فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      حقّ المرأة في الخُلع بين الحفظ والضّياع

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      (1)

      كان الدافع وراء كتابة هذا البحث، والانحراف عن مسار الأحداث التي تقع على الساحة المصرية، بشكلٍ مستمر وعنيفٍ، هو أنّ الواقع المسلم لا يزال يفرِض نفسه على حياة الناس، برغم كل ما يتردّد على الساحة السياسية من تغيرات. فالرجال والنساء لا يزالون يطلبون الزواج، ولا يزالون يختلفون، فيفترقون بإحسانٍ أو بغير إحسان. ولا يزال العاطلون يطلبون العمل، والساعون للإستقرار يطلبون السكن، والطلبة يريدون النجاح، والموظفون يريدون العلاوة ..الى آخره من أشكال الحياة الإجتماعية، التي لا تتوقف لحظة واحدة عن السعي في طريقها، سواء كان مرسى رئيساً أو البرادعيّ، أو حمار الحكيم!

      أما السبب المباشر وراء هذا البحث، الذي احتفظت به عدة شهورٍ قبل نشره، فهو ما تلقيت، ولا أزال، من رسائل الكترونية من سيداتٍ، من شتى البلاد العربية، بشأن خلل في حياتهن الزوجية، إما عارض وإما مستمر، وإما عميق أو سطحيّ. وهو ما يعرفه كلّ من مارس الدعوة، واتصل بأسباب الناس، ودخل في معتركات مشاكلهم، مُصلحاً أو محكّماً أو موجّهاً ومرشداً، حسب الحال. وأخص بالذكر هنا رسالتين كانتا السبب المباشر فيما كتبت، وما سأكتب في هذا الشأن إن شاء الله تعالى.

      الرسالة الأولي كانت من سيدة تحيا مع زوجٍ من ذوى الإيمان الضعيف، وممن يمتهن مهنة محرّمة في اٌلإسلام، يتكسب بها رزقاً له ولعياله. ولمّا نَصَحَت له السيدة، التي رزقها الله طفلين منه، أن يترك هذا العمل المحرّم، وبيّنت له أنّ "كل لحمٍ نَبَتَ من حرامٍ فالنارُ أولى به" صحيح، فأبى واستكبر، وعاند وتمرّد، وصار يضيّق عليها ويُسمعها ما تكره. وصار يتحجج بأقوال بعض من أفتى في هذا الأمر بالحلّ من أشباه "علماء" هذا الزمان. وكان أن طلبت المرأة الطلاق من زوجها، فأبى، فلجأت للخلع، إلا إنها ووجهت بهجومٍ عنيفٍ صارمٍ من كلّ من حولها، يقبّح لها الخلع، ويجعله حراماً، ويضعها في صفِّ المنافقات إن استمرت على هذا الطلب.  وحين لجأت المرأة إليّ لطلب النصح، نصحت لها أنّه رغم أن الزوج يرتكب محرّماً، وهو أمرٌ بشعٌ، إلا إنه يجب عليها الإستمرار في نصحه بالإقلاع عنه. وبيّنت لها أنه فارقٌ كبيرٌ بين أن يكون رجلاً يرتكب معصيةً أو حراماً، وأن يرتكب كفراً بواحاً. ففي حالة أن يكون الزوج ممن يرتكب الحرام، فالأولى على الزوجة في هذه الحالة أن تصبر، ما استطاعت، خاصة ولها طفلان في حاجة إلى عائلٍ وأبٍ. وهذا لا يعنى أنها مجبرةٌ على الاستمرار في الحياة إن أرادت الخلع، إن آذاها وقهرها، وهو ما فصّلت فيه القول في البحث التالي.

      أما الرسالة الثانية، فكانت من زوجة ابتلاها الله بزوجٍ لا دين له. ولم تكن تلك السيدة من صاحبات الدين وقتها، فلم تأبه كثيرا لهذا البعد الخطير في مواصفات الزوج. ثم مرّت أعوامٍ رُزقا فيها بعدة أطفال. وانتبهت السيدة، حسب روايتها، لدينها وعادت إلى ربها، وإذا بها تعيش مع زوجٍ لا يصلى، ويستهزأ بدين الله، ويعلن إلحاده فيه، وأن الدين خرافة تليق بسفهاء العقول. ثم ما يصاحب هذا الخلق من إهمال للزوجة يصل إلى حدِ التجاهل التام. وإذا بالسيدة تكره هذا الرجل كرها شديداً، وتحاول أولاً أن تثنيه عن كفره، فيأبى، ثم تهجره عاماً ليعود إلى رشده، فيأبى، فتوجهت بالسؤال عمّا يمكنها أن تفعل في هذا الأمر، خاصة وقد أصبحت، حسب رسالتها تعصى الله فيه، بهجره وإنكاره حقه، وإن حافظت على شرفها ودينها. وكان ما أفتيت به وقتها أن تحاول الصبر، وأن تهجره، إلا إن زاد في عناده، فلا بأس عليها أن تطلب الطلاق أو الخلع، على ألا يؤثر ذلك على حق الوالد في رؤية أبنائه. ولا عليها أن تخشى عيلة فإن الله سبحانه يرزق من يتقيه ومن لا يتقيه، فحقيقة كفر الرجل ثابتة، حسب رواية السيدة، وحياة المسلمة مع كافرٌ هي موضوع البحث التالي إن شاء الله تعالى، مع توجّهى إلى الرأي القائل ببطلان الزواج وضرورة فسخه، للعديد من الأسباب التي سأبينها، خاصة مع وجود أولادٍ يُخشى على دينهم من إلحاد أبيهم.

      ثم إلى البحث الأول ..

        (2)

      لا أعرف عن أولئك الذين يتحدثون عن الخلع في الشريعة وضرَره على الأسرة، إذ يحيرني موقف هؤلاء من هذه القضية، وحق المرأة فيه، لأنه حقٌ يتعلق بالحديث الصحيح الذي لا يَسع المُسلم إلا أنْ يسمع له ويطيع، كما يسمع ويطيع في بقية مفرَدات السّنة النبوية على صاحبها أتم الصلاة والسلام. وما أرى هذا التوجه من تلك الطائفة فقهاً، بل هو خضوعٌ لضغط من الرجال عامة، وكسب شعبية انتخابية، فكم من فقه وعقيدة قد تركت هملاً.

      أمرنا هنا لا يتعلق بقضية حقوق المرأة، التي قدّمها الغرب في بدايات القرن السالف، بعد أن قامت الثورة الصناعية، واحتاج النظام الرأسماليّ إلى تكثير اليد العاملة الرخيصة، على حساب البناء الإجتماعيّ، وهي قصة معروفة لا محل لتتبع تفاصيلها هنا، وإنما أردنا أن ننبّه إلى أنّ هذه القضية وليدة ثقافة معينة، وتصورٍ محددٍ، ليبرالي مُنحل، قام على أساسٍ اقتصادي رأسماليّ، يدعمه نظام سياسيّ يقوم على الديموقراطية، ويروّج له دينٌ يهوديّ صهيونيّ، بعد أن حَسم الصّراع في الغرب الجديد لصالحه ضد القيم المَسيحية التي كان لا يزال بعضها محفوظٌ من الضّياع والتحريف الذي اعترى غالب الإنجيل المُنزّل. "قضية المرأة" إذن هي صنيعة ظروفٍ لا دخل لدين الإسلام ولا للمسلمين أو المسلمات بها. هذه قصة محسومة والحمد لله تعالى.

      إنما يتعلق الأمر بما جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخارى عن بن عباس رضى الله عنه "قَالَ جَاءَتِ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَنْقِمُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ إِلَّا أَنِّي أَخَافُ الْكُفْرَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ فَقَالَتْ نَعَمْ فَرَدَّتْ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا"، وقيل هي جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، وقيل هي حبيبة بنت سهل الأنصاري، وهو الأصح. كما روى عن العديد من الصحابة، وورد في الطبراني والبيهقي ومصنّف عبد الرزاق، وهو صحيح حتى في طريقه المرسل عن حماد بن زيد عن أيوب السختياني، فحمّاد أثبت الناس في روايته عن أيوب. ولا محلّ هنا لتتبع الروايات لأن الحديث، في نهاية الأمر، صحيح معمول به، دون معارضة.

      المتأمل المنصف في هذا الحديث يرى ما يلى:

      • أنّ ثابت بن قيس رضى الله عنه كان على خُلقٍ ودين، وكيف لا وهو صحابيّ جليل.
      • أنّ ثابت لم يكن يؤذى زوجته ولا يضربها ولا يهينها بأي شكلٍ من الأشكال، وإلا ما شهدت له بالخلق والدين معاً.
      • أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يراجع جميلة ولا مرة واحدة في قرارها، أو إن شئت طلبها. بل قد أخبرها بحكم الشرع في هذه الحالة وهو أن تعيد اليه ما أعطاها لمنع الضرر، لا غير، بل في رواية قتادة بن دعامة السدوسيّ قال صلى الله عليه وسلم " فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا حَدِيقَتَهُ ، وَلاَ يَزْدَادَ".
      • أنّ رغبة امرأة ثابت كانت نتيجة عدم الرضا النفسيّ عن الحياة مع زوجها، مما يدفعها إلى ارتكاب ما لا تريد من عظائم الأمور كعدم الطاعة له، أو خيانته بالتفكير في غيره، أو ما شابه.
      • أنّ عدم النكير من رسول الله صلى الله عليه وسلم على المرأة يعنى إقراره له، إقراراً مستوي الطرفين، لا كراهة ولا استحباباً.
      • أنه لو كان في الأمر كراهة أو تحريماً لما سكت عنه رسول الله الله صلى الله عليه وسلم بله الموافقة عليه، إذ لا يصح أن يقر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً على أمرٍ منهيّ عنه كراهة أو تحريماً، كما أنه لا يجب تأخير البيان عن وقت الحاجة. فلو كان الأمر حراماً أو مكروهاً ما سكت النبيّ عن توضيح ذلك ولو بالإشارة. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو عن مواصلة الصوم، ثم تركه يواصل، بعد أنْ أثبت النهي، لخوف الخروج عمّا ألزم به نفسه. فكان المفترض هنا أن ينكر علي امرأة ثابتٍ قبل أن يجيزها، ولم يحدث.
      • أن الخوف من عدم إقامة حدود الله سبب مشروع للفراق بين الزوجين، كما في قوله تعالى "إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله"، من الرجل بالطلاق، ومن الزوجة بالخلع، بلا إثم على أيّ منهما.
      • أنّ هذا يعنى أنّ امرأة ثابت بن قيس ليست من المنافقات.

      والذي نراه هنا هو أنّ الفقهاء والمفسرين قد أجمعوا على مشروعية الخلع كما جاء في فتح البارى "وأجمع العلماء على مشروعيته إلا بكر بن عبد الله المزني التابعي المشهور فإنه قال : لا يحل للرجل أن يأخذ من امرأته في مقابل فراقها شيئا لقوله تعالى فلا تأخذوا منه شيئا فأوردوا عليه فلا جناح عليهما فيما افتدت به فادعى نسخها بآية النساء. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنه ، وتعقب مع شذوذه بقوله تعالى في النساء أيضا فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه وبقوله فيها فلا جناح عليهما أن يصلحا الآية ، وبالحديث وكأنه لم يثبت عنده أو لم يبلغه ، وانعقد الإجماع بعده على اعتباره وأن آية النساء مخصوصة بآية البقرة وبآيتي النساء الآخرتين ، وضابطه شرعا فراق الرجل زوجته ببذل قابل للعوض يحصل لجهة الزوج. وهو مكروه إلا في حال مخافة أن لا يقيما - أو واحد منهما - ما أمر به ، وقد ينشأ ذلك عن كراهة العشرة إما لسوء خلق أو خلق". كما جاء فيه "ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله" إلى قوله الظالمون. وأجاز عمر الخلع دون السلطان وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها وقال طاوس إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فيما افترض لكل واحد منهما على صاحبه في العشرة والصحبة، ولم يقل قول السفهاء: لا يحل حتى تقول لا أغتسل لك من جنابة" فتح الباري باب الخلع.

      وقد جاء الكثير من الفقهاء والمفسرين بأقوال يشرحون بها هذا الحديث، ويجهدون في إثبات أنّ المرأة التي تطلب الخلع آثمة. واعتمدوا في ذلك على حديثٍ رواه الطبرانيّ في معجمه، لم يصححه إلا الألبانيّ عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال "إن المختلعات هن المنافقات". ولا أريد أن أدخل في تفاصيل تصحيح الألباني للحديث، لكنه، على كلِّ حالٍ، أقل درجة في الصحة من حديث امرأة ثابت بن قيس، فحديثٌ رواه البخاريّ، ليس كحديث رواه الطبريّ في المعجم الكبير، ومعلوم ما في المعجم الكبير من ضعف، وإن صحّحه الألبانيّ، فيُقدم مفهوم الأول عن الثاني، إن لم يتوافقا، وهما متوافقان إن شاء الله كما سنبيّن.

      ونحن لا نردّ الحديث، إذ قد صحّحه الألباني، ولكن نرى ضرورة أن يتناوله الفقه بما فيه من تقديرٍ للمناطات أولاً، وإعتبار ما في ظواهر الحياة الإجتماعية في البئيات المختلفة ثانياً، ثم في الأصل العام الذي جاء به الإسلام وهو أن الله سبحانه قد سوى بين البشر، رجالاً ونساءً في الحقوق والواجبات، مع اختلاف طبيعة كلٍّ من تلك الحقوق والواجبات. وهو ما سنتناوله ببعض التفصيل فيما يأتي.

      فالنفاق الذي يشير له الحديث يعنى، إن أخذنا في الإعتبار حديث امرأة ثابت بن قيس، هو أنّ المرأة تُظهر أنها تريد الخروج عن رباط الزوجية بطريقٍ مشروعٍ، وهي تريد التَحيّل لتحصل على إربها في الرجال باطناً. ولا مجال لمعنى النفاق هنا إلا هذا التخريج، إذ لم يأت الحديث بكلمة الخائنات أو الجاحدات. وهذا يعضد ما قاله بعض العلماء في هذا الشأن.

      وقد جاء في جلّ هذه التفسيرات أنّه لابد من أن يكون هناك سببٌ للخلع. ذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل المرأة عن السبب، في بعض الروايات، وفي بعضها عرضته هي دون سؤال، وأنّ أصل طلب الخلع الكراهة. وهو صحيحٌ إن كان سبب الكراهة هو خشية أن تتخذه بعض النساء وسيلة للتردد بين الرجال، وفتح باب الفاحشة. وهذا يتعلق بمناط محددٍ، لا يجوز أن يُسحب على أصل الحكم في المسألة كما نرى، إذ الأصل هو الإباحة مستوية الطرفين. إنما الأمر في تعيين السبب - أو في هذه الحالة المناط - الذي فيه يكون حكم طلب الخلع مكروهاً أو محرّماً.

      حتى إن سلّمنا بحكم الكراهة الأصلية في الخلع، كما هي في الطلاق، لأنّ فيه تفريق مبغّض بين زوجين قد أفضى بعضهما إلى بعض، فإن مناط كلّ حالة يجب أن ينسحب على حكم تلك الحالة خاصة، فلا تُرمى كُلّ امرأة تطلب الخلع بالنفاق والإثم والخروج عن طاعة الزوج، كما هو اليوم متعارفٌ عليه. هذا حرامٌ لا يجوز.

      هذا أمرٌ، والآخر هو أنّ الكراهة التي قد تكون بين الزوجين، مما تجعل الحياة بينهما خالية من أيّة مودة أو رحمة، بله الحب الذي يجب أن يكون عاملاً في الحياة الزوجية، هي سببٌ كافٍ لأن تطلب الزوجة الخلع. ففي بعض الحالات نجد أنّ الرجل يحتفظ بزوجه لتكون خادمة له ومربية لأولاده، وهو بالخيار أن يتزوج الثانية. وهذا فيما نرى، تَرْكَها كالمُعلقة. فهي بالخيار ساعتها، إن رضيت بهذا بقيت، أو إن كرهته فارقت.

      وأمرُ المشاعر المتبادلة بين الزوجين ودوره في استمرار العشرة على المودة والمحبة، أمرٌ لم يأخذ حقه فيما كُتب في الفقه، فلم يعتبر بما هو لائقٌ به، وهو ما نعيبه كلّ العيب، كما أن حقّ المرأة في إعتبار مشاعرها وحقوقها الفطرية - ولا نقصِد الجسدية بل النفسية - قد تجاوزته كتب الفقه بما يجب تداركه. وما نرى ذلك إلا من باب من استصحبه فقهنا من تأثير البيئة والظروف الإجتماعية المحيطة.

      لقد كان دور الإسلام، الذي قدّمه وقام به على أحسن صورة، هو إعادة صياغة وبناء الحياة الإنسانية على أفضل ما أراد لها خالقها، بأن يُبقى على ما صحّ منها ويؤكده، ويلغى ما بطل منها ويستبدله. وهو ما تَمّ على أكمل وجه في عصر النبوة، وعقود بعدها في عصر الراشدين.

      فمن هذه الأمور التي صُحِّحَت، تلك النظرة التي كانت الجاهلية تعامل بها الأنثى، منذ مولدها، بأن تعتبرها عاراً على والدها، فهي مولود يتحير فيه الأب حين يرزق به "أَيُمْسِكُهُۥ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُۥ فِى ٱلتُّرَابِ". وجاءت إجابة التساؤل "أَلَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ" النحل 59. كانت المرأة سلعة تعرض في سوق النخاسة، ويجوز للرجل أن يتخذ ما شاء له من زوجات، دون قيد أو شرط. فجاء الإسلام بتحديد هذا الحق إلى أربعة زوجات، وشرط فيه العدل بينهن وحثّ على الواحدة، إن خيف عدم العدل بينهن، اجتناباً للإثم وعقاب الآخرة.

      وقد صاغت تعاليم الإسلام حضارة العرب والمسلمين، وحفظتهم من الكثير من انحرافات الفطرة، حين تنعزل عن الوحي الإلهي، وضمنت أن تنشأ أجيالٌ متعاقبة، خالية من كثيرٍ مما كان شَائعاً في الجاهلية.

      ثم إنّ الحَضارة، التي تعنى سُبل العيش وطرق التعامل التي يشترك فيها جَمعٌ من البشر، لها أثرها على الطبائع الإجتماعية، سواسية بكافة مناحى الحياة، بما لا تنجو منه حضارة. فالمفتون والمُشرّعون، بل والعلماء، هم كذلك وليدى حضارة معينة، يتأثرون بها وبما تقدمه بشكلٍ جماعيّ، وتتأثر بهم بقدر ما يقدمه كلّ منهم، فرداً متميزاً له شخصيته وخلفيته.

      لكنّ البشر هم البشر، لا يخلو أمرهم من انحراف وتأثُرٍ وتفاعلٍ بما حولهم، كما لا يخلو من الحفاظ على تقاليدٍ وعاداتٍ بقيت في آبائهم قروناً عددا. ويخطؤ من يظن أنّ حضارة المسلمين، على كمال رسالة الإسلام، قد قامت عارية من العيوب، أو خالية من آثار البيئات التي غزتها تلك الحضارة، بعد القرون الثلاثة الفضلى. ذلك أنّ تلك البيئات المتفاوتة قد دخل أهلُها في الإسلام عقيدة، لكن احتفظوا ببعض ما ترسّب خلال تاريخهم من عادات وتقاليد. وليس أدلّ على ذلك مما اعترى الدول العربية، وخاصة مصر من شبه منعٍ للتعدد، يصل به إلى درجة التحريم، لإختلاط المسلمين هناك بأكبر أقلية نصرانية في تلك البلاد.

      إن المسلمين، وهم بشرٌ من البشر قد تأثّرت نظراتهم واعتباراتهم بما يشيع في حضارتهم التي تتكون من مفردات دينهم، ثم من عادات وتقاليد توارثوها، يصعب أن يتحول عنها فكرهم وفقههم بالكلية.

      وكما ذكرنا، فإن الله سبحانه قد سوّى بين البشر، رجالاً ونساءً في الحقوق والواجبات، مع اختلاف طبيعة كلٍّ من تلك الحقوق والواجبات. إنما الأمر أنّ قَدْرَ "الإنسان" عند الله سبحانه متساوٍ سواء كان ذكراً أو أنثى. وعليه فقد توجّه التكليف على كليهما بشكلٍ متساوٍ، وإن كان هذا التساوى يتلاءم مع طبيعة كلّ منهما، وما خلقه الله من فطرة وقدرة متفاوتة بينهما. إلا أنّ ما نؤكد عليه هنا هو أنّ الرجل ليس أفضل عند الله من المرأة، ولا هي أفضل عنده سبحانه من الرجل. وهو مقتضى العدل الربانيّ ولازم الحكمة الإلهية. بل قد قال تعالى "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف". ثم جاء فضل الدرجة، الذي فسّره الناس على أنه درجة فضل تجعل من الرجل أعلى قدراً منها. والحق أنها فضل الدرجة[1] التي تجعل الرجل محقوقاً وقواماً بما كان له من قدراتٍ أكبر، تجعله مطالبٌ بفضلٍ أكبر تجاه المرأة، لا العكس. وهذا ما رأيناه في سيرة رسول الله صلى الله عليه سلم وما كان فيه من خيرٍ لأهله.

      وليس من العدل الإنصاف بين البشر أن يتاح للرجل أن يُطلق امرأته، أو أن يبقيها ويتزوج غيرها، وهي تعيسة كارهة غير راضية، دون أن يُفتح لها باباً، مع التحذير من وُلوجِه بالباطل، كما فعل الشارع الحكيم في موضوع التعدد واشتراط العدل المقدور عليه - أي ليس كلّ الميل - من الرجل. وهو كان من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، تأولا لآية البقرة "إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِۦ" البقرة 229.

      ثم إنّ طاعة المرأة لزوجها لا تعنى أنْ ينكر الفقه حقها في الإنفصال عنه بعوضٍ كما أقره صلى الله عليه وسلم، إن كانت تكرهه، أو لا تحمل لما يجب أن يكون بين الزوجين من مشاعر مودة ورحمة. كما إنه يحق لها أن تطلب الخلع إن رأت منه خفة دين، كما جاء في فتاوى بن جبرين " إذا كان ناقص الدين بترك الصلاة أو التهاون بالجماعة أو الفطر في رمضان بدون عذر أو حضور المحرمات كالزنا والسكر والسماع للأغاني والملاهي ونحوها فلها طلب الخلع".

      يقول المُعترضون على الخلع إنّه تسبب في الكثير من المشكلات الأسرية، من هنا وجب إلغاؤه أو تقييده، فنقول وكم من المشكلات سببها الطلاق ممن لا دينة له؟ وكم من المُشكلات سبّبَها التعدد ممن لا عدل عنده؟ فهل نلغى الطلاق أو التعدد أو نقيّدهما لهذا السبب؟ ونحن لا ننكر أنّ هناك من النساء من يسئ استخدام هذا الأمر، ومنهم من يخرّب بيوتاً دون داعٍ أو سبب، إلا شهوة التمتع. لكن، أليس هذا هو بالضبط ما يحدث من العديد من الرجال، أنْ يُطلق أو يخرّب بيته ليتزوج ويعدّد، فلم ينكر عليه أحدٌ حقه في الطلاق، ولا حقه في التعدد؟ إذ هما مباحان في الأصل، فلا يصح إخراجهما عن حكم الإباحة إلا بسبب شرعيّ. وهل يقع الحكم الشرعيّ ليعالج الأقلية، أم هو موضوعٌ للأغلبية، ثم الإثم على الأقلية المخالفة؟

      ثم دعونا نتحدث عن الواقع، أين هي المرأة التي ترضى عن حياتها، ويشملها الود والحب في حياتها، ثم تطلب الخلع، لتواجه حياة صعبة قد تكون غير مؤهلة لها؟ أليس هذا من قبيل الخيال الأرأيتيّ؟ إن الغالب الأعم ممن تطلب الخُلع، هي إمرأة إما أن تكون يائسة من زوجها أن يلتفت اليها ويعاملها معاملة الزوجة لا الخادم، وإمّا أن تكون صلة المودة والرحمة والحب بينهما أصبحت لا وجود لها إلى درجة يصعب عليها أن تعاشرته، جماعاً، دون أن تشعر أنها مجبرة على هذا الفعل، وهو أسوأ ما يمكن أن تتعرض له نفسية إمرأة، أو أن يكون ممن ترك صلاته وذهب دينه فلم ترَ فيه مُعيناً لها على دينها، بل هادماً لدينها ودين أبنائها كمثالٍ سئ لهم. ولا نظُن إلا أن المرأة تطلب الخلع في الغاية القصوى من هذه الحالات.

      ولا يحسبنّ أحد أنّى التحق بركب يوسف القرضاوى أو سليم العوا أو أشباههما، في محاولة فرض ما يوائم الثقافة الغبية الغربية. بل إنى من أشدّ الناس معارضة لما ذهب اليه القرضاوى في غالب ما ذهب اليه، كباب دية المرأة على سبيل المثال، إذ كلُّ الأدلة تدل على أنها نصف دية الرجل، من حيث إنها عوضٌ لا قيمة. إنما الحقٌ أحقٌ أن يقال ثم يُتبع. ونحن لا نتحدث إلا بما جاء في كتاب الله سبحانه وما وردت به السنن. والأريب من رأي عيبه فأصلحه.

      كما إننا لا نرى إلا أنّ قانون الحضانة التي فرضته زوجة الفرعون السابق مبارك، جائرٌ متجاوزٌ لحق الأب في التربية والتنشئة.

      ولعل القضَاء الشّرعيّ، إن كان لمصر نصيبٌ في أي يعود فيها القضاء الشرعيّ، أن يكون عادلاً منصفاً كما أراد الله سبحانه، وأن يعير الإلتفات إلى كافة أبعاد مثل تلك القضايا الشائكة، التي جعل الإسلام لها حلولاً ليس أفضل منها للمختصمين فيها.


      [1]  راجع مقالنا "درجة الفضل وفضل الدرجة" http://www.tariqabdelhaleem.com/new/Artical-97