الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
خلُصنا في مقالٍ سابق تحت عنون "في رحاب العربية .. تحت راية القرآن" إلى دُعاءٍ إلى "هذا الجيل الذي عَرى عن العربية، وعن تاريخها القديم والحديث، والذي هو مفتاح التاريخ الإسلاميّ كله، لا يفهمه أحدٌ لم يعالج هذا الفنّ، ولم ينير فكرَه بأنواره".
وهذا كتابٌ آخر، لا يقل خطراً ولا أثراً عن كتاب الرافعيّ المذكور، يثبت بدلالة قاطعة تلك العلاقة الوثيقة بين تاريخنا وبين لغتنا العربية، وهو كتاب العملاق المفكر الأديب د محمد محمد حسين المُعنوَن "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر". والعلاّمة الدكتور محمد محمد حسين، علمٌ شامخٌ في تاريخ العربية الحديث، وتاريخ آدابها، إذ كان أستاذا في آداب جامعة الإسكندرية، كما كان من الدعاة إلى مناهضة الاستشراق وتغلغُل الفكر الغربيّ في ثقافتنا وديننا. ولا يزال يتردد في مسامعى حديثه في مقر الجامعة في بداية السبعينيات، يوم أن كان السادات الهالك قد جمع أساتذة جامعة الإسكندرية ليخطب فيهم من خطبه الفكاهية قليلة النفع، كثيرة الغث، فإذا بالعلامة العملاق يقف في القاعة، يدعو السادات أن يحكم بما أنزل الله وأن يحكّم الشرع وأن يترك تلك القوانين الوضعية الكافرة، وكان أن بُهت السادات، وبهت بقية المنافقين من حوله، وكان أن قُطع الإرسال لحظياً بسبب "عيبٍ فنيّ!". كان أن أصدرت هيئة الجامعة في اليوم التالي بياناً تبرّأت فيه مما قال العلامة الداعية العظيم، ثم كان أن أرسلته الجامعة إلى ليبيا في "إعارة" ومنها إلى السعودية، حتى توفاه الله عام 1982، عن سبعين عاماً.
وهذا الكتاب، يعتبر بحق، تأريخاً فريداً في بابه للحركة الوطنية المصرية، بكافة إتجاهاتها، الإسلامية منها متمثلة في الحِزب الوطني برئاسة مصطفى كامل، والعلمانية متمثلة في حزب الأمة بقيادة أحمد لطفى السيد. وهو تأريخ يبدأ بالحركة العرابية وينتهى بإنشاء تلك الجامعة العربية التي كَرّست نتائج الإحتلال، ومَهدت لتقسيم الشرق الأوسط إلى دويلات مبنية على الأساس القوميّ، لا الأساس الديني كما كانت في دولة الخلافة الكبرى.
وقد تتبع العلامة الأديب حَركة الأدب العربيّ، متمثلاً في شعر أمير الشعراء أحمد شوقي، وغيره من أعلام الشعر والنثر في تلك الفترة الذهبية في تاريخ الأدب العربيّ الحديث، يستجلى من خلالها اتجاهات الوطنيين، ومنازعهم، من خلال حديثه عن الجامعة الإسلامية، وتقدير الأدباء والشعراء لها، وتمثلها في الخديوى عباس أولا، ثم في الهجوم عليه حين بدّل ثانياً، ثم الدعوة لعبد الحميد، كإمام للمسلمين وقتها. يقول شوقي داعيا إلى تأديب شريف مكة:
ضَجَّ الحَجيجُ وضج البيت والحرم واستصْرَخت ربّها في مَكة الأممُ
قد مسّها في حماك الضر فاهد لها خليفــــة الله، أنتَ السيـدُ الحــكمُ
ثم تحدث علامتنا بعدها عن الجامعة المصرية، وتتبع ذلك الصراع الذي دار بين العلمانية الوليدة، الترتدية ثياب القومية، وبين الإسلامية التي كانت لا تزال فيها من القوة والصلابة، ولها من المدافعين والمنافحين ما يجعلها تضرب الكفر ضربات موجعة، وتجعله يتخفى في ثياب النهضة والتقدم والتجديد. ها هو شوقي في رائعته المطولة الشهيرة
همّت الفلك واحتواها الماءُ وحَداها بمن تُقِلُّ الرجاء
يمدح آل أيوب، من باب الإعتزاز بماضى مصر التليد
واذكر الغُرّ آل أيوب وامدح فمن المَدح للرجالِ جَــــــزاءُ
هم حماة الإسلام والنفر البيـ ض الملوك الأعزة الصُلَحاءُ
بل وتجد في الكتاب تفصيل تلك الفتنة التي قامت بين القبط والمسلمين، تماما كما هي اليوم، بعد مقتل بطرس غالي، رئيس الوزراء القبطي، الذي تعاون مع الإنجليز وباع وطنه رخيصاً. وسبحان الله العظيم، كانت دعوات القبط تماما هي ما يَدّعون اليوم، يصوِّرون أنهم مضطهدون ويعقدون مؤتمراً للقبط، يطالبون فيه بزيادة نسبتهم في البرلمان، وفي الأجهزة الحكومية، وما إلى ذلك من طلباتٍ لا حقيقة لها، كما بيّن المؤتمر المصري بعدها في عام 1911، تماما كما لا يزال لا حقيقة لها اليوم.
ثم يتحدث العلامة الدكتور في الجزء الثاني من كتابه العظيم، عن الخلافة الإسلامية، وما ثار من نقاش وما ضرب البلاد من حيرة، بعد أن ألغاها الملحد العتيد أتاتورك، فلا يكاد الناس يصدقون أنهم بلا خليفة أو أمير مؤمنين. ويصف كيف تَصدّرت مصر حركة إعادة الخلافة، من خلال الأزهر ومن خلال ترشيح الملك فؤاد لها. ثم يعرّج على الآثار الأدبية والفكرية التي ظهرت عقب هذا الحدث الجلل، فيناقش كتاب الإمامة العظمى لرشيد رضا، حيث بيّن "أن الذي ينقص المسلمين هو إقامة نهضتهم على أساس دينهم. وأظهر أسفه - أي رشيد رضا - لأن زعماء السياسة في المسلمين أصبحوا لا يدركون ما ينطوى عليه الشعور الإسلاميّ من قوى عظيمة يمكن أن تكون أقوى الوسائل للنهضة"ج2ص60. ثم عرض لكتاب الإسلام وأصول الحكم لعلى عبد الرازق، عليه من الله ما يستحق، حيث ذهب إلى ترويج بدعة المستشرقين من أنّ الخلافة لا أصل لها في دين الله، إنما هي شكلٌ إجتماعيّ تعارَف عليه المسلمون لا غير. وهو الكتاب الذي أخرج هذا الرجل من دائرة العلماء بحكم الأزهر عليه وقتها.
ويسير علّامتنا على هذا المنوال، في ربط الحركة الأدبية بتاريخ الأحداث، فيتحدث عن الكتاب الخبيث الذي وضعه أعمى البصر والبصيرة الخبيث طه حسين تحت عنوان "مستقبل الثقافة في مصر" والذي ذهب فيه إلى إنه إن أراد الشرق نهضة فلابد له من أن يتبع الغرب في كل ما ذهب اليه، صحيحه وسقيمه، حلوه ومره. وكان هذا الكتاب من أخطر ما كُتب دعماً للتغريب وترويجاً للكفر والتملص من الشرع.
ولو ذهبت أتتبع ما ناقش عالمنا الجليل، في موسوعته الأدبية التاريخية، لنقلت عنه أكثر ما قال، ولخرج المقال عن الحيز الذي افترضته له، طولاً وشمولاً. لكنّ هذا الكتاب يتميّز بأنّ كلّ سطر فيه له مكان في المنظومة الفكرية التي حاول المؤلف بناءها بكل نجاح، وهي التي تدل دلالة لا شكّ فيها على الارتباط الوثيق، والوليجة القوية المؤكدة بين اللغة وتاريخها، وبين التاريخ وأحداثه، وهو ما أردنا أنْ ننبه اليه شبابنا من الجادين في طلب العلم، ليعرفوا خطورة هذا الموضوع، وأثره في تكوين الآراء واستلهام الأحداث.
رحم الله العلامة الأديب المجاهد د محمد محمد حسين، وجزاه خيراً عن الأمة والإسلام.