الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
خلصنا في المقال السابق إلى أنّ قرارات محمد مرسى، بالنسبة للإسلاميين، هي مما هو مقصود بذاته، بغضّ النَظر عمن قام به، أو عن الغرض الذي قاده له. فإن عدداً من الإسلاميين قد ذهبوا إلى أن هذه القرارات متفق عليها مع اليهود، أو أنها متفق عليها مع العسكر أنفسهم، أو غير ذلك من صفقات الكواليس السياسية التي يُبدع فيها الإخوان. لكن، هذا كله لا يغيّر من أمرِ أنها في حدّ ذاتها، مطلوبة، وأنها توفر على المسلمين عبئ مواجهة العسكر ثم مواجهة الإخوان، أو العكس، أو كليهما معاً. وهذا بديهيّ من البديهيات التي لا يجب أن يختلف عليها عاقلان.
لكنّ الأمر اليوم هو أنّ جمهورية مرسى، كما قلنا، هي جمهورية خليط من العلمانية وشبه الإسلامية. ولا يغيّر ما يتردد عن محمد مرسى بصفة شخصية، من صلاة متواصلة وتهجدٍ وتواضع للناس، من هذه الحقيقة، فإن حديثنا هو عن مجتمعٍ، وعن قيادةٍ تتولى أمره، لا عن فردٍ صوّامٍ قوامٍ، مهما كان.
تلك العمليات العسكرية التي ينفّذها الجيش المصري، تحت قيادة محمد مرسى، يعلم الله من يَستهدفون فيها، ومن يصيبون، ومن يقتلون، وهل من يقتلون هم من نفّذوا مذبحة رفح أم لا؟ وقد تساءل بعض قرائنا، بحقٍ، كيف لهم أن يقتلوا قبل أن يُحقّقوا ويَحكُموا؟ وهذا أمرٌ يعيد لأذهاننا ما فعلته قيادة حماس في عملية مسجد ابن تيمية، والتي نفّذوها بلا رحمة ولا إعتبار لأيّ نوعٍ من أنواع الولاء، ولا يزال اسماعيل هنية يصوم ويقوم، ويعيش على الفتات متواضعاً بسيطاً! أقول تلك العمليات هي دليلٌ على إنحرافٍ عقديّ وسياسيّ وحركيّ في إتجاه جمهورية مرسى بلا شك، حتى الآن.
إن خلافنا مع جمهورية محمد مرسى ليس على شخصية وزير الدفاع، فتلك كانت مشكلته مع العسكر، لكن مشكلتنا هي مع الهوية الإسلامية للمجتمع، التي لا تزال لم يُعلن عنها، بل وتشير الدلالات إلى أنها ستظل تتراوح بين العلمانية وشبه الإسلامية.
إن القرارات التي صدرت، مع ضرورتها، قد استبدلت شخصياتٍ عسكرية بأخرى من ذات النوعية، بل بعضها من ذات المجلس العسكريّ، وهو ما يجعل أثر هذا التغيير محدوداً بفرض سيطرة مرسى على القيادات في الجيش، واستبدال قيادة محل قيادة، لا أكثر، فإن من يعيّن هو صاحب الكلمة والنفوذ، وطنطاوى وعنان كانا يشغلان مناصبهما بفرمانٍ مباركيّ، فولاءهما ليس لمرسى، لكن العصار والسيسى وصبحى، وهم من ذات الشلة الفاسدة، سيكون ولاءهم لمن وقّع قرار تعيينهم. وهو ترتيب، من الناحية السياسية، ماهرٌ ولاشك، ليضرب العسكر بعضهم ببعض، فلا يسمح بعضهم بثورة على الآخرين، لكن، أين هذا من الدولة الإسلامية التي ننشدها؟
سيقول الإخوان، ومنتسبيهم، حنانيكم علينا، خطوة خطوة، اليوم أكلنا العسكر، وغدا نطيح بالنائب العام والمحكمة الدستورية العليا للتزوير، ويتم تطهير القضاء، ثم يتم تطهير الإعلام الخبيث. قلنا نعم، جميلٌ ومنطقيّ، لكن ما لهذا ودستور البلاد، الذي حارب الإخوان كيّ لا تشمل مادته الثانية إلا كلمة "مبادئ"، ووقفوا ضد بعض السلفيين ومن بقيت فيهم نزعة إسلامية في تلك اللجنة التأسيسية "التدسيسية" لوضع الدستور؟ كيف هو من مُخططكم يا سادتنا الإخوان؟
إن مسؤولي الإخوان يتغنون بمزايا الديموقراطية ليلاً ونهاراً ويتباهون بإتباعها ومراعاة حدودها وأحكامها، وأنّها هي من عناصر إيمانهم، وأنّ الصناديق هي طريق التغيير، مهما جاءت به الصناديق، ولو جاءت بالكفر البواح، وأنهم، كجماعة، فصيلٌ واحدٌ في مصر، له ثقلٌ وله حقوقٌ تتوازى مع بقية الفصائل، كحزب التجمع الشيوعيّ أو حزب المصريين الأحرار اللادينيّ، أو غيرهم من الأحزاب الكفرية. هذا الإيمان الإخوانيّ، هو ما نفاصل عليه جمهورية مرسى، وجماعة الإخوان، كنا ومازلنا وسنظل، نعلن عنْ أنّه مبدأ كفريٌّ يضع الإخوان ومؤسسة الرئاسة كلها في ركنٍ ضيقٍ مظلمٍ كئيبٍ، في خيمة واحدة مع العلمانيين.
وهذه العناصر لا دخل لها بإزاحة العسكر، وهي نقطة البداية في أي توافقٍ أو تقاربٍ ممكن أن يكون بين الإسلاميين وبين مؤسسة الرئاسة. وطالما هذه العناصر الضبابية والفجوات العقدية والتصريحات المشبوهة تغلف التصرفات الرئاسية، وتربطها بدائرة الإخوان، بأي شكلٍ من الأشكال، فستظل جمهورية محمد مرسى مرفوضة من المسلمين الأوفياء للتوحيد والسُّنة، كما ستظل هذه الفجوة قائمة ما دامت هذه العَناصر والفجوات تشكّل الصدارة في تصرفاتها وفي علاقاتها مع الغرب، ومع الصهيونية، ومع القوى العلمانية اللادينية، خاصة بعد أن ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه "عندما توجد الإرادة تتولد القوة"، فإذا تَخلّف الفعل، كان ذلك دليلاً على تخلف الإرادة، إذا ثبت وجود القوة في مظانها من قبل.
ونحن لسنا بالسذاجة السياسية أو التغفيل السياسيّ الذي يقول بأنه يجب إلغاء معاهدة العار دفعة واحدة اليوم، أو الهجوم على إسرائيل أو شئ من هذا القبيل، فإن ذلك يكون من قبيل الإنتحار المؤكد، إذ إن الجيش في أسوأ حال بعد عملية هدم مستمرة له دامت أكثر من ثلاثين عاماً منذ تاريخ تلك المعاهدة. ولسنا، بأي حالٍ من الأحوال في وضع "أعدوا لهم ما استطعتم"، ولا قريب منه. إنما الأمر أمر إتجاه عام للدولة، ينفصل بها عن السياسة الأمريكية الصليبية تدريجياً، وهو ما لانراه في سياسة جمهورية محمد مرسى، بل نراها تسير في إتجاه التعاون الوثيق مع أمريكا، كما كان الأمر دائما في استراتيجيات الإخوان.
إنّ القوى الرئيسة التي تقف في وجه الدولة الإسلامية هي قوى العلمانية، سواءً من السياسيين أو رجال الأعمال أو الإعلام، من الفلول ومن أركان الدولة الفاسدة، التي لازالت دعائمها قوية، ولازالت تطل برأسها من الصحف العلمانية، الدستور والوفد والشروق واليوم السابع وغيرها، وفي الفضائيات الخسيسة المتعددة، على ألسنة كِلاب الإعلاميين المَلاحدة. وهؤلاء ليس لهم قاعدة شعبية، إلا قليلا من المُغرر بهم من طلبة الجامعات، والشَباب الضّائع في متاهات "الثقافة" الغربية، وأتباع ما يسمى بالمنظمات المدنية التي تمولها القوى الصليبية الغربية.
ستظل القوى الإسلامية إذن تنشر دعوتها إلى التوحيد، وإلى نَبْذ الشّرك الجَمعيّ المُجتمعيّ الذي يَتغاضى عنه الإخوان، ومؤسسة الرئاسة، على أنّه معصية، أو على أنه تَدرجٌ في تطبيق الشريعة، أو ما شئت من الأعذار التي لا تثبت بدليل ولا عقل. وعلى تلك القوى أن تتوقع مقاومة عنيفة من السلطة الحاكمة، كما كانت في عهد مبارك، إذ القاعدة الحُكْمية في كلا النظامين واحدة، وهي الشِرك بين شَرع الله وشَرع غيره.
وإنّ على هذه القوى أن تبدأ في التفكير الجِديّ لكيفية التعامل مع جمهورية محمد مرسى القادمة، وهي كلها خيارات لا تخرج عن أحد ثلاثة مواقف، التعاون، أو الترقب، أو المُعارضة، وهو ما سنتناوله في موضعٍ آخر إن شاء الله تعالى.
ثم بينَنَا وبين جمهورية محمد مرسى الدستور، فإنّ دستورنا الكتاب والسنة، ودستورهم ما تخرُج به تأسيسية حُسام الغرياني! بلا سياسة ولا يحزنون.