فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      نظراتٌ في سورة الأنبياء (1)

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      سورة الأنبياء، سورة مكية (إلا آية واحدة)، من السور المتقدمة، التي نزل بها الوحيّ على الأمين المصطفي صلى الله عليه وسلم، لذلك روى إنها من تلادي (كما في البخاري)، أي التِلاد الراسخات، قبل نزول المُطولات من السور المدنيات. 

      وحين تتلو سورة الأنبياء، تترائ لك فيها كل صفات القرآن المكيّ، من حديثٍ عن التوحيد، وآيات الله في الكون والخلق، ورسالات الرسل والإشهاد على الناس بالرسالات، واليوم الآخر، مع تراخٍ وإطالة بسيطة في وقعها، تناسب موقعها من الوحي، إذ تلت الصدع بلا إله إلا الله، وتنزّلت بعد الآيات المَكية القصيرة كالعَلق والكافرون والضُحى والعصر والماعون، وغيرها من قصار السور. فهي إذن كحلقة وصلٍ وانتقالٍ بين القرآن المكيّ الصِرف، بآياته القصيرة السريعة كأنها طبول الحرب، وبين القرآن المدنيّ، الذي يحمل الإستقرار ويتناسب مع تأسيس النَظر والأحكام، وإنْ كانت موضوعاتها لا تزال تتعلق بالموضوع المكيّ في تقرير العقيدة وإحكام بنيانها، مثلها في ذلك مثل الطور والمؤمنون وإبراهيم وأشباههم من السور المكيات.

      وقد تناولت سورة الأنبياء ذكر عدد من أنبياء الله، هم، على سبيل الحصر، موسى وهارون، وإبراهيم، ولوط، واسحق ويعقوب، ونوح، وداود وسليمان، وأيوب، وإسماعيل، وإدريس، وذا الكفل، ويونس، وزكريا ويحي، ثم مريم، عليهم السلام.

      وقد كان من الحِكمة الرّبانية أن تتنزل سورة خاصة بالأنبياء، تذكر أحوالهم بشكلٍ مختصر سريع، في الفترة المكية، لتكون دليلاً على مبدأ النبوة الذي يشترك فيه أنبياء الله، وفي مقدمتهم محمد صلى الله عليه وسلم "وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًۭا نُّوحِىٓ إِلَيْهِمْ" ، وتقرير وحدة الرسالة التوحيدية "وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِىٓ إِلَيْهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعْبُدُونِ"، كما تكون فاتحة لما بعدها من سرد مطوّلٍ لقصص الأنبياء وتفصيل سيرهم. والتصديق بالنبوة هو حجر الأساس في بنيان الدين كله، إذ يمثل حقيقة الهدي الإلهيّ للبشر وحقيقة الوحى والكتب والرسالات، فبدونها، أي النبوة، لا يستقيم معنى للدين البتة.

      تبدأ سورة الأنبياء بتقرير حقيقة هائلة مذهلة، يكاد من يَعيها أن يسقط من الرهبة والخشية " ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍۢ مُّعْرِضُونَ". ياالله، ما أشدّ هذه الكلمات على قلوب المؤمنين، وما أصدقها في واقع الكافرين. اقترب الحساب، ولا زالت القلوب غافلة مُعرضة! أمران لا يستقيمان في عقل عاقل. وانظر إلى طريقة التعبير القرآنيّ في نسبة الحِساب إلى الناس "حِسَابُهُمْ"، إذ يوحى أنه قرينٌ ملازم لهم، لابد واقعٌ بهم. والغفلة والإعراض قد يظهر أنهما لا يستقيمان معا، فالمُعرِض لا بد أن يكون على معرفة بما أعرض عنه ليصح وصفه بالإعراض، والغافل لا يكون معرضاً. لكن التعبير القرآنيّ يتجاوز هذه التفصيلات اللغوية، ليخلُص إلى لبّ المسألة، فيجعل بين الإعراض والغفلة ما بين السّبب والنتيجة، أنهم معرضون عن الهَدي الإلهي، لا يتبعونه ولا يسيرون عليه، فهم ذاهلون إذن عما ينتظرهم من حسابٍ بلابد، إذ من أيقن بالحساب، لم يُعرض عن الهدي.

      "مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍۢ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا ٱسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴿2﴾ لَاهِيَةًۭ قُلُوبُهُمْ ۗ وَأَسَرُّوا۟ ٱلنَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ هَلْ هَـٰذَآ إِلَّا بَشَرٌۭ مِّثْلُكُمْ ۖ أَفَتَأْتُونَ ٱلسِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴿3﴾". وينتقل البيان القرآنيّ إلى التأكيد على ما قرّر من قبل، أنهم كلما أتاهم ذكرٌ من الله سبحانه، يحمله لهم نبيّ من أنبيائه، استمعوا له استماع اللاعب اللاهي، المشغول بدنياه، قلباً ويداً، لا محل في قلبه لهدى بعد أن احتلته الدنيا بألعابها وألاعيبها، من مقتنيات وعوارض ومتع. ولا يخفى عليك مناسبة هذا المطلع لموضوع السورة، الأنبياء الذين يحملون الذكر من ربهم إلى الناس، فهو خير ما يُهيأ المرء لما يأتي من بعده من أخبار هذا الذكر المُحدَث، المتوالي مع الزمن، لكل قوم.

      وهي عادة كلّ كفارٍ عنيد، لا يواجه كُفره بصراحة وجرأة، بل يتلوّن في رفضه بألوان زَمنه. هؤلاء الظالمين يتسارّون بينهم بأن سبب لعبهم ولهوهم وإعراضهم عن الذكر المبين، أن من أتى به من الأنبياء بشرٌ كالبشر، ليس مَلكاً، وليس بشراً فريداً مميزاً، بل هو "بَشَرٌۭ مِّثْلُكُمْ"، فإن كان مثلكم فكيف يتفضل عليكم، وبماذا؟ أتقبلون هذا السحر الذي يأتون به، من أي لون يأتون به، كلاماً أو وحياً وكُتباً أو غير ذلك، وتشاركوهم فيه، ليلفتوكم عن الحقائق الثابتة التي بين أيديكم، من علمٍ ومعرفة حسيّة، أنتم تبصرونها بأعينكم "وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ"، لا والله لن يكون أبدا أن يقبل أهل العلم (العلمانيون)، بما يقول أهل الوحى (المؤمنون)، ففى هذا تقليل من قيمة العلم، إذ كيف يتبع العلم المتبصر السّحرَ؟

      هكذا يتملّص هؤلاء الملاحدة، الذين كفروا بربهم من تَبعات الإيمان، بأن رفضوا إتبّاع الرسل، وإتباع من يحمل رسالة الرسل من الدعاة إلى الله من بعدهم. وهي حجة الكفرة في كلّ عصر وزمان، أن نحن على الحق، لا هؤلاء "السحرة" الذين يريدون أن يلفتونا عما يصل بنا إلى حقائق الأشياء، وإلى النهضة والعلاء.

      لكن، حسب هؤلاء، وهم يُسرّون نَجواهم، ويتخافتون بها، ويلبسونها لباس الكذب والخدعة، فى تجمعاتهم ومؤتمراتهم، أنْ قد خدعوا المؤمنين، وأنْ قد ظفروا بالغطاء اللازم لدعوتهم الشريرة الكافرة، لكن يأتى الرد حاسماً سريعاً دقيقاً، أن لا فائدة من التَسارّ بالنجوى، "قَالَ رَبِّى يَعْلَمُ ٱلْقَوْلَ فِى ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ ۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ﴿4﴾". نسى هؤلاء المخدوعون أنّ الله لا يخفى عليه قول في السماء ولا في الأرض، يسمع ويعلم لا كسمعنا ولا كعلمنا، بل هو علمٌ وسمعٌ يحيط بكل شئ، فلا يترك حبة من خردلٍ تتوه دون علمه. حسب هؤلاء أنهم إن تخافتوا في مؤتمراتهم، فيما بينهم، أن هؤلاء المسلمين يريدون أن نسمع لسحرهم الذي يتلونه ليل نهار، ويسمونه القرآن، لكن لن نتبع هذا السحر، طالما نحن نتبع علمانيتنا المتنَورة التى ترفض السحر وتزْدريه، حسِبوا أنّ لم يسمعهم أحد وأن لم يحصى عليهم كلماتهم أحد. وهذا من تمام ضَلالهم وكمال غِيّهم وغُرورهم.

       

      يتبع بعون الله تعالى