الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
صدر عن تلك الدار التي يسمونها في مصر "دار الإفتاء"، البيان التالي"رحبت دار الإفتاء المصرية بالحكم الذي أصدرته محكمة القضاء الإدارى بالإسكندرية، بحظر إصدار الفتاوى من غير دار الإفتاء. وقد جرّمت المحكمة استغلال منابر المساجد فى الصراعات السياسية لما يسببه من ضرر فادح على وحدة الإسلام والمسلمين. وقالت فى حكمها :لا نجيز خلط الدين بالسياسة". كذبٌ وتضليل أحلام وسفسطةٍ (كما قال المتنبي).
نقاطٌ عدة، وبلاءات شتي، أود أن أوردها على هذا التصريح الكالِح الكافرِ المَعيب.
أولا، أودُ أن أبين الفارق بين تعبيرات الشريعة، وتعبيرات القانون، إذ إن الخلط بينهما من أهم أسباب تساهل الناس في قبول غير شرع الله حاكماً في حياتهم. فالتجريم مصدرٌ لمن ارتكب جرماً، والجريمة هي ما يعاقب عليها القانون، أي تكون في نظره جريمة. أما التعبير الشرعيّ فهو التحريم، أي ما يكون مخالفاً لحكمٍ شرعيٍّ ثابتٍ بأيّ من الأدلة الشرعية المعتبرة. وهذا الفارق يسرى بنفس الدرجة على المحاكم الوضعية السائدة في مصر، وبين المحاكم الشرعية التي تحكم بناءً على ضوابط الحكم الشرعيّ ومعطيات الواقع، بمنظار الإسلام وقواعده. وهو ما يدفعنا إلى أن نقف وقفة مع من يدّعون تطبيق الشريعة، فإذا بهم يرجعون إلى المحاكم الوضعية، يستفتونها في أوضاعهم الإجتماعية والإقتصادية والسياسية. هذا بلاءٌ أول.
ثم بعد أن استفحش الكفر وظهر، ونصّ برأسه اللعين، متخفياً بأسماء الصباحيّ والبرادعيّ والبدوىّ، ومرتدياً ثياب ما يسمونه العلمانية، فلا أعجب من أن ترحب تلك الدار الملعونة في تصريحها، بقول محكمة الكفر الإدارية "إنه لا يجوز خلط الدين بالسياسة"! لو أنّ قائلاً ذكر هذا منذ خمسين عاماً في مصر لرجموه، لكن دولة الإخوان، دولة الديموقراطية، دولة الإسلاميين، قد سمحت في ظلها أن يقال هذا الأمر، الذي ينزِع ما يسمونه السياسة من يد الله سبحانه، ويرجعها إلى البشر، يصدرون فيها ما يشاؤون من تشريعات، وكأن الله سبحانه لا يعلم عن السياسة، أو كأن السياسة ليس في منهاج حياة البشر الذي رسمه الله لهم ليحيوا به، تعالى الله عما لا يقول الظالمون عُلوا كبيراً. وماذا تنتظر ممن يرى أنّ الصليبيّ المُثلّثّ، الذي يدعى أن لله ولداً، هو من أصحاب الجنة، وأنه أخ في البشرية والوطن والحقوق؟ لا والله، ليس بعد الكفر ذنب. وهو البلاء الثاني.
ثم إننا قد تحدثنا مراراً من قبل عن فوضى الفتوى، وعن أنّ الكثير من عيال المسلمين قد تجرأ عليها بلا شكّ، لكننا كنا نصدر في نقدنا هذا من منطلق علميّ شرعيّ سديد، وهو أنّ الإفتاء توقيعٌ باسم الله ورسوله، ونيابة عن الشرع الحنيف. ومن ثمّ لا يصحُ أن يتولاه رويبضات الفيس بوك، ولابسي ثياب الزور على النت. إنما منطلق هؤلاء "من ساكني ديار الفتوى العاطلة، هو منطلقٌ برجماتيّ لا يعتمد على دينٍ ولا يتقيد بشرع. هؤلاء المُرحّبين بحكم المحكمة الإدارية الشركية الوضعية، يريدون الحفاظ على مناصب يعلم الله أنه ليس هناك من يوقرها ولا يحترمها، طالما أنّ أمثالهم قائمون عليها. فالإخلاص لا يصْطَنعه متصنّع، والهدى لا يتجملّ به مُتكلِّف. بل هي صفاتٌ يصبغها الله على المؤمنين المهتدين حقاً وصدقاً. وانظر بِمَ يذكر الناس العز ابن عبد السلام سلطان العلماء، وبم يذكرون على جمعة أو أحمد الطيب، سلاطين المنافقين، ودجاجلة الإفتاء وأساتذة قول الزور. وهو البلاء الثالث.
ثم إن فضوى الفتوى، لا تبرر الفتوى بالفوضى. فإن هؤلاء المعينون من قبل نظامٍ ما، يفتون بما هو في الصالح السياسيّ لذاك النظام، يعلم ذلك القاصى والداني. فأن يقيد الحديث في دين الله بمثل هؤلاء، بل بمن هم من خريجي كلية أزهرية بالذات، بل بمن هم من المَرْضيّ عنهم من رؤوس تلك الدار المعطّلة، ولو كان من الأزهر، لهو تقييدٌ لدين الله ومصادرة لمصادر العلم، بقوة "القانون" لا بقوة الشرع. وقد استشهد ذاك الدَعيّ كاتب البيان بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو ، يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ , أَوْ لا يَرْفَعُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ بِعِلْمِهِمْ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" رَوَاهُ مُسلم. وهو حديثٌ في غاية القوة والصحة، ودليل على النبوة. فإن هؤلاء القابعين في تلك الدور المعطلة قد عيّنهم العاطلون عن الدين في مناصب العلماء بعد أن ثقلت كلمات العلم عليهم وأرادوا أن يجعلوا علماء السلاطين هم رواد الدين في هذه الأمة، فهم الرؤوس الجاهلة، الضالة المضلة، لا من يريون منعهم من الإفتاء. وهل تخرّج بن تيمية رحمه الله أو ابن القيم أو بن كثير أو أحد الإئمة الأربعة أو ما شئت من علماء المسلمين على مرّ التاريخ من الأزهر؟ بل إن الإمام السيوطيّ المصريّ لم يتخرّج من الأزهر رغم وجوده أيامها! تلك والله بدعة مريضة معيبة قادحة في عدالة من يقول بها بلا خلاف. بل ضوابط الإفتاء هي التحلي بالعلم الشرعيّ المطلوب في مجالاتٍ شتى، على رأسها التفسير وعلم الحديث، وأصول الفقه، والفقه المقارن، لتتيح للمفتي أن يكون عالماً بأقوال الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن سبقه من العلماء، فلا يخرج بشذوذات لا أصل لها، يخرق بها الإجماع، ومعرفةً بالقواعد العامة والكلية، وقواعد المصلحة وضوابطها ومقاصد الشريعة، ثم معرفة بالواقع وضبط معطياته. وعلى رأس هذه الباقة من الشمائل العلمية، البعد عن الحُكام، وعن المناصب الرسمية، وعن الإعلام النجس، وعدم التكسب من الإفتاء ما استطاع. وفوق هذا وذاك، تقوى الله والخوف منه، والقدرة على مواجهة الحاكم دون وجل، وهي القاصمة التي قتلت غالب هؤلاء من سكان تلك الدار العاطلة "دار الإفتاء".
لا والله لن يسكت مسلمٌ آتاه الله علماً صحيحاً أن يُبلغ كلمات ربه، بسبب من محكمة تفصل الدين عن الدولة وتكفر بخالقها، أو بسبب جمعٍ من "آكلي الفتة" الذين يريدون السيطرة على الفتوى.