الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
مشكلة تناولتها في بعض مقالاتي من قبل، تختص بالإعلام "الإسلاميّ"، إن صحّ أن يكون هناك شئ من هذا القبيل في بلادنا، وهي ظاهرة "الإستئناس السياسيّ" الذي وقع فيه هذا الإعلام من حيث جعل من مبادئه وعاءً مطاطيا يتمشى مع معطيات السياسة أولا وقبل كل اعتبار. وقد تفاقمت هذه الظاهرة بعد اعتلاء محمد مرسى، ومن ورائه الإخوان، للسلطة، ولو ظاهرياً. فصار الفكر الإخوانيّ هو المسيطر على الساحة السياسية الإسلامية، سواءً من التيارات المنتكسة، مثل الجماعة الإسلامية والسلفية المنزلية، أو من الصحافة التي كانت تدعى يوماً من الأيام أنها بديل محترف للصحافة العلمانية، فإذا بها صحافة مطاطية تحترف التسَكّع الفكريّ على موائد المبادئ، والذي هو أقرب إلى اختيار مبادئ "تفصيل"، تنضبط حسب مقاس الواقع المعاش، دون أن تكون مخالفة تماما لما هو موجودٌ محفوظٌ لا يتبدل، أي "الجاهز"، بل تتسع قليلاً هنا، وتضيق قليلا هناك، لتلائم الوضع القائم دون حرجٍ كبير، أقول أصبح هذا "التفصيل" علامة مميزة للإعلام الإسلاميّ، تزيد وتنقص بحسب تفاوت أصحابها في تأويلاتهم الباردة وتتوقف على تشعب مصالحهم المادية.
والأنكد من هذا، أن بعض هؤلاء الصحافيين "الإعلاميين"، لا يرون في هذا عيباً، بل قد يروه هو الحق من عند ربهم. وهذا من نكد الدنيا وإبتلاء الشيطان، إذ زيّن لهم هذه الأوبئة التي ينشرونها، فأصبحوا عوناً لليبرالية واللادينية وإن أرادوا غير ذلك، فليس الأمر دائما بالنيات، كما قال رسول الله صلى الله عليه سلم "من عملٍ عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ" رواه الشيخان، ففصل النية عن العمل، وردّ العمل الباطل على صاحبه وإن أخلص النية.
وقد قرأت مقالاً للأخ الأستاذ جمال سلطان، كنت أود أن لم يكتبه، فإن القلم كاللسان، تكبّ حصائده الناس على وجوههم في النار. وهي مقالة بعنوان "أرفض مليونية الشريعة"! وأول ما تبادر في ذهنى حين أرسل إلىّ أحد العلماء الأفاضل وصلة المقال[1]، هو "وماذا إذا رفضت يا أخي جمال التظاهر لأجل الشريعة"؟ ما هو أثر هذا الرفض؟ فكان أن استفزني العنوان من حيث يحمل نوعاً من الاستعلاء بالقيمة الذاتية فيه نرجسية واضحة لا تليق بإسلاميّ، ولو إدعاءً.
وقد كنت في وقت من الأوقات من مشجعى الأخ جمال، وممن سانده في إقامة صحيفة "المصريون" ومجلته "المنار" بما لا ينكره إلا جاحدٍ، حيث كنت أرى فيه "إسلاميّ" نشطٌ محترف، لكن، مع الأسف، اكتشفت بعدها ما لا أحب، وإلى أن نشر مقاله الذي قرّظ فيه على جمعه المفتى، أي والله على جمعه، وجعله من المجتهدين في عصرنا!! ثم بعد أن سمح بنشر ضلالات محمد عمارة عن أحاديث الآحاد، ورفض نشر الردّ عليها بحجة أن الرجل قد "تحسن كثيراً، وله مشاركات في الصحيفة سنخسر بخسارتها، وأن موضوع أحاديث الآحاد فيه كثيرٌ من الإختلاف!"، ساعتها عرفت أن ابتلاء الله لم يصل المتخاذلين من أبناء التيارات الإسلامية المتراجعة فحسب، بل هو فيروس انتشر بين من لم يتمسك بكتاب الله عن فهم واستيعاب من ناحية، وبين من ربط المصالح المادية بالمواقف الإسلامية من ناحية أخرى.
لا نعلم أخى جمال أيّ باب من أبواب الفقه أو الأصول المعتمدة خَرّجْتَ فتوى أنّ هذه "المظاهرة ـ فى جَوهرها ـ ضد الشريعة"؟ أيكون الخروج لإسقاط مبارك أولى عندك من الخروج لأجل نصرة تحكيم دين الله؟ أيقول بهذا مسلم يا شيخ جمال؟ أيصح وأنت الكاتب "الإسلاميّ" النحرير أن تلقى بهذا القول بالتحريم والمُخالفة للشريعة دون دليل شرعيّ واحدٍ تأتي به ذراً للرماد في العيون، وكأن الأمر له خلفية شرعية؟! أيجوز في دين الله أن نفتى بلا دليل؟ ولا تقل هذه ليست فتوى، فإن مثل هذا القول سيوقعك في حرجٍ أكبر مما أنت فيه بالفعل.
عجيب أمرك يا جمال! أتقيس هزليات الليبراليين والعلمانيين واللادينيين والصبّاحيين والبرادعيين، وسائر كفر مصر، بهؤلاء الذين يريدون نصرة دين الله، ويقفون في وجه الدستور العلمانيّ الوشيك، أليست هذه قضية يجب أن تخرج لها الملايين، بل يجب أن يخرج لها أكثر ممن خرج لإزاحة مبارك نفسه،؟ بل كنت أعتقد أنّك ستكون في أول الصفوف تنافح عن شريعة الإسلام التي تعلم تماماً أنّ العلمانيين والليبراليين والبرادعيين والصباحيين وبقية كفار مصر يترصدون بها ترصد الذئب بفريسته، فإذا بكم يا من تدعون "الإسلامية" تخالفونهم قولاً، وتقفون في صفهم عملاً!
وكلّ حجتك يا جمال أنْ ".. وهل تكون "أحكام الشريعة" أم "مبادئ الشريعة"، وفى يقينى الذى أدين لله به أنه حتى لو لم يكن هناك نص على تلك المادة من أساسه، فإن ذلك لن يغير من "واقع" مصر شيئًا فى تلك اللحظة، فالشريعة والحلال والحرام فى مصر لا يصنعه نص ولا يلغيه نص، ومصر كانت مرجعيتها الإسلام والشريعة الإسلامية من قبل الدستور، وعندما نص فى الدستور على ديانتها ارتكبت موبقات مناقضة للدين والأخلاق والإنسانية والنص موجود، ولم يحمها النص الدستورى، فالذى يحمى القيم والمبادئ والأحكام والأعراف هو المجتمع وقوة الدعوة وحيويتها وليس النصوص بالأساس، وأى سياسى يفكر فى أن يعلن موقفًا مضادًا للشريعة فهو ينتحر سياسيًا وينهى حياته السياسية بالكلية، ولذلك لا أظن أبدًا أن فى مصر الآن خطرًا على الشريعة من أى وجه"!! هل هذا كلام يقوله ملتزم يا جمال، بله كاتب إسلاميّ نحرير؟ الم تعرف من قراءاتك أنّ الدستور هو المرجعية التي تحكم الشعب وتصدر قوانينه على حسبها؟ ألا تعرف أنك بهذا الهراء تختزل دين الله إلى بعض العادات والتقاليد المرعية في المجتمع، والتي تعود إلى ما تبقى في ذاكرة الشعب من أحكام الإسلام؟ والله إن هذا لمنطق المتخاذلين المتراجعين المُبررين للضعف الإخواني، المُسَلّمين (بشد اللام) للسيطرة اللادينية على مجتمعنا. والله ما حسبت أن يسقط جمال سلطان إلى هذا الدرك الأسفل يوماً.
ثم يقول جمال بكل إفتراءٍ على الشريعة، وهو غالباً لا يدرى خطورة ما يقول "فإن هذا كله يمكن أن نعتبره نصًا مرحليًا، وأن ندعو الشعب لتعديل دستورى فيما بعد، بعد أربع سنوات أو عشر سنوات، تكون فيها البلاد قد استردت عافيتها السياسية واستقرارها وانتظمت حياتها ومؤسساتها وأمنها واقتصادها، وانتهى الانقسام الوطنى فيها وقطعت شوطًا فى مرحلة البناء والنهوض"! عجيب ثم عجيب يا أيها "المفكر" الإسلاميّ، الذي تستضيفه الفضائيات ليقدّم رؤياه في الواقع الإسلاميّ! بالله عليك ألا تخجل من هذا الكلام الذي تكتب؟ ألا تفكر فيه لحظات قبل نشره؟ أتريد أن يعيش الناس في جاهلية مرحلية، يتحاكمون فيها لغير شرع الله، عشرة سنوات، ونحن على يقين أنك ولو تركت لقلمك عنانه لقلت "مائة سنة"، ثم لا تستحى أن تقول أنّ في ظلّ هذه الجاهلية المرحلية "تكون فيها البلاد قد استردت عافيتها السياسية واستقرارها وانتظمت حياتها ومؤسساتها وأمنها واقتصادها، وانتهى الانقسام الوطنى فيها وقطعت شوطًا فى مرحلة البناء والنهوض"! وما الداعي إذن يا رجل، في رأيك العبقريّ، إلى الشريعة ساعتها، إن كانت الجاهلية تفرز هذا التقدم وهذه النهضة، وتحقق الأمن والأمان والاستقرار؟ أهذا حقاً ما تدين لله به، أنّ يمكن التقدم والرقيّ مع الشرك التشريعيّ؟ ألا تعرف أن هذه المدة كافية لأن يستغلها العلمانيون والليبراليون والصبّاحيون والبرادعيون وسائر كفار مصر ليخمدوا أنفاس الدين بالمرة؟ وبماذا تفترق إذن عن عمرو حمزاوى ومحمد البرادعيّ، إن كنت تختلف عنهم أصلاً؟ هذا والله عمى في البصيرة لا أقل من ذلك.
أتعرف، عزيزى القارئ، لماذا هذا التأويل كله؟ ولماذا الولوغ في هذه الخطيئة؟ لأن الإخوان لم يعلنوا مشاركتهم في هذه التظاهرة، ولأن هذه التظاهرة ستسئ لحكم مرسى من حيث إنها تكشف تخاذله عن العمل بالشريعة، وهو دين الإخوان كما عرفناه.
والعجب أن جمال كان ممن يلحى على الإخوان سياساتهم، في السرّ والعلن، وقد نافحت عنه من قبل حين كتب ناقداً سياساتهم، قبل أن يتولّوا الحكم بالطبع، وحين هاجمه د جابر قميحة، فرددت علي جابر قميحة بمقالة "نعم..أين الحياد وأين الموضوعية!.. تعقيب على مقال الدكتور جابر قميحة"[2]، نشرته وقتها مجلة المنار. لكن لو خرج الإخوان اليوم في هذه التظاهرة، فوالله لما جرأ جمال على أن يقول ما قال، وياحسرة على العباد.
والله إن تلك المسؤولية الزائفة التي تدعي أن لا يحسنها إلا الكبار، إنما هم كبار "الكروش"، وأصحاب "العروش" ممن يلهث وراءهم كلّ مدعٍ، إنما المسؤولية حقيقةً هي في الثبات على المبدأ وإن أغلقت صحفٌ تنشر الباطل متوارياً وراء غلالة حق، والغيت مقابلات فضائية يُظهِر المرءُ فيها نفسه وكأنه عريف الدنيا وحامل مفتاح حكمتها، ويعلم الله والناس ما وراء هذا الكلام من خداعٍ، وما ليس وراءه من علم.
تب يا جمال سلطان قبل أن يأتيك من الله ما لا ترضى، فقد والله أسقطك هذا المقال فراسخاً ما أحسب إلا أنك تحتاج أعواماً لتنتشل نفسك من وهدتها، إنْ جهدت في العمل
[1] http://www.almesryoon.com/permalink/42849.html
[2] http://www.tariqabdelhaleem.com/new/Artical-123