الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم نأتي في هذه السلسلة المباركة على مفهوم آخر، يتعلق مباشرة بإقامة دولة "لا إله إلا الله"، وهو مفهوم "الربّ"، والذي تعرض كبقية المصطلحات الإسلامية للتشويه خلال قرون عدة، نتيجة لعوامل سنتناولها بالشرح والإيضاح، في نهاية هذه السلسلة بعون الله تعالى.
وقد رَسَخَ في تصورات المسلمين اليوم أن "الرب" هو من خلق ورزق، وأنه واحدٌ أحدٌ فردٌ صمد. لكن غاب عن هذا التصور ما هو لازم له مما وصف به الله تعالى نفسه، بصفته رباً، أنه السيد المطاع والملك الآمر "ٱتَّخَذُوٓا۟ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَـٰنَهُمْ أَرْبَابًۭا مِّن دُونِ ٱللَّهِ" (التوبة: 31)، فوقعوا في نقيض ما اعترفوا به، وبات ايمانهم به محدوداً بمثل ما تعنيه كلمة "God" في الإنجليزية، وهو الربّ الذي لا يملى على "أبنائه" شيئاً، ويترك لهم أمر دمياهم يخبطون فيها كما يشاؤون، طاما قبلوا به ربّاً، أو بالتعبير الصليبيّ، قبلوا به مخلّصاً.
من هنا فسنتبع نفس الأسلوب الذي سرنا عليه من قبل، على خطوات المودودى رحمه الله، لنبيّن ما نقص من هذا الاصطلاح الرئيس في الإسلام.
التحقيق اللغوي
مادة كلمة (الرب): الراء والباء المضعَّفة([1])،ومعناها الأصلي الأساسي: التربية، ثم تتشعب عنه معاني التصرف والتعهد والاستصلاح والإتمام والتكميل، ومن ذلك كله تنشأ في الكلمة معاني العلو والرئاسة والتملك والسيادة. ودونك أمثلة لاستعمال الكلمة في لغة العرب بتلك المعاني المختلفة: ([2])
(1) التربية والتنشئة والإنماء:
يقولون (ربَّ الولد) أي ربّاه حتى أدرك فـ (الرّبيب) هو الصبي الذي تربيه و (الربيبة) الصبية. وكذلك تطلق الكلمتان على الطفل الذي يربى في بيت زوج أمه و (الربيبة) أيضاً الحاضنة ويقال (الرّابة) لامرأة الأب غير الأم، فإنها وإن لم تكن أم الولد، تقوم بتربيته وتنشئته. و (الراب) كذلك زوج الأم. (المُربب) أو (المُربى) هو الدواء الذي يختزن ويدّخر. و (رَبَّ يُربُّ ربَّاً) من باب نصر معناه الإضافة والزيادة والإتمام، فيقولون (رَبَّ النعمة): أي زاد في الإحسان وأمعن فيه.
(2) الجمع والحشد والتهيئة:
يقولون: (فلان يرب الناس) أي يجمعهم أو يجتمع عليه الناس، ويسمون مكان جمعهم (بالمرّبّ) و (التربُّب) هو الانضمام والتجمّع.
(3) التعهد والاستصلاح والرعاية والكفالة:
يقولون (رَبّ ضيعة) أي تعهدّها وراقب أمرها. قال صفوان بن أمية لأبي سفيان: لأن يرُبَني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن، أي يكفلني ويجعلني تحت رعايته وعنايته.
(4) العلاء والسيادة والرئاسة وتنفيذ الأمر والتصرف:
يقولون (قد ربّ فلان قومه): أي ساسهم وجعلهم ينقادون له. و (ربيت القوم) أي حكمتهم وسدتهم
(5) التملك:
قد جاء في الحديث أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً "أربُ غنم أم ربُ إبل؟، أي أمالك غنم أنت أم مالك ابل؟ وفي هذا المعنى يقال لصاحب البيت (رب الدار) وصاحب الناقة: (رب الناقة) ومالك الضيعة: (رب الضيعة) وتأتي كلمة الرب بمعنى السيد أيضاً فتستعمل بمعنى ضد العبد أو الخادم.
استعمال كلمة "الربّ" في القرآن
رأينا أعلاه بيان ما يتشعب من كلمة (الرب) من المعاني في لسان العرب. وقد أخطأوا لعمر الله حين حصروا هذه الكلمة في معنى المربي والمنشئ، ورددوا في تفسير (الربوبية) هذه الجملة (هو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التمام). والحق أن ذلك إنما هو معنى واحد من معاني الكلمة المتعددة الواسعة. وبإنعام النظر في سعة هذه الكلمة واستعراض معانيها المتشعبة، واستخراج ما يوازيها ويشرحها من آي القرآن الكريم، يتبين أن كلمة (الربّ) مشتملة على جميع ما يأتي:
- المربي الكفيل بقضاء الحاجات، والقائم بأمر التربية والتنشئة. (قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ ۖ إِنَّهُۥ رَبِّىٓ أَحْسَنَ مَثْوَاىَ) ([3]) (يوسف: 23)
- الكفيل والرقيب، والمتكفل بالتعهد وإصلاح الحال. (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّۭ لِّىٓ إِلَّا رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿77﴾ ٱلَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ ﴿78﴾ وَٱلَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ ﴿79﴾ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴿80﴾ وَٱلَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ) (الشعراء: 77-80)
(وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍۢ فَمِنَ ٱللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْـَٔرُونَ ﴿53﴾ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌۭ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) (النحل: 53-54)
(قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِى رَبًّۭا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىْءٍۢ) (الأنعام: 164)
(رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلًۭا) (المزمل: 9)
3. الرئيس الذي يكون في قومه كالقطب يجتمعون حوله. (هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (هود: 34)
(ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ) (الزمر: 7)
(وَمَا مِن دَآبَّةٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا طَـٰٓئِرٍۢ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّآ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلْكِتَـٰبِ مِن شَىْءٍۢ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُون) (الأنعام: 38)
(وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ) (يس: 51)
4. السيد المطاع، والرئيس وصاحب السلطة النافذ الحكم، والمعترف له بالعلاء والسيادة، والمالك لصلاحيات التصرف.
(ٱتَّخَذُوٓا۟ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَـٰنَهُمْ أَرْبَابًۭا مِّن دُونِ ٱللَّهِ) (التوبة: 31)
(وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًۭا مِّن دُونِ ٱللَّهِ) (آل عمران: 64)
والمراد بالأرباب في كلتا الآيتين الذين تتخذهم الأمم والطوائف هداتها ومرشديها على الإطلاق. فتذعن لأمرهم ونهيهم، وتتبع شرعهم وقانونهم، وتؤمن بما يحلون وما يحرمون بغير أن يكون قد أنزل الله تعالى به من سلطان، وتحسبهم فوق ذلك أحقاء بأن يأمروا وينهوا من عند أنفسهم.
5. المالك والسيد. (فَلْيَعْبُدُوا۟ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ ﴿3﴾ ٱلَّذِىٓ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍۢ وَءَامَنَهُم مِّنْ خَوْفٍۭ ﴿4﴾) قريش(سُبْحَـٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الصافات: 180)
(فَسُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الأنبياء: 22)
(قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ ٱلسَّبْعِ وَرَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ" (المؤمنون: 86)
(رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ ٱلْمَشَـٰرِقِ) (الصافات: 5)
(وَأَنَّهُۥ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ) (النجم: 49)
ومن هذا الاستعراض للمعاني اللغوية، وما يقابلهه من المعاني القرآنية، نخلص أنّ "الربّ" في الإسلام هو:
- ربنا ورب العالم بأجمعه ومربينا وقاضي حاجاتنا.
- هو كفيلنا وحافظنا ووكلينا.
- وطاعته هي الأساس الفطري الصحيح الذي يقوم عليه بنيان حياتنا الاجتماعية على الوجه الصحيح المرضي، والصلة بشخصيته المركزية تسلك شتى الأفراد والجماعات في نظام الأمة.
- حري بأن نعبده نحن وجميع خلائفه، ونطيعه ونقنت له.
- هو مالكنا ومالك كل شيء وسيدنا وحاكمنا.
"لقد أخطأت العرب والشعوب الجاهلية في كل زمان، ولا يزالون يخطئون إلى هذا اليوم، إذ وزّعوا هذا المفهوم الجامع الشامل للربوبية على خمسة أنواع من الربوبية، ثم ذهب بهم الظن والوهم أن تلك الأنواع المختلفة للربوبية قد ترجع إلى ذوات مختلفة ونفوس شتى، بل ذهبوا إلى أنها راجعة إليها بالفعل. فجاء القرآن فأثبت باستدلاله القوي المقنع أنه لا مجال أبداً في هذا النظام المركزي لأن يكون أمر من أمور الربوبية راجعاً – في قليل أو كثير- إلى غير من بيده السلطة العليا، وأن مركزية هذا النظام نفسها هي الدليل البيّن على أن جميع أنواع الربوبية مختصة بالله الواحد الأحد الذي أعطى هذا النظام خلقه.
ولذلك فإن من يظن جزءاً من أجزاء الربوبية راجعاً إلى أحد من دون الله، أو يرجعه إليه، بأي وجه من الوجوه، وهو يعيش في هذا النظام، فإنه يحارب الحقيقة ويصدف عن الواقع ويبغي على الحق، وباقي بيديه إلى التهلكة والخسران بما يتعب نفسه في مقاومة الحق الواقع".
وللحديث بقية إن شاء الله..
([1]) قال ابن فارس في (مقاييس اللغة) 2/381: - 382 مادة (رب): "الراء والياء يدل على أصول، فالأول: إصلاح الشيء والقيام عليه، فالرب: المالك، والخالق، والصاحب، والرب: المصلح للشيء..
والأصل الآخر: لزوم الشيء والإقامة عليه، وهو مناسب للأصل الأول..، والأصل الثالث: ضم الشيء للشيء وهو أيضاً مناسب لما قبله: ومتى أنعم النظر كان الباب كله قياساً واحداً .." اهـ
([2]) انظر (لسان العرب) مادة (ربب) 1/384 -: 39، و (القاموس المحيط) مادة (ربب)، والمخصص 17/154.
([3]) لا يذهبن بأحد الظن أن يوسف عليه الصلاة والسلام أراد بكلمة ( ربي ) في الآية عزيز مصر ، كما ذهب إليه بعض المفسرين ز وإنما يرجع الضمير في ( انه ) إلى الله الذي قد استعاذ به يوسف عليه السلام بقوله : ( معاذ الله ) .ولما كان المشار إليه قريبا من ضمير الاشارة فأي حاجة بنا إلى أن نلتمس له مشارا إليه آخر لم يذكر قريبا منه.
ونقول : ما نفاه الاستاذ المودودي من أن الضمير في ( إنه ) يعود على عزيز مصر رواه الطبري في التفسير 12/108 من وجوه عن مجاهد وابن اسحاق، ولم ينقل غيره . وقد روى الوجه الذي ذهب إاليه الاستاذ المودودي الطبرسي في ( مجمع البيان ) 5/223 فقال : " .. وقيل : أن الهاء عائد إلى الله سبحانه ، والمعنى أن الله ربي رفع من محلي وأحسن إلى وجعلني نبياً فلا أعصيه أبدا "