فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      نظراتٌ في سورة الأنبياء (2)

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      "بَلْ قَالُوٓا۟ أَضْغَـٰثُ أَحْلَـٰمٍۭ بَلِ ٱفْتَرَىٰهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌۭ فَلْيَأْتِنَا بِـَٔايَةٍۢ كَمَآ أُرْسِلَ ٱلْأَوَّلُونَ ﴿5﴾ مَآ ءَامَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَآ ۖ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ﴿6﴾ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًۭا نُّوحِىٓ إِلَيْهِمْ ۖ فَسْـَٔلُوٓا۟ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿7﴾ وَمَا جَعَلْنَـٰهُمْ جَسَدًۭا لَّا يَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَمَا كَانُوا۟ خَـٰلِدِينَ ﴿8﴾ ثُمَّ صَدَقْنَـٰهُمُ ٱلْوَعْدَ فَأَنجَيْنَـٰهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا ٱلْمُسْرِفِينَ ﴿9﴾"

      سبحان الله، ما ترك المجرمون عُذرا يتعللون به لردّ الحقّ إلا ردّدوه، ولا مَخرجاً من التكليف إلا وَرَدوه! أضغاثُ أحلام، إفترءات، شعرٌ كبقية الشعر! تضاربٌ في الأعذار، وتشتت بينها ينبئ بأمر واحد، الاضطراب فيها كلها، وعدم الثقة في أيّها، وهي خلاصة ما حاوله الأقدمون في ردّ معجزة القرآن. وهاهم المتأخرون منهم، يستعملون نفس التعاليل، ها هو طه حسين أعمى البصر والبصيرة، يدّعى أنّ كتاب الله لم يكن معجزة بيانية، لأننا قد فقدنا ما كتبه الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أنّ دمّره المسلمون عَمداً ليَظهرَ القرآن وكأنّه معجزة! ثم الكثيرُ من كفّارهم، ممن انتسب زوراً لهذا الدين، قد يئسوا من الهجوم على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، أو على مصداقية الوحيّ، فراحوا يكيلون لفحوى خطابه الحيل، يلتوون بها حيناً، ويتأولونها حينا، ويخرجونها عن سياقها حيناً، يأتون في ذلك بالأعاجيب، في اللغة والمنطق جميعاً، ليفرغوه من فحواه، وليتفلتوا من تكاليف الله.

      "فَلْيَأْتِنَا بِـَٔايَةٍۢ كَمَآ أُرْسِلَ ٱلْأَوَّلُونَ" ثم هم يعلمون أنّ النقد والسبّ وحده لا يجدى ولا يستقيم، فهم يلحقون هذه التعاليل المريضة بطلبٍ، يوحى أنهم على استعدادٌ للإجابة إن صَحّت القضية! وأنّ العيبَ هو في ضعف المعروض، لا في إعراض المستمع! وكأنما الآية هي المشكلة في الأمر، وليست نفوسهم المُشركة وعقولهم الضالة، وكأن الله سبحانه لم يرسل آياتٍ لا تحصى من قبل، على كثيرٍ من أنبيائه ورسله، فإذا بالناس يرتدوا بعدها على أعقابهم خاسرين. ألم يرسل الله موسى بسبعٍ آيات من قبل؟ ألم ير قومه البحر ينفلق كل شقٍ كالطود العظيم؟ ألم تر يهود معجزات عيسى عليه السلام رأي العين، ميلاده، وحديثه في المهد، وإحياءه للموتى وشفاءه للأكمه والأبرص. ألم يرَ قوم أهل الكهف معجزة الله في إبقاء هؤلاء الفتية المؤمنون ثلاثمائة وتسعة أعوام كاملة، أحياء نائمين، ليكونوا عبرة لمن بعدهم؟

      كم من معجزة أُرسِل بها الأولون "مَآ ءَامَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَآ ۖ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ" نعم هي دعوى فارغة المحتوى، و"كم" تفيد الكثرة. كم من قرية أرسلنا لها تلك الآيات التي يتعللون بها، فكفرت بآياته وبأنعمه، ولم تؤمن، فكان مصيرها الهلاك. والمدقق يرى أنّ هذه الآية قد اشتملت على خبرين في الماضى وخبر في المستقبل، ووعيد، كلها في ثمانية كلماتٍ، إذ أخبرت بمصير القوم الذين كذبوا بآيات الله من قبل، وأخبَرت بأنهم أُهلكوا بظلمهم، وتوعدت تضميناً من يفعل فعلهم بالهَلاك، ثم أخبرت أنّ هؤلاء السّائلين المُحدثين لن يؤمنوا، حتى لو جاءتهم الآيات! فسبحان الله ما أعظم هذا القرآن.

      "وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًۭا نُّوحِىٓ إِلَيْهِمْ ۖ فَسْـَٔلُوٓا۟ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" هذه الآية تصف حقيقة لا مراء فيها، أنّ الله قد احتفى بالبشر فأرسل اليهم رجالاً منهم، رسلاً مُبشرين ومُنذرين، فلم يخلقهم سُدى، ولم يتركْهم هَملاً، كما يزعم بعض الضّالين من الفلاسفة. ثم تصف حقيقة أخرى، أن هؤلاء الرجال المختارون على عين الله هم بشرٌ من البشر، لا آلهة ولا أنصاف آلهة، كما ضَلّ النصارى في عقائدهم، وهم من ثمّ لا يأتون إلا بالآيات التي يُرسلها الله سبحانه، حسب إقتضاء علمه وحكمته، فما بالُكم تطلبون الآيات التي لا قدرة لرسلنا على تحقيقها "وَقَالُوا۟ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلْأَرْضِ يَنۢبُوعًا ﴿90﴾ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌۭ مِّن نَّخِيلٍۢ وَعِنَبٍۢ فَتُفَجِّرَ ٱلْأَنْهَـٰرَ خِلَـٰلَهَا تَفْجِيرًا ﴿91﴾ أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلَـٰٓئِكَةِ قَبِيلًا ﴿92﴾ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌۭ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِى ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَـٰبًۭا نَّقْرَؤُهُۥ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًۭا رَّسُولًۭا ﴿93﴾"الإسراء.

      "وَمَا جَعَلْنَـٰهُمْ جَسَدًۭا لَّا يَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَمَا كَانُوا۟ خَـٰلِدِينَ ﴿8﴾ ثُمَّ صَدَقْنَـٰهُمُ ٱلْوَعْدَ فَأَنجَيْنَـٰهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا ٱلْمُسْرِفِينَ ﴿9﴾"، هؤلاء الرسل ليسوا إلا بشراً ككل البشر، يأكلون الطعام، ويقضون الحاجة، ويحيون كما يحيَ الناس، ثم يموتون كما يموت الناس، لا يخلدون في الدنيا، إنما يفترقون عن الناس أنهم يتلقون من الله الوحي، وهي خاصة لا يمكن لبشرٍ عاديّ أن يفهمها حقّ الفهم، ويقدّرها حق التقدير، وهي الخاصّة التي ترفَع هؤلاء البَشر إلى أعلى درجات البشرية، لا المال الذي جمعوه ولا الجاه الذي اصطنعوه ولا المنصب الذى اعتلوه، إنه التلقى عن الله، وما أعلاها درجة أن يتصل بشرٌ بخالق الكون، والله إنه أمرٌ لو تفكّر فيه الناس حق التفكر لعرفوا قدر هذه الكلمات، أنّ الوحيّ يتنزل على رجلٍ منهم، وهو ما ذكره الله سبحانه في قوله "لقد أنزلنا اليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون"، إنزال الكتاب على رجلٍ من بيننا، وبذكرنا! خالق الكون كله، الواحد القادر العزيز المهيمن الذي لا يعجزه شئٌ في الأرضِ ولا في السماءِ، يُخاطِبُ بشراً مختارين بشأن بشرٍ مكلفين! ما أعظمه من شَرفٍ وما أحقّه بالرعاية والحفظ.

      ثم إن هذا القدر من الحِمل الشاق الذي حملته الأنبياء، كان له نصيبه وجزاؤه، في الدنيا قبل الآخرة، أنّ وعد الله صادقٌ بنصرتهم، وهو ما يعنى أنهم قد وُعدوا في قدر الله المكنون أنّ النصر لهم "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ ﴿171﴾ إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ ﴿172﴾ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ ﴿173﴾" الصافات. كلماتٌ حاسمات قاطعات، لا إحتمال فيها ولا تردّد. "لهُمُ" المنصورون، "لهُمُ" الغالبون، بعد إنّ، وبعد ضمير الإشارة "هُمُ"، ثلاث تأكيدات متعاقبة، فمن أين يأتي التشكّك، ولماذا يقع التحيّر إذن؟ خذوا ما آتيناكم بقوة إذن، لا تتنازلوا ولا تتخاذلوا ولا تنتكسوا إذن، فهو وعد الله الصادق.

      وإلى آياتٍ تالياتٍ إن شاء الله