الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
نودّ هنا أن نشير إلى أمرين في غاية الأهمية، إذ لا تقتصر أهميتهما على هذا المقال، بل تتعدى إلى سائر ما ندوّن على هذا الموقع، وما يحمل من رسائل إلى قرائنا الأحباء. أولهما أنّ النقد، لا يعنى بالضرورة الهجوم أو التشنيع أو المخالفة، بل النقد هو التقييم بشكلٍ عامٍ. ألا ترى أن الكلمة جاءت من أصل "النقد"، العملة المالية التي تقيّم بها الأشياء، سلباً أو إيجاباً، علواً أوهبوطاً. وثانيهما، أن ملاحظة العلاقات بين الأفراد والجماعات، تاريخاً وحاضراً، وربط هذه الظواهر السياسية والشخصية، ووضعها في إطارٍ متناسقٍ، يكمل بعضه بعضاً، ليكشف عن خبايا النفوس وحقيقة التوجهات، هو دور المُحَلل الناقد. وهي نظرات لا يُعتمد فيها على الآراء الشخصية أو التصورات العاطفية، بل مادتها الأحداث الواقعة، والتصريحات الصادرة، والتاريخ المسجلّ، والواقع المُعَجّل. من هذا المنطلق ننظر في أقدار وأوضاع الأفراد والجماعات التي تطفو على سطح الساحة السياسية المصرية في الوقت الحاضر. من هذه الجماعات والأفراد، تلك العلاقة النوعية بين جماعة الإخوان وبين عبد المنعم أبو الفتوح.
مهما قيل في الخلاف بين عبد المنعم أبو الفتوح وبين الإخوان، فهو لا يزال صناعة إخوانية صرفة أصيلة، يمثل الفكر الإخواني بكل أبعاده وقواعده. أبو الفتوح يمثل التطور الإخوانيّ في المجال السياسيّ، بل ويصور الطريقة الإخوانية في التعامل مع قضية الدين والسياسة أدق تصوير.
"يقول الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح عن نفسه أنه ينتمي للفكر المحافظ الذي يجمع بين الليبرالية واليسارية ويرفض أن يسمي أنه ينتمي للفكر الإسلامي وهو يقبل الرأي الآخر ويرفض أي تعدي على الحريات الفردية وقد صرح من قبل بأن مصدر السلطة الحقيقية والتشريع سواء القانون أو الدستور هو الشعب[1]"[2]
في هذه المقابلة التي نقلنا عنها، يقول أبو الفتوح أنّ الليبرالية واليسارية هي جزء من الحضارة الإسلامية، وأنهما جزء من المصرية التي يمثلها، لا التيار الإسلاميّ الذي يرفض الليبرالية العلمانية واليسارية، ولا يرجع السلطة إلى الله سبحانه بل إلى الشعب.
هذا فكرُ رَجلٍ قضى أكثر من ثلاثين عاماً في أحضان الإخوان المسلمين، يتضَلّع من فكرهم ويتعلم من مصادرهم، ويرتوى من اتجاههم الفكري والديني والسياسيّ. هو مسلم ليبراليّ يساريّ، نفعيّ انتهازيّ مصلحيّ، يقول بكلّ ما يقربه من هدفه السياسيّ الذي عاش يبحث عنه حتى وجد ضالته المنشودة بعد الثورة، فخلع لباس الإخوان، كما يخلع المرء لباس السفر المعفّر بالأوساخ، ولبس ثياب الرئاسة أسابيعَ عدداً، قبل أن يخبو رجاءه.
المهم لدينا هنا هو أن نقرر أنّ هذه السياسة الفتوحية، هي السياسة الإخوانية، قلباً وقالباً، شكلاً وموضوعاً. التميّع في العقيدة، الخلط في التصورات، تبنى مذاهب متعارضة تضم كلّ ما هومطروحٌ على الساحة العقائدية أو السياسية، المَزج بين العقائد، والليبرالية الفكرية التي ترى كافة المذاهب والأديان حقٌ لا فرق بينها أو بين معتنقيها. هي سياسة براجماتية نفعية لا تخضع لمبدإٍ أو تتبع حقاً، وهو ما نراه على الساحة السياسية في كافة تصرفات الإخوان وتصريحاتهم. التقرب من الليبراليين والعلمانيين والبرادعيين والصباحيين وسائر كفار مصر، على حساب الإسلاميين. وقد قلت من قبل، ولا أرى إلا أن الأيام والأحداث أثبتت صحة ما ذهبنا اليه، من أنّهم ليسوا جماعة إسلامية، بل هم "جماعة وطنية ليبرالية سياسية"، تماما كما وصف أبو الفتوح نفسه، فإذا هو يصف جماعة الإخوان نفسها. فهو هي، وهي هو، ولا فرق.
لهذا نرى أبو الفتوح يعلن عدم الإشتراك في تظاهرات الشريعة، ، لتكون رسالة واضحة إنه ليس معنياً بالشريعة ابتداءً، بل هو علمانيّ ليبراليّ حتى النخاع، لا فرق بينه وبين محمد البرادعيّ أو رفعت السعيد على الإطلاق، كما أعلنت جماعته القديمة نفس الخطى والمبادئ ولا فرق. ومن هنا نستطيع أن نفهم سياسة العريان والكتاتنيّ وشلة مكتب الإرشاد، إذ هم لم يفاصلوا أبو الفتوح على علمانية أو ليبرالية، بل فاصلوه على السّمع والطاعة، حيث ظنوا وقتها أنّ صفقتَهم مع المجلس العسكريّ ستكون موضع احترام من ذلك المجلس، بينما كان تشوّف أبو الفتوح للرئاسة أقوى عنده من ولائه لجماعةٍ انتسب لها ثلاثين عاما كاملة.
تلك هي النوعية من الأوصياء التي وضع الشعب المصريّ، أو جُلّه، ثقتَه فيها جاهلاً بهويّتها، غير عارفٍ بحقيقة توجهاتها وانتماءاتها الليبرالية العلمانية. إن دين الله الخالص الذي قال تعالى فيه "أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ"الزمر3، يأبى هذا النوع من التزييف الدينيّ والتميع العقديّ، الذي يتنافى مع كونه دينا خالصاً، ودِينًۭا قِيَمًۭا "قُلْ إِنَّنِى هَدَىٰنِى رَبِّىٓ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ دِينًۭا قِيَمًۭا مِّلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًۭا"الأنعام 161، وديناً قيّما "إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوٓا۟ إِلَّآ إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ" يوسف 40. إن الدين الخالص هو الذي لا يشوبه شرك بأي نوع أو تحت أية تسمية، والدين القيّم والدين القِيَم هما لدين الذي يقوم على حياة الناس، قِياماً وقيِّما عليهم دون غيره. هذه المعاني التي يثبتها القرآن بلسانٍ عربي مبين، ليست مما يحتمل التأويلات، وليست من قبيل الإجتهادات التي يختلف عليها "الفقهاء"، وتحتمل الرأي والرأي الآخر. هذه ثوابت عقدية لا محل للتلاعب بها، كما يتلاعب بها المتلاعبون في دين الإخوان، ودين أبو الفتوح.
والخدعة الكبرى التي يمارسها هؤلاء أنهم يشيعون أنّ هذه "إختلافات" بين "المسلمين" لا يجب أن تفرقهم، ويجب أن تخضع للمناقشة الفقهية، وهو تدليس على الله ورسوله، وتزويرٌ وتميِيعٌ وانحرافٌ، لا يقبله صاحب دينٍ صحيح. فإن هذه المسائل، التي تتعلق بإقرار مبدأ أنّ الطاعة لله وحده، رئيساً وثانوياً، أصلياً وفرعياً، في كلّ مجالات الحياة بلا استثناء، ثم رفض الطاغوت والكفر المتمثلين في اليسارية والعلمانية الليبرالية، هو أساس التوحيد، ودين الإسلام الذي لا يثبت لأحد، أفراداً أو جماعات أو مجتمعات، إلا بإقراره، بلا التفاف أو تدليس. وهذا الإثبات لطاعة الله، والنفي لطاعة غيره هما مدلول قوله تعالى "فَمَن يَكْفُرْ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ"البقرة 256.
فليحذر المغرورون بأبي الفتوح، وبجماعة الإخوان، أنْ تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ شديد، إذ هم يخالفون عن أمرِ الله بلا شَكٍ ولا تردّد، "فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"النور 63، فإن الدين له ثوابته وقواعده، وهي لا تتغير ولا تتبدل، ولا يدخل فيها ما ليس منها، كما لا يخرج منها ما هو منها. وهي تقوم كلها على أساس المَرجعية العامة الشاملة التامة لله وحده، وإتباع شريعته، دون ليبرالية أو علمانية.
- [2] http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B9%D8%A8%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%B9%D9%85_%D8%A3%D8%A8%D9%88_%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%AA%D9%88%D8%AD#cite_note-11