الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
من أهم النقاط التي يتلاعب بها أهل الكفر من العلمانيين والليبراليين، ويعاونهم فيها، بكل أسف، كثيرٌ ممن يدعى الإنتماء للتيار الإسلاميّ، هي أنّ الوقت اليوم ليس وقت دولة "لا إله إلا الله"، وأنّ التحدى الحقيقي أمام مصر والمصريين هو انتشالهم من الحضيض الذي وصلوا اليه بجهد مبارك وعصابته خلال ثلاثة عقودٍ من الفساد والسرقة.
والحقّ أنّ هؤلاء لا يفهمون، أو يفهمون ويتماكرون، أنّ هذه الدولة التي نسعى لإنشائها جاهدين، مجاهدين، ليست هي دولةٌ تقوم على بعد غيبيّ واحد، يُعنى بالحياة الآخرة، وبإقامة الشعائر الدينية، رغم أنه الحق من ربنا، لكنها تعنى كذلك بإحراز القوة وتحقيق الغلبة التي من لوازمها العلم، والنهضة، والنظافة والصحة والتصنيع، وكلّ ما هو من لوازم الحياة الحديثة ومقتضياتها، ومن حقوق الإنسان وضرورات معيشته، وهو مقتضى قوله تعالى "وَٱبْتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا" القصص 77، وهو أمرٌ صريح بعدم نسيان هذا القدر من طلب الدنيا.
وسنحاول إن شاء الله في هذه السلسلة أن نلقى الضوء على عددٍ من المصطلحات التي نالتها يد التغيير على مر القرون، لأسباب نشرحها لاحقاً، وأدت إلى ذلك البرود القعديّ الذي يعيشه المسلمون تجاه إقامة دولة "لا إله إلا الله" وضرورتها وفرضيتها.
إنّ الله سبحانه، حين أرسل رُسُلَه بالهُدى ودينِ الحق ليظهرَه على الدين كله، لم يكن يقصد بالدين ذلك المفهوم المحدود من الكلمة، والذي أصبح يسيطر على معناها أينما وردت، وهو أنّ الدين هو "مجموعة الشعائر من صلاة وصيام وحجٍ، مما هو من حق الله الخَالص على العبيد، والتي يقصد بها دخول الجنة والفرار من النار". لكن هذا التعريف الذي استقر في أذهان الناس خلال قرونٍ من التغييرات الاجتماعية والسياسية، ليس إلا شقٌ واحدٌ من معنى "الدين" الذي أُرسل به أنبياء الله جميعاً، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، للبشر ليحييهم حياة طيبة في الدنيا ويجزيهم أجرهم في الآخرة.
ودعونا نستعرض بإختصار ما تعنى كلمة "الدين" في القرآن الكريم، إذ إن الرجوع الى مصدرها هو السبيل الوحيد لفهم معناها دون تحريف أو تبديل، مستعينين في هذه السلسلة كلها بما كَتب العلامة الإمام المودودى في "المُصْطَلحات الأربعة في القرآن".
فقد استعمل العرب كلمة الدين بمعانٍ أربعة:
- القهر والسلطة والحكم والأمر، والإكراه على الطاعة، واستخدام القوة القاهرة فوقه (Sovereignty)، وجعله عبداً ومطيعاً، فيقولون (دان الناس) أي قهرهم على الطاعة، وتقول (دنتهم فدانوا) أي قهرتهم فأطاعوا. و (دنت القوم) أي أذللتهم واستعبدتهم، و(دان الرجل) إذا عز و(دِنْتُ الرجل) حملته على ما يكره. و(دُيّن فلان) إذا حُمِل على مكروه. و (دنته) أي سُسته وملكته. وجاء في الحديث النبوي (الكيس من دان نفسَه وعمل لما بعد الموت) أي قهر نفسه وذللها.
- الإطاعة والعبدية والخدمة والتسخر لأحد والائتمار بأمر أحد، وقبول الذلة والخضوع تحت غلبته وقهره. فيقولون (دنتهم فدانوا) أي قهرتهم فأطاعوا، و (دنت الرجل) أي خدمته، وجاء في الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أريد من قريش كلمة تدين بها العرب) أي نطيعهم ونخضع لهم. بهذا المعنى يقال للقوم المطيعين (قوم دُيّن) بهذا المعنى نفسه.
- الشرع والقانون والطريقة والمذهب والملة والعادة والتقليد، فيقولون (ما زال ذلك ديني وديدَني) أي دأبي وعادتي. ويقال (دان) إذا اعتاد خيراً أو شراً. وفي الحديث (كانت قريش ومن دان بدينهم ..) أي من كان على طريقتهم وعادتهم، وفيه (أنه عليه السلام كان على دين قومه) أي كان يتبع الحدود والقواعد الرائجة في قومه في شؤون النكاح والطلاق والميراث وغير ذلك من الشؤون المدنية والاجتماعية.
- الجزاء والمكافأة والقضاء والحساب. فمن أمثال العرب (كما تدين تدان) أي كما تصنع يصنع بك. وقد روى القرآن قول الكفار (أإنا لمدينون) أي هل نحن مجزيون محاسبون؟ وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تسبوا السلاطين، فإن كان لا بد فقولوا اللهم دِنهُم كما يدينون) أي افعل بهم كما يفعلون بنا. ومن هنا تأتي كلمة (الديان) بمعنى القاضي وحاكم المحكمة.
فإذا رأينا ما تعنى العرب بهذه الكلمة، تبين أن معناها قائمٌ على أربعة معان:
أولها: القهر والغلبة من ذي سلطة عليا.
والثاني: الإطاعة والتعبد والعبدية من قبل خاضع لذي السلطة.
والثالث: الحدود والقوانين والطريقة التي تتبع.
والرابع: المحاسبة والقضاء والجزاء والعقاب.
وإذا انتقلنا للإستعمال القرآنيّ للكلمة، وجدناها أطلقت بهذه المعاني الأربعة ذاتها:
1- الحاكمية والسلطة العليا.
2- الإطاعة والإذعان لتلك الحاكمية والسلطة.
3- النظام الفكري والعملي المتكون تحت سلطان تلك الحاكمية.
4- المكافأة التي تكافئها السُلطة العليا على اتباع ذلك النظام والإخلاص له أو على التمَرد عليه والعصيان له.
فالدين بالمعنيين الأول والثاني:
(ٱللَّهُ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ قَرَارًۭا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءًۭ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَـٰتِ ۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿64﴾ هُوَ ٱلْحَىُّ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ فَٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ ۗ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿65﴾ قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَمَّا جَآءَنِىَ ٱلْبَيِّنَـٰتُ مِن رَّبِّى وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ) (غافر)
(إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصًۭا لَّهُ ٱلدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ ۚ)(3) & (قُلْ إِنِّىٓ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصًۭا لَّهُ ٱلدِّينَ) (11) & (قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًۭا لَّهُۥ دِينِى ﴿14﴾ فَٱعْبُدُوا۟ مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِۦ) & (وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُوا۟ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوٓا۟ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ)(17) .. (الزمر)
(وَلَهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِبًا ۚ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ) (النحل: 52)
(أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُۥٓ أَسْلَمَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ طَوْعًۭا وَكَرْهًۭا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (آل عمران: 83)
(وَمَآ أُمِرُوٓا۟ إِلَّا لِيَعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلْقَيِّمَةِ) (البينة: 5)
في جميع هذه الآيات قد وردت كلمة (الدين) بمعنى السلطة العليا، ثم الإذعان لتلك السلطة وقبول إطاعتها وعبديتها. والمراد بإخلاص الدين لله ألا يسلم المرء لأحد من دون الله بالحاكمية والحكم والأمر، ويخلص إطاعته وعبديته لله تعالى إخلاصاً لا يتعبد بعده لغيره الله ولا يطيعه إطاعة مستقلة بذاتها. ([1])
والدين بالمعنى الثالث
(قُلْ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكٍّۢ مِّن دِينِى فَلَآ أَعْبُدُ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنْ أَعْبُدُ ٱللَّهَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّىٰكُمْ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴿104﴾ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًۭا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ (105)) (يونس)
(إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوٓا۟ إِلَّآ إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 40)
(وَلَهُۥ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ كُلٌّۭ لَّهُۥ قَـٰنِتُونَ) (الروم 26)
(وَلَهُۥ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ كُلٌّۭ لَّهُۥ قَـٰنِتُونَ ﴿26﴾ وَهُوَ ٱلَّذِى يَبْدَؤُا۟ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ۚ وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلْأَعْلَىٰ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴿27﴾ ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًۭا مِّنْ أَنفُسِكُمْ ۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُم مِّن شُرَكَآءَ فِى مَا رَزَقْنَـٰكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌۭ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَـٰتِ لِقَوْمٍۢ يَعْقِلُونَ([2]) ﴿28﴾ بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓا۟ أَهْوَآءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍۢ ۖ فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ ۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِينَ ﴿29﴾ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًۭا ۚ فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿30﴾) (الروم)
(ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجْلِدُوا۟ كُلَّ وَٰحِدٍۢ مِّنْهُمَا مِا۟ئَةَ جَلْدَةٍۢ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌۭ فِى دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ) (النور: 2)
(إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْرًۭا فِى كِتَـٰبِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌۭ ۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ) (التوبة: 36)
(كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ) (يوسف: 76)
(وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍۢ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَـٰدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ ([3])لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا۟ ([4])عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) (الأنعام: 137)
(أَمْ لَهُمْ شُرَكَـٰٓؤُا۟ شَرَعُوا۟ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنۢ بِهِ ٱللَّهُ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ) (الشورى: 21)
(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ) (الكافرون: 6)
فالمراد بـ (الدين) في جميع هذه الآيات القانون والحدود والشرع والطريقة والنظام الفكري والعملي الذي يتقيد به الإنسان فإن كانت السلطة التي يستند إليها المرء لاتباعه قانوناً من القوانين أو نظاماً من النظم سلطة الله تعالى، فالمرء لا شك في دين الله عز وجل، وأما إن كانت تلك السلطة سلطة ملك من الملوك، فالمرء في دين الملك، وإن كانت سلطة المشايخ والقسوس فهو في دينهم. وكذلك إن كانت تلك السلطة سلطة العائلة أو العشيرة أو جماهير الأمة، فالمرء لا جرم في دين هؤلاء. وموجز القول أن من يتخذ المرء سنده أعلى الأسناد وحكمه منتهى الأحكام ثم يتبع طريقاً بعينه بموجب ذلك، فإنه –لا شك- بدينه يدين.
والدين بالمعنى الرابع:
(إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌۭ ﴿5﴾ وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٰقِعٌۭ ﴿6﴾ ) الذاريات
(أَرَءَيْتَ ٱلَّذِى يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ ﴿1﴾ فَذَٰلِكَ ٱلَّذِى يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ ﴿2﴾ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ (3)) (الماعون)
(وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ ﴿17﴾ ثُمَّ مَآ أَدْرَىٰكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ ﴿18﴾ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌۭ لِّنَفْسٍۢ شَيْـًۭٔا ۖ وَٱلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍۢ لِّلَّهِ (19)) (الانفطار: 17-19)
قد وردت كلمة (الدين) في هذه الآيات بمعنى المحاسبة والقضاء والمكافأة.
ثم إذا تمعنا في الآيات القرآنية، وجدنا أن "الدين يأتي كذلك كمصطلح جامع شامل لكل ما تقدّم، إذ يشتمل على المعاني السابقة، ويدلّ على الحياة كلها، بكافة أبعادها، دنيا وآخرة.
"قَـٰتِلُوا۟ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ(1) وَلَا بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ(2) وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ(3) وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَـٰبَ حَتَّىٰ يُعْطُوا۟ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍۢ وَهُمْ صَـٰغِرُونَ" التوبة: 29
فالدين في قوله تعالى (دِينَ ٱلْحَقِّ) في هذه الآية كلمة اصطلاحية قد شرح معانيها واضع الاصطلاح نفسه عز وجل، في الجمل الثلاث الأولى المرقّمة أعلاه، ثم أجملها في قوله (دِينَ ٱلْحَقِّ) ليبيّن أن الدين هو كلّ هذه المعاني مجتمعة.
"وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِىٓ أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُۥٓ ۖ إِنِّىٓ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ٱلْأَرْضِ ٱلفساد" غافر: 26
(إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلْإِسْلَـٰمُ) (آل عمران: 19)
(وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلْإِسْلَـٰمِ دِينًۭا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ٱلْءَاخِرَةِ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ) (آل عمران: 85)
(هُوَ ٱلَّذِىٓ أَرْسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33)
(وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌۭ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِ) (الأنفال: 39)
(إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ ﴿1﴾ وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجًۭا) (سورة النصر)
فالمراد بـ (الدين) في جميع هذه الآيات هو نظام الحياة الكامل الشامل لنواحيها من الاعتقادية والفكرية والخلقية والعملية.
ومن هنا فإن الفهم المستقيم للقرآن حسب لغة العرب الذي أنزل بها تدحض أقوال هؤلاء العلمانيين والليبراليين الملاحدة، وتتركها ركاماً لا تساوى قيمة الورق الذي يسطرونه عليها.
"الدين" في الإسلام هو قوة الدنيا وعزّها ونهضتها، ونجاة الآخرة ونعيمُها وسرمديتها. إن الخطأ الفاحش الذي يقع فيه هؤلاء جميعاً، ومنهم طوائفٌ من "الإسلاميين"، أنهم يعتقدون أنه يمكن النهضة دون الإسلام التام الكامل، دون "لا إله إلا الله" واقعة حقيقة على الأرض، وهو من المُستحيلات التاريخية والشّرعية على حدّ سواء. فإنّ نظام الحياة، في الدنيا، الذي هو جُزء لا يتجزّأ من "الدين"، هو الكفيل بأنْ يحفظ على الأمة كيانها ووحدتها، وأن يدفع بها نحو النهضة العلمية والدنيوية في كافة المجالات، محفوفة بالخُلُق الحَسن، وطهارة اليد واللسان والفَرْج، ويجعل الكسب حلالاً ويستنزل عون الله وبركاته.
حفظ "الدين" في الإسلام هو الضمانُ الوحيد لحدوث النهضة وسلامة توجّهِها، وصحّة قواعد بنيانها واستدامتها وشمولها.
إن دولة "لا إله إلا الله" هى الدولة التى تقوم على العلم والنهضة الصناعية والصّحية وحقوق الإنسان والمرأة والطفل والحيوان، وهي التي تعيد للمرء كرامته وترفع مستوى معيشته، وتضمن حريته، في ظل المنهج الإلهي. ولا يظنّن أحد أن هناك وسيلة أخرى ترتقى بها هذه الأمة، وإن تشدّق العلمانيون والليبراليون والإخوان الديموقراطيون، وزعموا..!
ومن هنا فإنّ مُهِمّتنا كدعاة فرادى أو جماعات أو تيارات، تؤمن بدولة "لا إله إلا الله"، أنْ ننشر مفهوم "الدين"، وأن نعمل على أنْ يصلَ إلى كلِ مُسلمٍ مُحبٍ لدينه. هذا هو هدفنا لا نحيد عنه، بزيادةٍ أو نقصان. وهو ما دوّناه في كتيّبنا عن "التيار السنيّ لإنقاذ مصر"، حيث بيّنا أن نشر هذه العقيدة هي هدفنا الأول، لا هدف سواه، وأنّ ما عدا ذلك فهو أمرٌ من أمور الله، لا يَعلمه إلا هو سبحانه في غَيبِه المَكنون.
وللحديث بقية إن شاء الله..
([1]) (معناه أن تكون إطاعة المرء لغير الله – أياً كان هو – تابعة لإطاعة الله تعالى ومتضمنة فيما قد رسم لها من الحدود. فالطاعة الولد لوالده وإطاعة المرأة لزوجها، وإطاعة العبد أو الخادم لسيده وما شاكلها من الإطاعات، إن كانت بأمر من الله ومتضمنة فيما قد وضع لها من الحدود فإنها عين إطاعة الله. وأما إذا كانت خارجة عن تلك الحدود أو مستقلة بذاتها، فإنها البغي والعصيان.
وقل مثل ذلك في الحكومة، فهي إن كانت مبنية على القانون المنزل من عند الله تعالى قائمة بإنفاذ حكم الله في أرضه فإن إطاعتها واجبة أما إذا لم تكن كذلك، بل كان أساسها القوانين الوضعية، فإن إطاعتها جريمة.
([2]) أي أن الفطرة التي قد فطر الله عليها الإنسان هي أن لا شريك لله تعالى في خلق الإنسان وإبلاغه الرزق وتولي الربوبية له، ولا إله لبني آدم ولا مالك ولا مطاع حقيقياً غير الله تعالى. فالطريق الصحيح الطبيعي للإنسان أن يخص عبديته لله تعالى وحده ولا يكون عبداً لغيره.
([3]) أي الذين اتخذوهم مع الله شركاء في الإلهية، والحكم والأمر، والتشريع.
([4]) المراد بلبس الدين عليهم هو أن هؤلاء الشارعين الكذابين يزينون لهم ذلك الإثم تزيناً بوهمهم أن فعلتهم تلك جزء من الدين الذي توارثوه قديماً عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.