الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا يسع المهتم بالشأن الإسلاميّ في مصر إلا أن يرصد تلك الوتيرة الإعلامية المتصاعدة ضد ما يسمونه "الحركات الجهادية"، خاصة بعد الحملة العسكرية المستمرة ضدّ الإسلاميين في سيناء، والتي شَنتها حكومة مرسى عليهم بعد حادثة رفح، وهم براء منها بلا شك. وعادة ما يعقب هذه الوتيرة الإعلامية العلمانية الحاقدة على الإسلام بعامة، والتي تهاجم في هذه الأيام هؤلاء خاصة ، حملة "أمنية" من الإعتقالات والتنكيل، كما عرفنا في العهود السابقة كلها.
ولأننا نهتم بشأن الإسلام والمسلمين اهتمامنا بالحياة وضروراتها، فقد وجب أن نتوجه بحديث إلى إخواننا من الإسلاميين عن هذا الموضوع، الجهاد والجهاديون، نعرض فيه ما نراه حقاً، وما نراه منحرفاً عن الصواب، وبالله التوفيق.
وقبل أن نتناول أيّ من الأحداث الواقعة، نودّ أن نقرر ثوابت لدينا في هذا المجال، لا تتبدل ولا تتغيّر، وتعين القارئ المنصف أن يتفهم ما صدرنا عنه، وما انتهينا اليه.
- الجهاد فريضة عظيمة من فرائض الإسلام، لا يتركها إلا مخذول، ولا ينكرها إلا كافر بالله ودينه، وهو ما تواتر في الأدلة، قال تعالى "ٱنفِرُوا۟ خِفَافًۭا وَثِقَالًۭا وَجَـٰهِدُوا۟ بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ" التوبة 41. وفي البخارى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أيّ العمل أفضل فقال إيمان بالله ورسوله قيل ثم ماذا قال الجهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا قال حج مبرور". والأدلة على هذا المعنى أكثر من أن تُحصى. فكل المسلمين المخلصين الصادقين جهاديون بهذا المعنى، كما أنهم صلاتيون وزكاتيون بالمثل (أي يؤمنون بالصلاة والزكاة مثلما يؤمنون بالجهاد).
- الفرائض في الإسلام، منها العينية، التي يُكلّف بها الفرد بنفسه، ولا يتوقف أداؤها على الغير، مثل غالب الواجبات الصلاة والزكاة والحج، ومنها كفائية يُكلّف بها جَمع المسلمين، ويتوقف التكليف بها على الغير، كحضور الجنائز، إن حضر البعض سقط التكليف عن الباقي. والجهاد يقع في هذه الأخيرة، نعنى الواجبات الكفائية، التي يقوم بها جمع المسلمين لا آحادهم، إلا ما اختص في حالات عينية لا تقع تحت القَاعدة العامة التي ذكرنا.
- شروط أداء التكاليف بِعامة هي القدرة على الأداء، فإن انعدمت القدرة، سقط التكليف. كذلك لإغن لكلٍ واجبٍ محددٍ شروط يجب أن تتحقق وموانع يجب أن ترتفع ليكون واجباً على الفرد أو على الجماعة. فالنصلب شرط الزكاة، والدين مانع منها، والوضوء شرط الصلاة، وهكذا. والجهاد ليس بدعاً في ذلك، بل يجب أن يخضع للشروط والموانع الشرعية لإيجابه، خاصة وهو واجبٌ كفائي بالأصالة.
- في حالة تدافع التكاليف، يجب تقديم الأوْلى بالأداء، حسب مرتبته في الشريعة، وحسب ما يتحقق به من مصلحة شرعية معتبرة، وحسب ما يندفع بأدائه من مفاسد حقيقية عاجلة.
- أنّ دراسة الواقع واعتبارات مآلات الأفعال والتصرفات جزء لا يتجزأ من الفتوى الشرعية التي بها يتحدّد أداء التكاليف.
- أنّ حسن النية لا ينفع مع سوء التصرف، كما لا يصح حسن التصرف مع سوء النية، وكلاهما لا يؤدى إلى خيرٍ وصوابٍ في الدنيا، وإن تفاوتا في أداء الدنيا وفي مصلحة الآخرة. فمن حسنت نيته وانحرف عمله قد يكون له في الآخرة ثواب، وإن لم يقبل العمل كما في الصحيح "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردٌ"، بعكس من ساءت نيته، فلا ثواب له وإن صح عمله. ومن صح تصرفه وساءت نيته جاز أن يتحقق بعمله نفع ظاهر مؤقت محدود، كما قال تعالى "إن الله لا يُصْلِح عَمل المُفسِدين" وسيئ النية مُفسد بلا شك.
تلك بعض الثوابت التي نستحضِرها في هذا المقام، وهناك الكثير مما تكمُل به الرؤية الشرعية، لكن يضيق به مقام الحديث هاهنا.
ولست بصدد نصرة أيّ طرفٍ من الأطراف في هذا المقام، بل ما نريد هو بيان الحق من الباطل، والتعريف بما في تلك المواقف الحالية من صوابٍ وخطأ، والله المستعان على هذا الغرض.
تبنت جماعات من الإسلاميين العمل الجهاديّ في مصر منذ السبعينيات، وبالتحديد الجماعة الإسلامية، وجماعة الجهاد، على تفاوتٍ في تاريخ كلا الجماعتين ودوافعهما. وكان المنطلق في هذا اللون من الصراع هو إسقاط النظم الحاكمة واستبدالها بنظام إسلاميّ يحكم بشرع الله. ولسنا بصدد الحديث عن تاريخ هذه الجماعات، لكنّ القَدْر المشترك الذي جمع بينها هو الفشل في تحقيق هذا الهدف بالتحديد، رغم ما كان من حسن نية لا يجازى عليه إلا المطّلع على ما تخفى الصدور سبحانه. كما أنّ القَدَرَ (بفتح الدال) المشترك بينها كان تشتيت هذه الجماعات، واغتيال العديد من أعضائها، واعتقال عددٍ آخر وصل إلى ثلاثين عاماً من الحبس. وشاء قدر الله أن يبتلي عدد من قياداتها، خاصة "الجماعة الإسلامية" فبدلوا وانحرفوا عن الجادة، لا نقول عن فكرة الجهاد فقط، بل عن المنهج التوحيديّ بعامة فيما خرجوا به من تراجعات أسموها "المراجعات"، ودعوا إلى الديموقراطية وشاركوا في مناهجها وصاحبوا الرياسات، وتصالحوا مع الإخوان، حتى لم يبق بينهم فرق البتة، بل نحسب أنهم أوغلوا في البعد عن النهج الشرعيّ من أولئك الذين كانوا أعداء الأمس ثم صاروا حكام اليوم.
ثم شاء الله سبحانه أن يظل عدد من هؤلاء ثابتا على منهجه، بما فيه من حقٍ عقديّ، وما فيه من بعض الخطأ في الرؤية والتصرف، وهم من حسنت نياتهم وخلصت لله، نحسبهم ولا نزكى على الله أحداً.
ولابد هنا أن نوجّه النظر إلى أنّ الواقع في بلادنا عامة، وفي شبه جزيرة سيناء على الأخص، لا يمكن فيه تحرير المواقف والأحداث، وإسنادها إلى فاعليها بلا شك، إذ إن اللاعبين على الساحة أكثر وأمكر مما يعتقد الكثير من البسطاء في التفكير والتصور. فهناك مصالح صهيونية لعمل مشكلاتٍ وتوترات في سيناء، كما أنّ للصليبية الغربية نفس المصالح، وإن كانت على درجة أقل. كما أنّ التركيبة السكانية القبلية هناك تتداخل مع طبيعة العمليات في هذا القطاع من مصر، وما ينشأ من مصالح اقتصادية ومادية تدفع هذه القبائل إلى اتخاذ مواقف متضاربة حسب ما يمليه عليها الواقع الحالّ.
وفي ظلّ هذا التشابك والتداخل في الأهداف والأطراف، نجد عدداً من المخلصين، من الشباب أو من قياداتهم، ينظرون إلى العملية الجهادية، بهذا الأسلوب وبهذه الإمكانات، على أنها الوسيلة إلى إقامة دين الله في الأرض. وهنا يجب أن نقف وقفة شرعية نحرر فيها هذا القول أولاً ثم نتوجه بعدها بالنصح لمن أراد أن ينتصح ثانياً. وتتلخص هذه الوقفة في التالي:
- أن إقامة خلافة إسلامية أو إمارة إسلامية، لن يتحقق بجهود فردية مَحدودة، قوامها عشرات من المسلمين المخلصين المجاهدين، فإنّ الهدف المطلوب أكبر بشكلٍ مخيفٍ مما يتصور هؤلاء الشباب، وقياداتهم.
- أن إدراك الهدف ليس صعباً بسبب قوة العدو، فنحن أقوى بعون الله ولا شك، ولكن العائق الرئيس هو في ضعفنا وقلة إمكاناتنا وتشتت جهدنا وتخالف تصوراتنا. وقد قال تعالى "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل". فالقوة هي إعداد النفوس المجاهدة الواعية التي تتمكن من المواجهة والنصر، في غالب الظن، ورباط الخيل هو السلاح والعتاد المكافئ. فمن غفل عن قول الله تعالى لم يصبه إلا النكبة والخسارة، وإن صلحت النية وحسن القصد، كما ذكرنا.
- أنّ هذه النوعية من العمليات، وإن أصابت العدوّ بارتباك في بعض الأحيان، إلا أنه يستخدمها لأغراضه من تبشيع صورة المجاهدين والإسلاميين بعامة، والحث على ضربهم بكافة أطيافهم، فتكون النتيجة هي نكبات عامة في مقابل تأثير محدود جداً، يحتمله العدو بغاية الرضا.
- أن من هذه العمليات ما لا يمكن أن نعرف القائمين عليها بشكلٍ قطعيّ، فالأطراف المتعددة العاملة على الساحة غير معروفة، وأكثر من أن تحصى، كما ذكرنا، ومن هنا يؤخذ الحابل بالنابل ويسند ما فيه شرٌ إلى ما هو خير.
- أن الأصل في العمل الإسلاميّ اليوم هو تنمية القوة، ثم بناء العدة، وبدونهما فإن العبثية ستكون هي الصفة الملازمة للتصرفات، والفشل سيكون نتيجتها المتوقعة.
- أننا قد شهدنا بأعيننا الطريقَ إلى إحداث تغييرٍ في النظم الحاكمة، تغييراً يتجاوز قدرات العدو على إيقافه، ولا يمكنه إلا التسليم له والتعامل معه، وذلك في حركة 25 يناير. فقد خرجت "القوة" بكثافةٍ كانت كافية للإطاحة بالنظام، وإن لم تكن حاملة للفكرة الإسلامية إبتداءً. لكن هذا لا يمنع من أن تكون عبرة لشبابنا وقياداتهم، أنّ سنن الله في التغيير لا تتبدل، وأن مثل هذه العمليات المحدودة ليست طريقاً للتغيير، وليست بديلاً لبناء القوة بشقيها، العدد والعدة.
- أنه لا يجب استعداء النظم ودعوتها لاستنفار قوتها ضد حاملي الفكرة الإسلامية الصحيحة، وإعطائها المبررات الكافية لارتكاب جرائمها ضدهم، لمجرد الحرص على استخدام لفظة الجهاد في إسم تيارٍ، فإنّ الجهاد فرضٌ مبنيّ في أصل الفكرة الإسلامية، والحرص على ذكر هذه الفريضة بعينها في عنوانٍ أو تسمية، إلى جانب أنه يعكس سذاجة في التفكير، فإنه قد يحمل خطأ شرعياً، إذ الإسلام منظومة عامة لا يصحّ أن يتخصص منها اسم علمٌ على المسلمين الذين يريدون نشر الإسلام متكاملاً. فالمسلمون في مكة كانوا "مسلمون"، لا مجاهدون. لكن بعد أن نشأت الدولة الإسلامية، وصحّ التخصص في الأغراض الإسلامية المتعددة، ظهر الفقهاء، والمجاهدون، وطوائف عديدة يخدم كل منها غرضاً من أغراض الإسلام. فالتسمية بفريضة خاصة يوحى بمحدودية الإسلام، وضيق التوجه، ويلقى ظلالاً لا يمكن أن يتجاوزها العقل، وإن ادعى حاملوها أنهم يقصدون إلى الإسلام جملة متكاملة، فالجواب يُقرأ من عنوانه كما يقال. وهم في ذلك كحزب التحرير الذي يحمل فكرة الخلافة كفكرة أساسية يدعو لها، وهي مجرّد هدفٍ من أهداف الإسلام، وكجماعة التبليغ والدعوة التى تحمل فكرة الخروج في سبيل الله كهدف أصيلٍ أوحدٍ، هذا بالطبع إلى جانب الخلل في البناء العقدي عند كلتا الجماعتين.
ولن نتمكن في هذا المقال من أن نرصد كافة الجوانب التي نود أن نوجه نظر إخواننا من المنتمين إلى الفكرة الإسلامية الصحيحة، بمذاقٍ جهاديّ، إن صحّ التعبير، لكننا نكتفى بالنصح في نقطتين بارزتين، أولهما أن الإعلام خبيث عميلٌ يجب تجنبه ما أمكن، إذ بطبيعته يؤدى إلى تنازلاتٍ وتراجعات وتلبّسات بين الأفكار صوابها وخطؤها. وثانيهما أن ندع الظواهر السطحية وأن نستفيد من تجارب الماضى، وأن ندع علماءنا يقررون ما هو صحيح فنتبعه، وما هو مؤجلٌ فندعه لحينه، فإن المشاهد اليوم، خاصة عند هذه التجمعات، سطوة الشباب واستعجالهم بالفتوى وسرعة انتقاداتهم لعلمائهم وقياداتهم، على عكس الإخوانية والسلفية المنزلية، الذين يتعبد أتباعهم بطاعة قياداتهم دون فكر أو تعقل. وكلا الطرفين متجاوز في تصرفه. كما أرى أن تقوم هذه التيارات بتنقية صفوفها من غلاة التفكير والتكفير، وأن تبدأ في دوراتٍ تعليمية تستهدف تصحيح النظر العمليّ الواقعيّ، حتى تتجنب تكرار أخطاء الماضى، وحتى لا يدفع بعضها ثمن جهل بعضها الآخر.
ثم أدعو الله أن يوفق إخواننا ممن صحت عقيدتهم وخلصت نياتهم أن يلهمهم الله السداد في الرأي والعمل.