الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
نعود مرة أخرى إلى الواقع المرير الذي تعيشه مصر، بسبب التشوه الفكرى والحركيّ لدى التيارات الإسلامية، والذي سيودى بكل أملٍ في أن يعينها الله على استعادة نهضتها، وإلى انتصار قوى الظلام الليبرالية والعلمانية والديموقراطية الملحدة.
غفرانك اللهم .. ورحمتك بهذه الأمة وأبنائها، فقد والله تكاثفت الظّلمات من حولهم، وتضاربت أمامهم الآراء، وتبدّلت المَواقف، وتَطايرت التّصريحات، بما زاد الضَبابية والتشوّش الفكريّ واضطراب التصور، وخيبة الأمل في كثيرٍ من الأحيان.
ومع تقديرى لعَددٍ من الأشخاص الذين يتعلق بهم موضوع مقالى هذا، فقد طالتهم لسعات لهيبه، وأزعجتهم صرخات تأنيبه، لمّا اجتمعوا على مواقف وصدرت منهم تصريحاتٍ لا أراها إلا انحرافاً عمّا التزموا به بالأمس، القريب أو البعيد، مما لا يصح فيه تغيير أو تبديل، ولا يصلح موضوعاً لإجتهاد، أو محطّاً لمناطاتٍ، خاصة وما تبدل الواقع في شأنه عمّا كان من قبل، إلا عند قصير نظر أو سيئ قصد.
ومن إحقاق الحقّ أن أنصّ هنا على أن هؤلاء الذين أتحدث عنهم ليسوا سواء، حتى لا أتجاوز في التقييم والتصنيف، ولكن كلهم قد جمعتهم بوتقة واحدة هي بوتقة التسليم بالديموقراطية والخضوع لمعاييرها، بلا استثناء، إما قولاً وعملاً، وإما عملاً دون القول.
الجماعة الإسلامية، الدعوة السلفية، الجبهة السلفية، حزب النور[1]، وغيرهم من الجماعات التي تتفاوت تفاوتاً عميقاً بينها في الكثير، سواءً رموزها أو تابعيها، سواءً في الحاضر أو الماضى، إلا في المعيار الذي ذكرنا، الديموقراطية. وكان آخرها في السقوط هى الجبهة السلفية، التى انشقت عن السلفية المنزلية بعد الأوحال التي خاضت فيها تلك الأخيرة ووقعت فيها رموزها كافة بين مصر والإسكندرية، فأنشأوا حزب "الشعب"، سائرين على منهج من قبلهم من سلفية الإستسلام في حزب النور! بل ومن انضم لأحزابٍ علمانية صريحة كمحمد يسرى سلامة في حزب الدستور!
ما أدرى والله ما هذا الوباء الذى نزل بساحة كافة الإسلاميين، إلا القليل النادر منهم، بعد ثورة 25 يناير؟ ما الذي تبدل في الحالة الشرعية بمصر بعد الثورة، وحتى يومنا هذا فيما يتعلق بالدخول في العملية الديموقراطية والتسليم بوسائلها والتصارع حسب مبادئها وقواعدها؟
وإنما مثلنا، نحن المتمسّكون بما كنّا عليه دوماً، حتى يكون هناك تبدّل حقيقيّ على أرض الواقع بالبيان والبنيان، ومثلكم أنتم، من سارع في تَبَنّى ما شنّع عليه بالأمس، إلا كما قال تعالى "وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِى ضَلَـٰلٍۢ مُّبِينٍۢ" سبأ 24 ، (الاستشهاد بالآية في مناطها الأصغر لا في مناطها المُكفّر بالطبع). فإنه لابد أن يكون أحد الفريقين مخطئاً فيما ذهب اليه، الثابتون أو المُبدّلون.
إن القضية الإسلامية، التي نعتبر أنفسنا فيها كهيئة الدفاع في أية قضية، هي قضية ينتظر مقيموها الوصول إلى هدفهم وهو الفصل فيها. فلنتصور معاً أنّ هيئة دفاع في قضية ما، إذا بها فجأة تتنازل عن أدلة لها لصالح الخصم، وإذا بها، فجأة، تعترف ببعض ما قدّم الخصم من وثائق ووسائل تُعين على إدانتهم بدلاً من الحكم لصالحهم. ماذا يقول الناظر في هذه الهيئة ساعتها؟ ألا تروا معنا أنّ هذا لا يعكس إلا ضعفاً في إيمانها بأحقية موكلها في الحكم لصالحه؟ ألا تروا معنا أنّ هذه التنازلات، وهذا القبول بطرق الخصم فيه إضعاف للقضية من أساسها؟ هذا بالضبط ما فعله هؤلاء في قضيتنا المصيرية ضد العلمانية والليبرالية والإشتراكية والبرادعية، وسائر أشكال الكفر في مصرنا. قبلوا أن يلعبوا بقواعدها وعلى أسسها وبأساليبها. وروّجوا أنّ هذه وسائل لا مشاحة فيها، وإنما المهم هنا هو التصور والغاية. ونسيتم، أو تناسيتم، أن الغاية لا تبرر الوسيلة في ديننا، وأن الوسيلة لا تنشأ بمعزلٍ عن غايتها إلا في التصورات القاصرة.
لقد سلمتم للخصم بوسائله وأساليبه، ورضيتم أن تتم المواجهة على أرضه وبأدواته. دخلتم برضاكم إلى قيود فرضها واشكالٍ وضعها وقواعد رسمها، تضمن له عدم التغيير لصالحكم. أولها الدستور "المدنيّ" العلمانيّ الغريانيّ، وثانيها، البرلمان الكتاتنيّ الأمريكيّ، وثالثها، حزب "الأغلبية" الإخوانيّ الليبراليّ الديموقراطيّ الصوفيّ العريانيّ! وما شاء الله لهم أن يضعوا لكم من مطباتٍ وخوازيق، كهيبة القضاء، وألوهية النائب العام، مما قيّد دعواكم أنّ هذا النظام ليس نظاماً إلهياً إسلامياً، بل أسبغ عليه الإسلامية، إسلاميتكم، من كل جانب.
لقد ضاقت عليكم الأرض بما رحبت، يا إخوة، وفقدتم الأمل في الله، فتسرّعتم في تصرفاتكم، وتسارعت بكم الخطى إلى البرلمانات والأحزاب العلمانية، وإن ادعيتم عدم علمانيتها، حتى أصبحت جرياً لا سعياً. تسابقتم في إنشاء تلك الهيئات التي ما اظهرت منكم إلا العوار والنقص، الذي كنتم تقفون ضده بالأمس القريب.
ولا أضم لكم الإخوان في هذا المجال، فهؤلاء كان هذا، ولا يزال، دينهم الذي سيقابلون به الله سبحانه، بما يسوّغ لهم عبد الرحمن البرّ، وبما يرسم لهم محمد بديع. فهؤلاء ليسوا ممن بدّل وحرّف، بل هؤلاء ممن انحرف وضلّ أساساً، فليس لنا معهم حديث.
وقد كان حزني شديداً حين سمعت عن ممثلى حزب "الشعب" الوليد، جالسين على منصة الإعلام، يروّجون له، لابسين البزات (البدلة في العامية) والكرافتات، كلهم بلا استثناء[2]! وقد كانت لديهم قضية اللباس وقضية طول الثوب بالأمس، قضية مصيرية! الأمر ليس أمر بزات أو لباس، بل هو أمر التغيير والتبديل. ثم رأيتهم يجلسون إلى علجٍ إعلاميّ يتحدث عن المواطنة التي اعترفوا بها، من واقع قبولهم بقوانين التحزب، وكيف أنها هي الأساس المدنيّ الذي تعيش عليه أمتنا، وهم، كلهم بلا استثناء، ينغضون برؤوسهم موافقة على ما يقول العلج الإعلاميّ! فقلت لنفسى حسبنا الله ونعم الوكيل فيمن خان أمانته وضيّع رسالته.
إن الطريق إلى الإسلام واضحٌ صريح، لا تحزّب فيه ولا ديموقراطية. إنْ هذه الوسائل كلها إلا شباكٌ رُصدت لكم، قد وقعتم فيها، على درجاتٍ متفاوتة، من ضياع أملكم بالله، وثقتكم بوعده، فلجأتم إلى هذا التأرجُح والتمرجح، تحسبونه سياسة، وتحسبون أنفسكم سياسيون، بهذا التبديل وتلك التصريحات، وفي أبهة الكرافتات والبزات.
إن الطريق إلى كَسب القضية لن يأتي من فوق منبرٍ برلمانيّ ولا بحكمٍ قضائي ولا بسيطرة حزب صوفيّ شيعيّ سنيّ ليبراليّ إخوانيّ .. بل سيأتي، إن شاء الله تعالى، كما رأينا في الماضى القريب، الثورة على الأوضاع العلمانية والدستور العلمانيّ، لا المشاركة "المدنية" في مناقشاته وفي تحاوراته. قلتم إنكم تريدون منبراً تخاطبون منه الناس ليسمعوكم، فلا تتركوا المنابر للعلمانيين، وما دريتم أنكم بهذا سوّغتم للعلمانيين منابرهم وجعلتموها ندّا لكم، والشعب أمامكم دون أحزابٍ ولا يحزنون، ينتظر السماع لكم من خارج المنظومة الجاهلية لا من داخلها.
لقد نسيتم، في غمرة فرحتكم بأضواء الإستديوهات، أنكم بأحزابكم هذه، قد أصبحتم صورة مصغرة لجامعة الدول العربية العلماني، على المسرح الدوليّ العام. فيح بها الفرحون يوم قامت، ويوم قبلت بالسبل الدولية والمواثيق الدولية التي فرضت علينا من غربٍ صهيو- صليبيّ، وما عرفوا، أو عرفوا واستكبروا، أنّ هذه الجامعة، هي ليست بجامعة، بل هي "مشتتة" الدول العربية، إذ كرّست الإنفصال والقومية، وساعدت على تمزيق الكيان الواحد الذي ظل قرونا تحت قيادة الدولة المركزية، إلى كياناتٍ لكلٍ منها هدف ووسيلة. قد وقعتم والله يا سادتنا في هذا المحظور دون أن تستبين لقرائحكم المغيّبة بضباب الواقع عن حقيقة ما أنتم فيه بهذا التحزّب الديموقراطيّ.
إن التمسك بالحقّ، في هذه الضبابية العنيفة، غاية ووسيلة، هدفاً وأسلوباً، هو من أصعب الأمور التي تواجه المسلم الملتزم، بل هي أصعبها على الإطلاق. لقد غاب عنكم الفَرق البيّن بين التمسك بالحق وترك المعاصى. فقد زعمتم أنكم تخالطون الباطل وتتبعون طرقه دون أن تقعوا فيما يقع فيه من معاصٍ، لكن غاب عنكم أنّ تجنب المعاصى أمر، والتمسك بالحق أمرٌ آخر، أعلى وأقوى وأدوم. تجنب المعصية هو الجانب السلبيّ من التمسك بالحق، دون الجانب الإيجابي فيه. ولا أعرف والله في دنيانا اليوم إلا نفرٌ قليلٌ قد نجوا من هذه الشباك المرصودة، لا يزالون على الحق قائمين، وبهدفه متمسكين، وبوسائله معتصمين.
وإلى الجبهة السلفية وممثليها أقول: لقد والله أضعفتم قضيتنا بحزبكم هذا الجديد، ولم تحققوا نصراً ولا تقدماً كما تظنون، وكنتم بالأمس أفضل منكم اليوم. ولو ثَبُتَت كلّ تلك الفئات، وتعاونت على البيان وعلى البنيان، على طريقة محمد صلى الله عليه وسلم، والضغط على العلمانية الصريحة، أو المستترة وراء ستار الليبرالية الإسلامية، لكان أفضل لكم. ولكن لسبب ما، قضاه صاحب القضاء سبحانه، قد عُمّيَت عليكم هذه السبيل. وأقولها، حامداً لربي وشاكراً لنعمته "أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍۢ مِّن رَّبِّى وَءَاتَىٰنِى رَحْمَةًۭ مِّنْ عِندِهِۦ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَـٰرِهُون"[3]هود 28.
أكتوبر 22، 2012 - 6 ذو الحجة 1432
[1] ندعو الله ألا تتبعهم في هذا المضمار جماعة إحياء الأمة، إذ جاءت أنباء عن عزمهم تكوين حزب! درأ الله عنهم هذا العوار، وكفاهم ما حدث من دعم للديموقراطيين الإخوان البرلمانيين من زلة قدم.
[2] ولست ممن ينكر لبس البزات، بل أنا ممن يرى أن قضية اللباس هي قضية عادة لا عبادة، كما قرر بن القيم في زاد المعاد، إلا ما جاء في لباس الشهرة، ولكن الأمر هنا أمر التبديل ورمزيته في التصرفات.
[3] أنبه مرة أخرى أن ليس في هذا الاستدلال من القرآن مدلول تكفيريّ.