بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَآ ۛ أَن تَقُولُوا۟ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَـٰفِلِينَ ﴿١٧٢﴾ أَوْ تَقُولُوٓا۟ إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةًۭ مِّنۢ بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ ﴿١٧٣﴾"، فقطع على الناس حُجّتيِّ الجهل والتقليد. ثم مرة ثانية وهي حجة العقل، حين أعطاه العقل الذي يَعى ويقدّر، ولذلك خاطبهم في كثير من آياته بقوله "أفلا تعقلون". لكن رحمته سبحانه سبقت، فلم يؤاخذهم بهاتين الحُجّتين، وأرادت مشيئته أن يقيم عليهم الحُجّة الثالثة والأخيرة، حُجةُ الرُسُل، قال تعالى في سورة الإسراء"وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًۭا ﴿١٥﴾". وهذا من لطيف رحمته وفيض كرمهن أن لا يعذب أحداً حتى تأتيه الرسالة.
لكنّ الأمر هنا، أن هذه الآية هي من الآيات الخَبرية لا الإنشائية، بمعنى أنها تُخبر عن فعلٍ واقعٍ، لا أنها تضع شَرطاً لوقوعه. ذلك أنّ الله سبحانه قد أرسل للناس، كلّ الناس، كلُّ الأمم، رسلاً مبشرين ومنذرين، قال تعالى "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍۢ رَّسُولًا أَنِ ٱعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُوا۟ ٱلطَّـٰغُوتَ" النحل 36، "إِنَّآ أَرْسَلْنَـٰكَ بِٱلْحَقِّ بَشِيرًۭا وَنَذِيرًۭا ۚ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌۭ" فاطر 24، "إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌۭ ۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ" الرعد 7. ولذلك قال تعالى "رُّسُلًۭا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌۢ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ" النساء 156. فالله سبحانه، بنصّ القرآن، قد أقام الحجة كاملة بالفعل، ومن أنكر ذلك فقد أنكر حجة الله القائمة على عباده، ودحض رسالات الرسل، واستحق من الله ما أعده له. وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم هو آخر من أقامها، كاملة عامة شاملة مُفصّلة، تقوم على كلّ بشرٍ صليبيّ أو يَهوديّ أو مَجوسيّ أو هندوسيّ أو اسماعيليّ أو أحمديّ أو علمانيّ، أو أي كافرٍ آخر من كفار الدنيا. وهي موجودة سهلة ميسرة بكل لغات العالم المعروفة. وقد بلّغ صلى الله عليه وسلّم الرسالة وأدّى الأمانه وقامت به الحجة على كل بشر.
ولهذا فإنّ الحجة قائمة على كلّ أحدٍ في العالمين، لا يُخالف في ذلك عاقل. وإنما الأمر، كما بيّنا من قبل، في اشتباه الدليل أو خفائه، فيما هو من مصطلحات العصر، مما يجب بيانه للمعيّن قبل إجراء الأحكام عليه.
هذا في بيان إقامة الحجة وإبلاغها.
وهناك بعد هذا الإجمال، بعض التفصيل.
ففي شأن الإستثناء من كُليّة إقامة الحُجة على كل بشرٍ، فقد إعتبر بعض العلماء قد أنّ هذه الآيات مُجملة، وأنه يمكن، في تصوّر العقل، أن يكون هناك من لم يصله قول النذير أو البشير، وتمسكّوا بحديث مفردٍ، معروف بحديث أهل الفترة، أي الذين يأتون على فتراتٍ من الرسل، فيُفقد العلم، وينتشر الجهل، ومن ثمّ تسقط الحجة، وقاسوا عليهم من يعيشون في شَواهق الجبال، وأطراف المعمورة[1]. وإلى جانب ما ورد من أقوال في صحة هذا الحديث، فإنه، فقد أعلّه كثير من العلماء في متنه، بأنّ الآخرة ليست بدار تكليفٍ وإنما دار جزاء[2].
وفي كلتا الحالين، صواء صحّ الحديث أم لم يصح، فإنه من السخافة والبرود وعَطَلِ الرأي والإستهانة بالعقول أن يكون مثل هذا الحديث، إن صحّ، على قائله أفضل الصلاة والسلام، له أيّ دور فيما نحن فيه اليوم. فقياس أهل زماننا على أهل الفترة لا يصح مطلقًا بأي وجه من الوجوه ، وإنما أهل الفترة ـ على هذا القول ـ قد انقطع وجودهم في الأرض منذ أن رُبِطت أجزاؤها بعضها ببعض بشتى وسائل الاتصالات الحديثة التي تكفل انتقال الأفكار والأخبار في مثل لمح البصر. ودونك الإنترنت، والهواتف الذّكية، والحواسيب، وما شئت مما يطوى الأرض طياً في جزء من الثانية. فلما هذا التنطع في الحديث عن أهل فترة أو عن أصمّ؟ ثم من يعيش اليوم في شواهق الجبال؟ أنبؤني بربكم إن كان قائل هذا القول يفقه عن دنياه شيئاً.
ثم النقطة الثانية، التي تترتب على ذلك، هي ما المقصود بتوفر إمكانية وصول الحُجّة؟ إمكانية وصول الحُجّة يعنى أن تكون الحُجّة ظاهرة بيّنه، يسهُل الوصول اليها لمن أراد، دون مانع أو عائق، ولا تعنى أن يقوم البشير أو النذير أو الداعية بالحديث المباشر، وجها لوجه، مع كل بشرٍ. هذا لم يقل به أحدٌ من العالمين. ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان يغزو القرى إن لم يظهر فيها الآذان، ولم يرسل أحداً لكل بيت، وكلّ شخص بعينه، يحدثه ويفهمه الحُجّة، ولا يغادر بيته إلا إن صَرّح إنه فَهم عنه قوله ووعاه! هذا قولٌ باردٌ سخيفٌ لا يتصوّره عاقل. فالأصل أنّ إمكانية وصول الحُجّة متوفرٌ لمن أراد، وهو المعوّل عليه، وما هو معقولٌ في ذاته. فإنّ كافة القوانين الوَضعية تنشر القرارات الحُكومية في الجريدة الرّسمية، ثم يُعامل كلُّ الناس على أنها وصَلت لهم، وأنّهم يَعونها، ولا يَرتفع العِقاب عن أحدٍ بدعوى أنّه لم يقرأ الصحيفة! هل يظنّ ظانٌ أنّ مبارك لم تبلغه الحُجّة؟ أو الإبراشيّ أو البرادعيّ؟ ومن هو المكلّف بإقامة هذه الحُجّة؟ أيذهب الشيخ عبد المقصود، ثم محمد حسان ثم الحويني ثم من شاء الله من هؤلاء من منتسبي العلم؟ وماذا عن شيخ الآزهر والمفتى؟ ألا يجب أن يكون على يقين من إقامة الحجة على كلّ أحدٍ؟ برودٌ على برودٍ على برود.
ثم الثالثة، هل يُقصد بإقامة الحُجّة إفهامها للناس فرداً فرداً، واحداً تلو الآخر؟ ثم هل لا تقوم الحجة حتى يفهمها السامع، أم هناك حدّ من الإعلام تقوم به الحجة، ولو لم يَفهَمها؟ وهل العِبرة في بلوغها، أم إمكانية بلوغها؟ والأصل هنا هو أنّ كلّ فردٍ قادرٍ واعٍ فاهم، إلا من عَرضت له إحدى عوارض الأهلية المتعلقة بهذا الأمر، من جنونٍ أو عته أو إكراه ملجئ (وهو عارضٌ مؤقت)، أو جهلٍ (وهو ما ارتفع خاصة في زماننا هذا إلا ما كان من اشتباه في دليلٍ أو مصطلحٍ أ مسألة خفية كما بيّنا).
وأخيراً، فإن هذا الحديث، لا يعنى أن يخرج الدعاة إلى الله، يكفّرون خلق الله في كلّ ناحية، فكما أوضحنا في مقالتينا السابقتين، أن الأصل لا يزال في الرقعة الإسلامية هو إسلام الأفراد دون تعيين إلى أن يَثبت العكس يقيناً، وكُفر الأنظمة، وجاهلية المجتمعات. ومن ثمّ يجب أن نفرّق بين هذه الكيانات والتوصيفات، إن أردنا الإنصاف. ومن هنا فإنّ الخلل يأتي من أولئك الرويبضات الذين لا طاقة له بمثل هذا النظر، فيعيثون في الأرض تكفيراً أو أسلمة، على حدٍ سواء.
والله الموفق.
[1] جاء عن الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبدالله ثنا معاوية بن هشام ثنا أبي عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئاً ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في فترة ، فأما الأصم فيقول : رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً ، وأما الأحمق فيقول : رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر ، وأما الهرم فيقول : رب جاء الإسلام وما أعقل شيئاً ، وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ما أتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه ، فيرسل إليهم : أن ادخلوا النار ، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً] . (68)
[2] راجع تفصيل هذا الموضوع في كتابنا "الجواب المفيد في حكم جاهل التوحيد" طبعة دار ريم للطباعة، ويطلب من مؤسسة براءة بمدينة نصر.