فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الجماعة الإسلامية .. في رحم المستقبل (5)

      الحمد لله الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه سلم

      منذ ثلاثين عاماً مضت، وبالتحديد في عام 1983، نشرنا كتاباً عن "أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم"[1]. كان هذا الكتاب معبراً بحقٍ عما رأيناه من أدواء المجتمع الإسلاميّ، خاصة داخل ما عُرف بالتيار الإسلاميّ. وقد حددنا في هذا الكتاب أسباباً خارجية لهذا التفرق والإختلاف، وأسباباً داخلية تعمل عملها في الجسد الإجتماعيّ كما يعمل الفيروس في جسد المُعَنّى. ونحن معنيون هنا بالسباب الداخلية التي لازالت تنخر في الأمة، كما كانت تنخر فيها يوم رصدناها منذ عقود عدة. هذه الأسباب التي أشرنا اليها آنذاك كانت الهوى والجهل والتعصب. عوامل ثلاثة تتعاون كلها على تفرقة الجمع وتشتيت الشمل.

      الهوى، آفة النفس البشرية. وإن شئت فانظر كم من جماعة وتجمعٍ وحركة وتيارٍ على الساحة اليوم. أكاد أجزم أنها بعدد من ينتمون للتيار الإسلاميّ. هذا التشرذم والتفتت ليس إلا لأنّ كلّ يرى نفسه رأساً، ويهيؤ له شيطانه وغروره أنه جدير بقيادة جماعة، أو تزعم حركة! ترى هؤلاء في أنحاء مصر كلها، ولو سأل أحدهم نفسه، ما يفرقني عن غيرى؟ لم يرَ إلا إرادة العلو وهوى الرياسة والغرور بالذات، لا غير. ومن هؤلاء سذجٌ طالبي خير، لكن من غير بابه بغير مكياله.

      ثم آفة الجهل، وإنه لفي غاية الصعوبة أن تقنع أحدا بأنه جاهل، أو محدود العلم، ذلك أن النفس قد خلقت بديناميكية دفاع ذاتية، ترفض الإعتراف بالجهل، إذ يضعها ذلك موضع الخطر، تماماً كما ترفض الدخول إلى النار أو الوقوف أما سيارة متحركة. ثم هناك أمرٌ آخر وهو الفرق بين المعرفة والإدراك. فقد يعرف أحد أنه جاهل، لكنه لا يدرك هذا إدراكاّ يرتفع إلى مستوى أن يتعامل مع هذه المعلومة على أنها حقيقة، فيسعى إلى تغييرها والتعامل معها. والجهل منه بسيط، وهو أن يعرف من يجهل أنه يجهل، ثم مركبٌ وهو أن يجهل الجاهل أنه جاهلٌ وهو أكثر ما نرى من حولنا. ولا تغتر بما يقوله البعض "نعم، أنا والله أجهل الكثير، وأريد التعلم ..الخ"، فإنّ هذا لا يعدو مخارج لفظه، إذ تجده بعدها يسعى لقيادة جماعة أو يجلس يلقى دروساً، أو ما شئت من أنشطة، تعود بنا إلى أصل الهوى، الذي يُضل عن سبيل الله. وسبيل الله ليس هو كل ما يتلفظ به من حَسُنَت نيته، وأراد أن يخوض غمار التجربة الإسلامية، وأن يجد لنفسه مكاناً على خريطتها. بل هوسبيل من تحقق بهذا الطريق، وسلك دربه على علمٍ وهدى، دون القفز على القيادة والمشيخة. وقد يسّرت الإمكانات التكنولوجية مثل هذا الهراء العلميّ. فتجد موقعا لكل من هبّ ودبّ، وتجد أتباع الفيس بوك وغيره من تلك الكوارث التي لفتت الناس عن الدراسة الحقة، وجعلت القشور هي الأصل، فصغر العالم وكبر الجاهل.

      ثم آفة التعصب، وهي ما نراه اليوم في تعصب أتباع الإخوان لقياداتهم، وتعصب أتباع السلفية المنزلية لمشايخهم، وأتباع حزب التحرير لمفاهيم حزبهم، إلا أهل السنة. فأهل السنة في عصرنا قد آلوا على أنفسهم ألا يتعصبوا لأحد، إلا أنفسهم! بأن يكون كلّ فرد فيهم رأساً قائداً، يدعى الإتباع والنفور من التقليد والتعصب، وهو يقع في أسوأ من ذلك بخلع ربقة العلم والإستهانة بالفتوى وارتداء ثياب الزور.

      فما العمل اليوم إذن؟

      يخطأ من يظن أنّ الأمر سهلٌ هينٌ قريب. لا والله بل هو صعبٌ شاقٌ بعيد. الحل اليوم لا يقوم به رجلٌ واحد، إذ ليس هنا مثل هذا الرجل قائمٌ بين ظهرانينا. الأمر يحتاج إلى ان تجتمع عزائم أصحاب العزائم، لتضع تصوراً يخرج بالأمة من هذا الموات الخلقيّ والعقليّ والماديّ. ولن يكون ذلك إلا إن اعترفنا بنقصنا، وعرفناه وحققناه وتحدثنا عنه، ليصبح شاغلنا الشاغل. حينها يمكن أن يكون ثمة تحديد صحيح للدواء الفاعل. يجب أن نتهادى بعيوبنا أولاٌ، وأن نعرص مواضع النقص فينا، بدلاً من أن نحيا في وَهمٍ أننا بخير إذ نحن المسلمون وهم الكفار. إنّ العلو في الدنيا والنصر على كفارها يلزمه خلق الصحابة، وعزائمها وتصميمها وإيمانها، أو أقرب ما يكون إلى ذلك، إذ يعزّ أن يوجد مثل هؤلاء مرة أخرى. 

      إنّ الأمة اليوم في حاجة إلى أن تتوحد. ولا أقول ذلك بالمعنى الذي يُردّده أمثال القرضاوى أو محمد حسان أو غير هؤلاء من المتحدثين باسم الإسلام، داعين إلى وحدة الشرك والإيمان، أو السنة والبدعة، أو الفسق والتقوى. بل الأمة تحتاج إلى أن تتحد على منهج التوحيد الخالص لا غيره. وأن يعمل أبناؤها على تصحيح ما انحرَف من أخلاقٍ وتصرفات ومفاهيم. يجب أن يقوم الفرد المسلم اليوم بمراجعة جادةٍ صارمةٍ لكل ما هو عليه من خُلُقٍ وتوجهاتٍ، لا فقط في باب العلوم الشرعية، ومدى تحصيله في علم التوحيد أو الأصول أو المُصطلح، بل في خلقه الأساسيّ ونشاطه وهمته وتصرفاته، وصدق وعده ووعيده، وإخلاصه لله لا لنفسه وغروره. ولا أجد أصدق من كلمات الله سبحانه يصف فيها المفلحين "قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴿1﴾ ٱلَّذِينَ هُمْ فِى صَلَاتِهِمْ خَـٰشِعُونَ ﴿2﴾ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴿3﴾ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوٰةِ فَـٰعِلُونَ ﴿4﴾ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـٰفِظُونَ ﴿5﴾ إِلَّا عَلَىٰٓ أَزْوَ‌ٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿6﴾ فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذَ‌ٰلِكَ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ ﴿7﴾ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِأَمَـٰنَـٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَ‌ٰعُونَ ﴿8﴾ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَ‌ٰتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿9﴾".

      ثم ها هي كلمات الخنساء التي وصفت أخاها صخراً، تمثّل النوعية التي نرجوها لبناء جماعة إسلامية:

      هو الفتى الكامِلُ الحامي حَقيقَتَـــــهُ       مأْوى الضّريكِ[2] اذّا مَا جاءَ مُنتابَا

      يَهدي الرّعيلَ إذا ضاقَ السّبيلُ بهم       نَهدَ التّليلِ لصَعْبِ الأمرِ رَكّابــا

      المَجْدُ حُلّتُـهُ، وَالجُـــــودُ عِلّتُــــــهُ         والصّدقُ حوزتهُ إنْ قرنهُ هابـــاَ

      خَطَّابُ محفلـــة ٍ فرَّاجُ مظلمــــــةٍ         إنْ هابَ مُعضلة ً سنّى لهاَ بابـــاَ

      حَمّــالُ ألويَــةٍ ، قَطّاعُ أوديَــــــــةٍ         شَهّادُ أنجيَة ِ، للوِتْرِ طَلاّبــــــــــا

      سُـمُّ العداة ِ وفكَّــــــاكُ العُنــاةِ، إذَ         لاقى الوَغَى لم يكُنْ للمَوْتِ هَيّابا

       

      وللحيث بقية إن شاء الله


      [1]  طبع طبعته الأولى، بالإشتراك مع الأخ الدكتور محمد العبدة، في مطبعة دار الأرقم، الكويت ،.

      [2]  الضّريكِ: المحتاج البائس